المنشورات

لغة القرآن:

الأصل فيمن نزل القرآن بلغتهم، قريش، وقد سلف لنا في مبحث اللغة1 كلام في معنى الإصلاح الذي خلصت به لغتهم إلى التهذيب، وكيف واروا بينهم في لغات العرب ممن كان يجتمع إليهم من الحجيج أو ينزل بهم من العرب في كل موسم ومتسوق. وكان طبيعيا أن يكون القرآن بلغة قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشي, ثم ليكون هذا الكلام زعيم اللغات كلها كما استمازت قريش من العرب بجوار البيت، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وغيرها من خصائصهم؛ وقد ألف العرب أمرهم ذلك واحتملوا عليه وأفردوهم به، فلأن يألفوا مثله في كلام الله أولى.
وهذه حكمة بالغة في سياسة أولئك الجفاة وتألفهم وضم نشرهم، فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب ألبتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيى، ثم كانوا لا يعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات، كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريش ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رءوسهم عن الإصغاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وكاهن وشاعر، ومجنون. وتقولوا من أمثال ذلك يبتغون به أن يحدثوا في قلوب الناس لهذا الأمر خفة الشأن؛ وأن يهوّنوا عليهم منه بما هونته العادة، وهم كانوا أعلم بعادات القوم وما يبلغ بهم، حين قعدوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
وههنا أصل آخر، وهو أن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيهون ذلك على قريش, ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبا من القول فيه، فتنشق الكلمة, ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته.
وإنما وطأنا بهذا النبذ من القول؛ لأن طائفة من الناس يذهبون إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير القرشية، لكان ذلك وجهًا من إعجازه تلتمس به الحجة ويستبين الظفر، ولخلي عنه العرب فترة وعجزًا, وهو زعم لا يقول به إلا أحد رجلين: من يدري كيف يقول، أو من يقول ولا يبالي أن يدري أنك مطلع منه على جهل وسفه.
ولما كان الوجه الذي أقبل به القرآن على العرب وجه تلك البلاغة المعجزة، فقد كان من إعجازه أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغات العرب جميعًا، وإنما سبيل ذلك من لغة قريش. وهذه اللغات وإن اختلفت في اللحن والاستعمال، إلا أنها تتفق في المعنى الذي من أجله صار العرب جميعًا يخشعون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم، وهذا المعنى هو مناسبة التركيب في أحرف الكلمة، الواحدة، ثم ملاءمتها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساق الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون الذي يصب في الأذن صبا، فيجري أضعفه في النسق مجرى أقواه؛ لأن جملته مفرغة على تناسب واحد.
وقد استوفى القرآن أحسن ما في ذلك اللغات من ذلك المعنى، وبان منها بهذه المناسبة العجيبة التي أظهرته على تنوعه في الأوضاع التركيبية مظهر النوع الواحد وهي مناسبة معجزة في نفسها؛ لأن التأليف بين المواد المختلفة على وجه متناسب ممكن، ولكن التأليف بينها على وجه يجمعها ويجمع الأذواق المختلفة عليها كما اتفق القرآن, أمر لا يقول بإمكانه من يعرف معنى الإمكان, وسنفصل ذلك في موضع هو أملك به متى انتهينا إلى القول في حقيقة الإعجاز.
أما اللغات التي نزل بها القرآن غير لغة قريش، فهي لغة بني سعد بن بكر الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعًا فيهم، وهي إحدى لغات العجز، من هوازن، ثم سائر هذه اللغات وهي جشم بن بكر، ونصر بن معاوية وثقيف، وتلك هي أفصح لغات العرب جملة، ثم خزاعة، وهذيل، وكنانة، وأسد وضبة، وكانوا على قرب من مكة يكثرون التردد إليها ومن بعدهم قيس وألفافها التي في وسط الجزيرة1.
قال بعض العلماء: وقد كانت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} أي: لا ينقصكم بلغة بني عبس، ونقل الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر أن في القرآن من أربعين لغة عربية، وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وتميم، وكندة، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعمر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة. ا. هـ.
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك؛ لدروس هذه اللغات وتداخلها وتقطع أسباب المقارنة بينها وبين لغة قريش التي مضوا على استعمالها بعد القرآن وأطبقوا عليها، والعلماء إنما يذكرون من أكثر هذه اللغات في القرآن الكلمة والكلمتين، إلى الكلمات القليلة؛ وانظر أين يقع مبلغ ذلك من لغة بجملتها؟
ولقد ائتلفت لغة القرآن الكريم على وجه يستطيع العرب أن يقرءوه بلحونهم وإن اختلفت وتناقضت؛ ثم بقي مع ذلك على فصاحته وخلوصه؛ لأن هذه الفصاحة هي في الوضع التركيبي كما أومأنا إليه آنفًا، وتلك سياسة لغوية استدرج بها العرب إلى الإجماع على منطق واحد ليكونوا جماعة واحدة، كما وقع ذلك من بعد؛ فجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام، كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام؛ وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم، وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهمو وعنهمو، وإلحاق الياء في إليه وعليه وفيه، ونحو ذلك، فكان أهل كل لحن يقرءونه بلحنهم.
وربما استعمل القرآن الكلمة الواحدة على منطق أهل اللغات المختلفة فجاء بها على وجهين لمناسبة في نظمه: كبراء، وبريء، فإن أهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، لا يعدونها، وتميم وسائر العرب يقولون: أنا منك بريء، واللغتان: في القرآن. وكذلك قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن الأولى لغة قريش؛ يقولون: أسريت؛ وغيرهم من العرب يقولون: سريت، وهذا باب من اللغة لم يقع إلينا مستقصى؛ ولكن علماء الأدب ربما أشاروا إلى بعض ألفاظه في كتبهم، كما تصيب من ذلك في "الكامل" للمبرد وغيره1.
وبالوجوه التي أومأنا إليها تختلف القراءات على حسب الطرق التي تجيء منها؛ فالناقلون عمن قرأ بلغة قبيلة ينقلون بتلك اللغة في الأكثر، ولذا قيل: إن القراءات السبع متواترة فيما لم يكن من قبيل الأداء أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها فغير متواتر، وهو الوجه المتقبل.
ولقد أحصى علماء القراءة في كتبهم ما ورد من ألفاظ القرآن على أحد تلك الوجوه، ومن قرأ بها كلها أو بعضها من الأئمة، وهي عناية ليس أوفى منها، ولا يعرف من مثلها لغيرهم ولغير أهل الحديث في أمة من الأمم: غير أنهم -عفا الله عنهم- أسقطوا من كتبهم كل ما يتعلق بالنسبة التاريخية في اللغات نفسها، إلا ما لا حفل به، وقد أشبعنا القول من هذا المعنى ومن الحسرة عليه في باب اللغة من التاريخ، ولكن القول منهم لا يزال يشره فيسيل به لعاب القلم, كلما توهم لذة الفائدة وطعمها!. 











مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید