المنشورات
الجنسية العربية في القرآن:
لك بعض ما تناصرت عليه الأدلة واجتمعت على صحته، من تأثير القرآن في اللغة وما أصلح الله لأهلها في هذه البقية، حفظًا لكتابه، وإظهارًا لوجه من وجوه إعجازه الخالدة؛ ولكن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما تقول فيه من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجارًا في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية، في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشد بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا انضموا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما إن يزالوا في التاريخ مرة أضوله، ومرة فصوله، وإن لم يقوموا أحيانًا بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها، ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها.
ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردها من الفائدة، فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب هذا العالم كما سيأتيك. بيد أن سبيل ذلك من اللغة، فإن القرآن تنزل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية، إذ كان بما احتواه من الأساليب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفرق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألوا عما يدنيها إليه معالجة واكتسابًا؛ ولو أنهم تمالئوا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعاديًا في الرأي؛ وتباعدًا عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصًا فطريا وهو يحسبه كمالًا، ويبعد الكامل على حقيقة ما يلتمسه من الكمال بعد أن يرى غيره قد حسبه نقصًا؛ لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان، ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق، وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن.
تلك سياسة هذا القرآن: جمع العرب لمذهب الأقدار وتصاريف التاريخ, رأى ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة, فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها؛ فإن كل أمة تستفيد عقلها الحاضر من ماضيها، لتفيد مستقبلها من هذا العقل بعينه، فلما استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم، وطرحت عليها نقائصها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها؛ فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة، وراءها خيوط من الأعنة؛ حتى أصبح تاريخ الأرض عربيا، وصار بعد الذلة والمسكنة أبيا، واستوسق لهم من الأمر ما لم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب، حتى كأنما زويت لهم جوانب الأرض، وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها؛ لا غزاة يفتحونها؛ فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره, ولا يكاد يشير إلى "قطر" من أقطارها إلا أراك كيف تدور عليه "الدائرة".
وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه، فإنما هو أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءًا كضوء الصواعق، وحركة كحركة الزلازل، وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض، فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة، أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء1 نفضت على الأرض جنودًا عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل، وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب، ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها، إذ كان لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها ... ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونههم، حتى لأحسبهم
إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض, وكان أهل السَّرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها.
وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن، بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها؛ لأن القرآن هو صفي تلك الطباع، وصقل جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة. فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفًا من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم.
ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها، وصرفها في وجوه معانيه -ما بلغ من القوم رأيًا ولا نية، ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم- ما يذهب به جملة ويمسح أثره في القلوب، ولا يدع له مساغًا إلى ما وراء السمع؛ لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب، وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة، ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى، كلها فصيح وكلها بيان، وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها، وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك؛ وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن أخلاقها وعاداتها. ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة؛ فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كأنما هي ليست من لغة أحدهما، فلا تبلغ منه ولا تمسه، كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من الكرم يلقاها جواد وبخيل.
أنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلت تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك من الخواطر إلا ما أحكمه العقل, فإنك واجد منه سبيلًا إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالعنف محضًا بعد اللين ممزوجًا، حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم، بل ردد ذلك وكرره، وعمهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم؛ وهاج منهم حمية الجاهلية، وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى؛ وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواة في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال؛ ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا!
لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير؛ وإلا فما بال هؤلاء العرب قد خرجوا من تاريخهم بعد الإسلام كأنما نزعوا جلدتهم نزعًا، على حين كانت لهم الأمور المطمئنة، والصفات المتوارثة؛ من أخلاق شبوا عليها، وعادات ينازعون إليها، وطبائع هم بها أخص وهي بهم أملك، ولم يكونوا مقطوعين عن التاريخ، بل كان لهم ماض أحسن ما تكلف به الأمم، وكانوا عليه أحرص ما تكون أمة على ماضيها -كما نصفه في غير هذا الموضع- فلا الزمان تولاهم بعمله وهدم في أرضهم بمقدار ما بنى أو قريبًا من ذلك، ولا هم ورثوا طباعًا من طباع وأخلاقًا من أخلاق وخرجوا من ماضيهم كما تخرج أمة من أمة في سلسلة طويلة الذرع من حلقات الأجيال التي هي درجات للنشوء في تاريخ كل مجتمع، ولا رأيناهم فيما وراء ذلك كالشعوب التي تمخضها الحوادث مخضًا شديدًا، وتتعاورها بالحروب والفتن، فتهدمها أنقاضًا ولا تبدل منها إلا الشكل الاجتماعي، وإلا هيئة الوضع، والأمة بعد ذلك هي هي كيف هدمت وكيف بنيت: لا تزال على أعراقها وأخلاقها، وربما عصفت الثورة الكبرى بأمة من الأمم، وألحت عليها بالفتن دائبة، ثم تسكن العاصفة، وتقر الزلزلة، وتطمئن الأرض وأهلها، ولا يكون من جداء ذلك كله إلا اصطلاح لغوي في تاريخ الأمة لا يغني من الحق شيئًا؛ كأن تكون الأمة غريرة جاهلة مستبدا بها على وجه من الاستبداد، ثم تصير بعد الثورة غريرة جاهلة أيضًا، ولكن في استبداد على وجه آخر!
فالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلة الزمان في عمله وآثاره؛ لأن الذي أنزله بعلمه وقدره بحكمته إنما هو خالق الزمن نفسه، فهدم في نفوس العرب، وكان هدمه بناء جديدًا جعل الأمة نفسها قائمة على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ؛ وهذا هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي, وبين شيء يسمى ممكنًا وشيء يسمى معجزًا.
بلى، ولقد يخيل إلي أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرءوس, فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة، ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة، وكل ما يجيء من قبل الطبع وعلى حكم الفطرة لا يراه أهله نظرًا يقبلونه أو يردونه، ولكنهم يرونه ضرورة مقضية ليس لهم على حال بد من قبولها. وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لا يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم، ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض؛ ولم يتخذوا السيف نابًا إلا ليأكلهم، ولا الحرب ضرسًا إلا لتمضغهم.... وكانا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية.
ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت، إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الطود الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين، إن يكن منها فهو لعمرك استخذاء، وإن كان من الجبل فهو لعمري استهزاء....
ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها1 إلا عصبية الروح2، إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم، وساوى بين نفوسهم، وأجرأهم على المعدلة في أمورهم، فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت؛ لأنها لا توجهه إلا لله، فكان بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية، فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة، ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد، وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلًا إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها، على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم التربية في الأمم بأبدع منها.
فأما التوفيق بين مذاهب قلوبهم؛ فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير، وأما التأليف بين ألسنتهم فيما ذهب إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر، ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظًا وحفظًا وأداء، لا يجد إليه التبديل سبيلًا، ولا يأتيه الباطل موجهًا أو محيلًا، ولا يدخله التحريف كثيرًا أو قليلًا، بحيث كأنه عقدة لغوية لا تحلل منها الألسنة المختلفة أبدًا؛ وهذا من أرقى معاني السياسة، فإن الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق؛ وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها، فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد، وفيها كذلك التغرير والخطار، والكذب والخداع، ولكل من أهلها شرعة ومنهاج.
فبقاء القرآن على وجهة العربي، مما يجعل المسلمين جميعًا على اختلاف ألوانهم، من الأسود إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد، فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه، وانتفى من صفته الطبيعية؛ لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله، إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه.
وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى: فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال، ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة، ولا يؤثرون عليه رضى، ولا يعدلون به عدلًا، ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله، ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه، ثم هم لا يرون أنفسهم المؤمنة في إحساس الفطرة، ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها "أي: الأرض" ويشبه بعضها بعضًا بالصفة والخاصة أني وجدت وكيف اتفقت وعلى أي حالة كانت، وهذا كله مشاهد فيهم على أتمه وأبلغه، بعد كل ما رهقهم بالعجز عن مداولة الأيام، وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام.
على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسونه، ولا يتصلون إلى سببه، وكأنما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم، وقد بقي القرآن على ذلك معروفًا مجهولًا، ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .
وإن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن: أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية؛ من الأنفة والعزة والصوت1 والغَلَب: وما يكون من هذا الباب الاجتماعي الذي لا يزال يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض2.
كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غمرهم، وكانوا أهل ذمتهم: لانتحالهم العربية طوعًا أو كرهًا، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت؛ ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة، ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية، بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ، وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها، حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط، ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعيًا أو ملتهمًا, ثم لا يمكن لهم من دينهم، ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استحقاقهم بالأمة التي وثبت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد، فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان، ولا تشدد للسان خذله القلب، ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم، وتلك سنة من السنن {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن، وهو بعد زمام السياسة مهما جمحت في الأرض.
ولقد ترى اليوم هذه التوراة وهذه الأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصلية إلا شرذمة قليلة من اليهود وغير اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة, ولا نرين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد، ثم استبدلت الألسنة واللغات بهذه الكتب، فهي شريعة ولا هي جنسية جامعة، وإنما نراها في كل أمة من الأمة نفسها، ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها، وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرءون فيها إلا إذا أرادوا الاستغراق في رؤيا تاريخية، والعارف عارف من يثبت فصولها ومعانيها، أو يعرف ذلك فضل معرفة.
وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية "الغوط" وبين صنيع العرب، فإن أولئك أغاروا على إيطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا أن ملكوها حتى ملكتهم، إذ تركوا أهلها وعادتهم من اللغة -وغير اللغة- ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية، حتى رغبوا في العلم، فاستجادوا المهرة من علماء الرومان، ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها، فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية، وهم قرءوها بها وأقروها عليها، فذهب غوطيتهم وذهبوا على أثرها، وأدالت اللغة الرومانية لأهلها منهم، فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا في لغة قبلها! ألا فأقبل أنت على هذا المعنى وتدبره حتى تحكم ما وراءه، فلقد تركوها آية بينة!
وبعد، فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض.... ولن تلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها، واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق، وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد، إذ تعلق الدين والسياسة معًا بفرع واحد من الفروع، هو الذي نقلت إليه التوراة، فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هي معه إلى زيغ حتى انطوت في ظله، ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي، ونسيت نسيان الميت.
وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان: الإنكليزي، والهولاندي، وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر، ثم أناف الإنكليزي حتى صار ما عداه من ظله، وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت في الأرض الجرماني، كالأسوجي والأيسلندي وغيرهما.
واللاتينية، فقد استفاضت في أوروبا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهًا في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.
فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي؛ حتى صارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا ... لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادة العقل بل مادة الحياة؛ وقد يكون العقل في يد صاحبه يضمن به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية زمنًا بعد زمن1، ولخرجت بها الكتب، ولكان من جهلة الملوك والأمراء، وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي, من يضطلع من ذلك بعمل، إن لم يكن مفسدة فمصلحة يزعمها، كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية، حتى خرج منها اللسان الطلياني، وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي، وهو العامي من اليونانية. ولولا أن أحدًا استقبل من ذلك شيئًا وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمرًا بعض ما فيه العنت كله والضياع بجملته، ولشق على نفسه في بلوغا إرادة لها من شعور كل نفس عدو، حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس في بدء؛ لأن له مدة نفسه وحدها1 وللناس عمر التاريخ كله؛ ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين، وأراد أن يتولى عمل التاريخ، فليس بدعًا أن يجعله التاريخ بعض عمله؛ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
16 ديسمبر 2024
تعليقات (0)