المنشورات
مفردات القرآن:
وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس.
وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلًا؛ جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان رحمه الله يقول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه.
ولقد كان رضي الله عنه يجلس بفناء الكعبة ثم يكتنفه الناس يسألونه عن التفسير وثبته من كلام العرب، وأسئلة نافع بن الأزرق التي ألقاها عليه وأومأنا إليها في باب الرواية من تاريخ آداب العرب مشهورة، وقد أجابه عليها ابن عباس، واستشهد لجوابه بنيف وتسعين بيتًا من الشعر العربي الفصيح، فلا نطيل بسردها؛ فإن الكلام يتسع بما لا فائدة منه إلا معرفة الألفاظ وتفسيرها1.
ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يخرجها مخرج الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان، ونحوها مما نقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدثة، أو يكون سياق الألفاظ، قد دل بالقرينة على معنى معين غير الذي يفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: فإذا بيناه فاعمل به.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يسمون فهم هذا الغريب "إعراب القرآن" لأنهم يستبينون معانيه ويخلصونها؛ وقد روى أبو هريرة في ذلك: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" وبهذا الأثر ونحوه مما تأتي فيه لفظة "الإعراب" زعم طائفة من أبناء الطيالسة2 وطائفة من قومنا الذين في قلوبهم مرض، أن اللحن -أي: الزيغ عن الإعراب- كان يقع من الصحابة في القرآن لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ضلة من القائلين، وذهابًا إلى معنى "الإعراب" النحوي، ثم غفلة عن لغة الاصطلاح، والاصطلاح في أهله ضرب من الوضع: لا يحمل على كلامهم غير ما حملوه عليه.
وكذلك عد العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن؛ لأنه لا يسد مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الأول، فيكون قد خاطب العرب بما لم يوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء؛ لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة.
ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في نفسها أنه لا يوجد غيرها يغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفرادًا ولا تركيبًا، وهو قول يحسن بعد الذي بيناه.
ومن ألفاظه ما يسميه أهل اللغة بالوجوه والنظائر، والأفراد.
أما الوجوه والنظائر فهي الألفاظ التي وردت فيه بمعان مختلفة: كلفظ الهدى، فإنه فيه على سبعة عشر وجهًا، بمعنى: الثبات، والدين، والدعاء، ونحوها. ومن هذه الألفاظ: الصلاة، والرحمة، والسوء، والفتنة، والروح، وغيرها. وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن وسياسة القرينة في العربية شريعة من شرائع الألفاظ.
وأما الأفراد فهي ألفاظ تجيء بمعنى مفرد غير المعنى الذي تستعمل فيه عادة، ولابن فارس في إحصاء هذا النوع كتاب قال فيه: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن، إلا قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فمعناه: أغضبونا. وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب, إلا قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فهي القصور الطوال الحصينة, وكل ما فيه ذكر البر البحر؛ فالمراد بالبحر: الماء، وبالبر: التراب، إلا قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالمراد به البرية والعمران. وعد من مثل ذلك هو وغيره أشياء؛ فهذا ما يسمونه في لغة القرآن بالأفراد.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)