المنشورات

آداب القرآن:

ونحن الآن تلقاء نوع آخر من الإعجاز الأدبي، وهو ضريب تلك المعجزة السياسية التي أومأنا إليها في الفصل المتقدم، وسنقول فيه على وجه من الإيجاز والتحصيل، فإن آداب هذا الكتاب الكريم إنا هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع أنى وجدت وحيث تكون. إذا لم يراوغ الناس معنى الإنسانية في أنفسهم، ولم يتمنوا فيها الأماني الباطلة، ولم يصدموها بالعنت بين كل رغبة ورغبة وبين كل رأي ورأي؛ لا ترى أن أمة تفضل حتى تضيق هذه الآداب عنها، أو قبيلًا يلتوي حتى تكون منه بمقصر، أو قومًا يصلحون حتى لا تصلح لهم، فإنها بعد آداب الفطرة التي لا تتغير في هذا الخلق، على ما بين طوائفه من التباين، وعلى الضروب المختلفة من أساب هذا التباين وعلله، مما ترجع جملته إلى تنوع الصور النفسية العامة التي تنشأ من الأفكار والعادات وما إليها من الأجزاء التاريخية التي تجتمع منها الأمم، وتنشأ منها قواعد الحكم وضوابط الاجتماع ونحوها من الكليات التي يتألف تاريخ الأمة من آثارها.
ولا شيء يشبه نظام هذه الفطرة في تسويتها بين الناس على ما وصفنا من أمرهم، إلا نظام الجاذبية في تأليفه بين الأجرام المتفاوتة وإمساك جملتها على اختلاف ما بينها وتباعدها فيما وراء ذلك؛ وليس نظام الجاذبية في التسبب لإصلاح العالم الكبير إلا شبهًا من الفطرة النفسية، ولا نظام هذه الفطرة في الإنسان الذي هو العالم الصغير إلا شبهًا من تلك الجاذبية, وكلاهما يغني شأنًا أراده الله من خلق السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وقد خرج الناس من أصل واحد ولا تزال طبيعة الحياة فيهم واحدة، فكل ما أمكن أن يرجع إلى النفس الإنسانية ونظامها فهو في أصله وطبيعته شيء واحد وجنس متميز، وإنما الذي يتغير في الإنسان مظاهر فكره، إذ هو يستمد هذا الفكر مما يتقلب عليه من الحوادث، ومما يريغه من الأمور؛ وذلك شيء ليس في الناس على قدر واحد ولا صفة معينة ولا أمر مستقر، لا يغادر الدهر أن يزيد بسبب وينقص بسبب، والناس بعد ذلك متفاوتون فيه بالزيادة والنقص جميعًا. فما كان من الآداب الاجتماعية
ناشئًا من العادة التي هي بعض مظاهر الفكر، فهو كالعادة نفسها: يدور معها ويتغير بحسبها؛ وما كان منها راجعًا إلى طبيعة النفس التي هي مصدر الفكر، فهو يشبه أن يكون طبيعة للاجتماع الإنساني وعلى مقدار ما فيه من قوة الملاءمة لطبيعة النفس أو ضعف هذه الملاءمة يكون ضعف الحياة الأدبية فيها أو قوتها.
وما يزال أمر الآداب الصحيحة في كل جيل من الناس يرمي إلى غاية بعينها من الإنسانية المطلقة التي لا تحد بألوان المصورات1 كما تفصل حدود الأمصار والممالك، فإن الله لم يلون الناس تلوينًا جغرافيا. وذلك مما يدل على أن نوعًا من الإنسان لا تجزئه شرائع أرضه وعاداتها عن الآداب النفسية التي تجعل الفرد إنسانًا من الناس قبل أن تجعله تلك الشرائع وتلك العادات فردًا من أمة، فإن فصل ما بين حق الأمة على الفرد من أبنائها، وبين حق الآداب عليه؛ وهو أن كل أمة تريد أفرادها على أن يكونوا أبدًا مع الحال التي تتفق بها مصلحة على وجه أمرها، وإن كان في ذلك المفسدة وكان فيه معنتة ومأثم، وكان فيه كل ظلم للإنسانية ومراء في الحق وإصرار على الباطل؛ وأن لا يدعوا لها سبيلًا إلا ركبوه، ولا هوى إلا حطوا فيه، ولا منفعة إلا هدموا دور جيرانهم ليفتحوا بابها، ولا حاجة إلا قطعوا أسباب حلفائهم ليعترضوا أسبابها، فإن هذه الإنسانية وهذا الحق وذلك الباطل ليست غير أدوات سياسية تعمل في تحريك كل مجموع سياسي يسمونه الأمة؛ وقلما تتخذ السياسة لها فعلًا إذا أرادت أن تضرب في الأرض، إلا من "جلود" القوانين الممزقة.
غير أن الآداب على الفرد أن يكون أبدًا مع الحق، لا مع الحالة التي تسمى حقا في لسان من تنفعه وباطلًا في لسان من تضره, إذا الحق في اعتبار الآداب ما كانت في مصلحة الإنسانية نفسها باعتبار النظام الذي يعمها، لا مصلحة جزء منها باعتبار النظام الذي يخصه؛ ومبدأ الإنسانية قائم على أن الله لم يخلق إلا صنفًا واحدًا من الناس، ولكن مبدأ كل أمة سياسية أنها هي ذلك الصنف الواحد.
فلولا الآداب النفسية في طبائع الإنسان، وما تمكنه من صلات الناس بعضهم ببعض، وما تعطف منهم جماعة على جماعة، وما تطلق من حد المساواة، وما تحد من معنى الجزية، لكان وجه الأرض قد تغير بما يشملها من الفوضى الإنسانية، ولانتقض أمرها، ثم لكانت الشرائع نفسها أشد في إفسادها من الفساد كله، ثم لصارت كل أمة كأنها جنس من الحيوان: في قيامه بنفسه، وانفراده بنوعه، وتميزه بالعداوة لغيره، فههنا آكل وههنا مأكول؛ فإذا العالم قد أودى وقطع دابر القوم الذين ظلموا.
والشريعة في الجملة لا تعدو أن تنزل من كل مجموع من الناس منزلة المرشد المصرف للأفعال على جهة بينة من الحكمة، وطريقة لائحة من المنفعة؛ فهي في الحقيقة عقل هذا المجموع الذي يعقل به وينقاد لأمره، ثم هي بعد ذلك من المنزلة في نفسها بحسب ما تبلغه من الوفاء بأسباب السعادة، والكفاية بحاجات الاجتماع، إلى سائر ما تشبه فيه العقل الإنساني شبهًا تاما ونعتًا محققًا. ولكن الآداب تتنزل من المجموع منزلة النفس الإنسانية التي بها الحياة، والتي هي الكفيلة دائمًا بتحقيق النسبة بين العقل وبين أغراضه المعقولة وبين الأشياء التي هي مادة هذه الأغراض.
فالآداب لا تكون في الإنسان إلا شرائع، ولكن الإنسان إذا عري من الأدب النفسي، فربما شرع لنفسه ما لا يصنع الشيطان أخبث منه بل ما يركض فيه الشيطان ركضًا؛ وقلما انتفع من لا أدب له بشريعة من الشرائع وإن كانت في الغاية التي لا مذهب وراءها في تهذيب النفس ودرء المفسدة عنها بحسم مادتها أو ما سبيلها أن ترد به، ومن تقويم الطباع، وتثقيف الأخلاق، وتثبيت الإرادة، وتعيين الحد النفسي لكل منزع إلى الخير وإلى الشر، حتى تستوضح للمرء مذاهب نفسه، فيمضي إذا مضى على بينة، ويعدل إذا عدل عن بينة1. وانظر ما عسى أن يكون موقع الشريعة من نفس ترى أن كل هذه الآداب التي توجب لها المنافع على الناس مجتمعين لا توجب عليها للناس منفعة.
من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخلق الإنساني المحض الذي لا يضعف معه الضعيف دون ما يجب له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدب عقيدة لا فكرًا إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازغ كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عين الله لا تنفك ناظرة إليه من ضميره.
وبين أن الاجتماع إنما هو شيء روحاني، وأن الأمة لا تجتمع إلا بقوة من قوى التجاذب الروحي، تبنى عليها الأغراض الاجتماعية التي هي المبادئ الأولى في الحياة، وعلى حسب الصفة الروحانية التي يقوم بها الاجتماع، ثم قوة المادة الروحية فيها، يكون أمر هذا الاجتماع إلى القوة أو الضعف، وإلى الثبات أو الاضطراب، وإلى أن يكون مستحصدًا أو منتكثًا. وعلى قدر ما يفقد من صفته يفقد من نفسه، فإذا زالت تلك الصفة وانسلخ منها، تعاورته صفات المادة فصار كالشيء المادي الذي تعمل فيه كل الأسباب الظاهرة تركيبًا وتخليلًا، فلا يتصل الفرد بغيره من الأفراد اتصالًا ثابتًا لا تنفصم عروته، ثم لا يكون من الأفراد إلى مجموع فرد إلى فرد على هذه الصفة عينها، وما من شعب منحط إلا وهو مثال لهذا الاجتماع المادي الذي يمتاز أكثر ما يمتاز بالصفة العددية وما كان من أسبابها مما هو علة الضم، والضم وحده لا يغني في الاجتماع شيئًا.
وأنت إذا تدبرت هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجفاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت مها ذرة وقع وراءها عربي! بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داع للصنم وراع للغنم، وعالم على وهم، وجاهل على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إليهم أطرافها.
وليس من دليل في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلًا اجتماعيا كذلك الجيل الأول في صدور الإسلام، حين كان القرآن غضا طريا، وكانت الفطرة الدينية مؤاتية، وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقًا جديدًا، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعًا، والعلوم قاطبة، لم تنشئ جيلًا من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحق، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله.
وهذا على كثرة عديدهم، وترادف تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم؛ وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك، بل يجعل هذه الأرض مثال السماء؛ لأنه في نفسه مثال الملك.
وماذا تريد من علوم الأخلاق وعبر الاجتماع وفلسفة التربية وآداب السلوك وما إليها مما يبتغى ذريعة في كل وجه من إصلاح الإنسانية، إذا كانت كل هذه إنما تلتمس الناقص أو المعوج أو الفاسد، أو الضال، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصح إليه على طريق من الجدل والمدافعة والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغًا ولا تؤخذ إلا على أنها ثقاف ودربة وتمكين، وما كل الناس يحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا القيام، وهي بعد وإن كانت علمًا غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة ويشوبها الاجتماع ويفسد عليها الظن والتأول. فكل كتاب من كتبها خيال رجل كامل على الحقيقة؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجل في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة "اليمين" جميعًا؛ إلا أن تصيب ذلك في الفرط والندرة.
وإنما كان ما علمت، لقصور هذه الآداب عن استبطان حقائق الفطرة الإنسانية، والكشف عن دخائلها، واستنارة دفائنها، وتمثل مذاهبها النفسية على الوجوه التي تذهب إليها هي لا تلك الوجوه التي يمضي فيها النظر والتأمل والحدس والقياس والتنظير ونحوها من وسائل العلماء إلى الاستنباط والاستنتاج وإلى القطع والتقرير، حتى خرجت تلك الآداب من أن تكون آدابًا إلى أن صارت قضايا متداخلًا بعضها في بعض، وأقيسة يفضي بعضها إلى بعض، فصارت كالشيء المختلف الذي لا ينفك يخذل بعضه بعضًا؛ لحملها على العقل دون الخلق، واعتمادها على جملة الفائدة دون الطريقة التي تنتهي إلى الفائدة، وبذا ضعفت آثارها في النشء من دون الطفولة، فضلًا عن ذوي العنفوان من الأحداث ومن أغفال الرجال، إذ لم تمازج أنفسهم! ولا داخلت طبائعهم المتطلعة التي إنما يكون الشر بها شرا، فلم تثبت ثبات العادة، ولا أغنت غناء الدين، وبقيت التربية الطبيعية كما هي: للدين والعادة1.
وإنما انفردت آداب القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفت من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحيًا يوحى إلى كل من يفهمه ويقف عنده متثبتًا بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكر ويملأ الصدر عجبًا؛ وهذا تفسير ما جاء في الأثر من أن "من قرأه فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه".
وذلك -أي: ما وصفناه من شبه الوحي- ظاهرة التحقيق فيمن تدبر القرآن من أهل الذوق في اللغة والبصر بأسرارها والمعرفة بوجوه الخطاب والحنكة في سياسة المنطق، فكيف به في قوم كالمضرية من هذه العرباء: تنبع اللغة من ألسنتهم، وتجري الفصاحة على ما أجروها، وتنزل البلاغة على حقوقها وعلى أماكن حظوظها من حكمهم ورضاهم، وهم بعد ذلك من هم في تصريف القول والافتنان فيه، وسعة الحيلة في التأني لإبرازه واجتماعه على الغاية، حتى تعود الجملة الطويلة لفظًا واحدًا، والمعنى البعيد لحظًا قريبًا وحتى تصير حروفهم كنبض البرق في اشتماله ما بين أقطار السموات، على أنه إشارة ودون الإشارة؛ ثم كيف بذلك في قوم كأولئك العرب وهم كانوا من حس الفطرة بحيث يفسخ البيان عقد طباعهم، وينض قواهم المبرمة، ويرخي معاقدهم الوثيقة؛ بل كيف به يومئذ، وقد كانوا يأخذونه عن لسان أفصح خلق الله منطقًا، وأصحهم أداء، وأجملهم إيماء، وأبدعهم في الإشارة، وأبينهم في العبارة, وهو صلى الله عليه وسلم كان بينهم مظهر خطاب الله لأولي الألباب، وتفسير كل ما في القرآن من الأخلاق والآداب.
بذلك استطاع القرآن أن يؤلف من العرب -وكانوا بشرًا لا نظام لهم- أكبر جماعة نفسية عرفها تاريخ الأرض وفي تاريخها على حساب ذلك في روعته وغرابته وقوته وفائدته، إذ وجدت من آداب القرآن قلبًا اجتماعيا عاما استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والاعتقاد، وأحالها كلها فكرًا واحدًا يستمد قوته من الخلق الذي قام به لا من العقل الذي ينشأ عنه؛ وليس يخفى أن العقل هو مظهر تاريخ الأمة، ولكن الخلق دائمًا لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ، فلا جرم لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذ لم يكن قائمًا على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق.
وإنما صح هذا؛ لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ التي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها؛ لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين طبقات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد.
ولا يشتد القرآن الكريم في شيء فيجيء به على العزيمة القاطعة التي لا مساغ للعذر فيها ولا وجه للتعلل عندها، كما تعرف ذلك منه في الأخذ بالأخلاق الاجتماعية، فإنه لم يجعل في أمرها على الناس هويداء ولا رويداء، بل أمضاها وأعلنها ورفع من شأنها وجعلها من عزائمه، حتى لا يشك فيها من عسى أن يشك في غيرها، ولا يرتاب من ربما كانت الريبة من أمره، وحتى إنه لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأبلغ الصفات وأشرفها وأسناها، لم يزد على قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
فكان الأصل الأول فيه لهذه الأخلاق هو "التقوى"1. وهي فضيلة أراد بها القرآن إحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آياته القرآنية والاجتماعية؛ والمراد بها أن ينفي الإنسان كل ما فيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره، لتكون حدود المساواة قائمة في الاجتماع، لا تصاب فيها ثلمة ولا يعتريها وهن: وكل ما أصاب الاجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين بديا؛ لأن هذه التقوى هي مصدر النية في المؤمنين بالله، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالًا ولا تنفك متطلعة منازعة، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويغمضون في تقواه ويترخصون في زجره ووعيده، فكأنهم لا يبالونه ما بالوا أمر أنفسهم، وكأن ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لا يحفل بالله نفسه، وهو أمر كما ترى. يريد القرآن أن يكون المنبع الإنساني في القلب، ثم أن يبقى هذا المنبع ما بقي صافيًا ثرا لا يعتكر ولا ينضب، كأنما في القلب سماء ما تزال تمد له من نور وهدى ورحمة.
وهذا الأصل -أصل المساواة- هو الذي كشفه القرآن بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعية التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفرق فيها الجنس الإنساني كله وهي الخلق من "الذكر والأنثى": وكيف وصف الغاية الاجتماعية للناس شعوبًا وقبائل بأنها "التعارف"، لم يزد على هذه اللفظة التي لا تشذ عنها فضيلة من فضائل الاجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة اجتماعية يمكن أن تدخل في مدلولها ولن تجدها إلا منصرفة عنها في الغاية.
ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرم الناس المتساوين جميعًا في الحالتين الفردية والاجتماعية، هو أتقاهم، أي: أعظمهم خلقًا، لا أوفرهم مالًا، ولا أحسنهم حالًا، ولا أكثرهم رجالًا، ولا أثقبهم فهمًا، ولا أعلمهم علمًا، ولا أقواهم قوة، ولا شيء من ذلك وأشباه ذلك مما لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلا في إدبار الدولة واضطراب الاجتماع وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنه دربة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائل صرفة لا شوب فيها!.
ولا يمكن أن تفسر "التقوى" على التحديد والتعيين في كلمة تستوعب كل معانيها وما يتصل بها إلا كلمة واحدة، هي "الخلق الثابت" ومهما أدرتها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلها فإنك لا تجد اسمًا واحدًا يلبسها لا فاضلة عنه ولا مقصرًا عنها.
لا جرم أن هذا الأصل الاجتماعي الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الآية، هو الأصل الذي انشعبت منه كل فضائل المساواة والحرية، وإنه لذلك مقدم على الإيمان، إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وأنه يقضي بكل أنواع الحرية التي تفيد الاجتماع، وكلها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أن الذي ننبه عليه من فضيلة التقوى أو الخلق الثابت في القرآن؛ أنه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطباع الموروثة وما لا بد للنفس الإنسانية في التخلق به من الكد والمعاجلة ومن شدة الاعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانية التي هي أصل الفطرة وغريزة الجبلة أن هذا كله في وصف الفضيلة وجماع الأمر لا يزيد عن كونه "أقرب للتقوى" وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} والشنآن: العداوة والغضب، وما في حكمهما. 

وهذا على أنها "من قوم" لا من فرد كما ترى في الآية الكريمة؛ فينطوي في هذه الإضافة الحرب والاستعمار وغيرهما فتأمله.
ثم اعتبر القرآن أن خير الأمم على الإطلاق إنما هي الأمة التي تتبسط في مناحي الاجتماع على هذا "الخلق الثابت"، فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثم مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد، وهو الإيمان بالله؛ فالأمة التي تكون لأفرادها فضيلة التقوى، تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة، وهي أنها خير أمة، على هذا جاء قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فتأمل كيف قدم وأخر؛ فإنك لا تجد هذا النسق إلا ترتيبًا لمنازل الفضيلة الاجتماعية الكبرى تجعل الأمة في نفسها خير أمة، وبالحرى لا تجد هذا الترتيب إلا نسقًا في وصف الآداب الإسلامية التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوا وأخذوا بها خير أمة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه.
وإنما أركان الفضيلة الاجتماعية الكبرى في ثلاث, كلها حرية واستقلال:
1- استقلال الإرادة وقوتها وهذا هو الذي يكون عنه "الأمر بالمعروف"1 لا يكون بدونه ألبتة.
2- استقلال الرأي وحريته، ويكون منه "النهي عن المنكر" ولا يمكن أن يكون بغيره.
3- استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيمانًا على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفًا ويشدهما ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناس من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجلة. ونحوها مما ينقم الناس بعضهم من بعض, وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله, فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفق مع صحة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك, ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ارجعين إلى الإيمان بالله دخلًا في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علة وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل والمهارشة والنزاع الحيواني, فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يأمر بمعروف هو معروفه وحده وينهى عن منكر هو منكره وحده.
فانظر هل جاءت علوم الفلسفة والاجتماع بعد ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن بما ينقض هذه الحقيقة؟ وهل قررت إلا تفسيرها1 بوجوه ضعيفة مضطربة لا تبلغ في الكمال مبلغًا ولا تقارب هذا المبلغ؟ وهل في الآداب الآنسانية التي قامت عليها الأمم لهذا العهد مثل أن تكون سعادة الإنسان في منفعة الناس، وإن احتمل في ذلك المكروه واقتحم الصعاب وبذل من ذات نفسه وحفظ من حق غيره ما يضيعه ولو ضاع هو فيه، وذكر من واجبه ما ينساه ولو كان ذلك مما يفقده وينسبه، ثم لا يكون هذا حتى يكون مقدمًا على سعادة نفسه التي هي الإيمان، تقدم السبب على المسبب: كما يؤكد ذلك نسق النظم في الآية الشريفة التي مرت بك ...
اللهم إنه دينك الذي شرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنساية الذي قلت فيه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
تلك جملة من القول في الخلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغن عنهم من الخلق شيئًا، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الإمبراطورية الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذا امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معًا إذا كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سببًا في سقوطه!
وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمه، ولا يدركون حكمه، ولا ينزعون أخلاقه وشيمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانت شرا من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرون هذا الكتاب إلا أحرفًا، ولا ينطقون إلا أصواتًا، وتراهم يرعونه آذانهم وهم بعد لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس، وفي هؤلاء الجاهل والفاسق والوضاع والقصاص وذو الغفلة والمتهم في دينه وفهمه، ومن أكبر عرضه من القرآن حجج المخاصمة وبينات الجدل في مقارعة أو الرد على مذهب أو التأول لرأي أو النضح عن فئة، أو ما يشابه ذلك! وأولئك جمهور من يفهم عنهم المسلمون إلا نادرًا، ولا حكم للنادر2. 

وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبين ما في البيان، وأسد ما في الرأي، وأبدع ما في الأدب، وأقوم ما في النصيحة، وبما هو التام الجامع لكل ذلك, إذا جعلت تملأ به مسامع الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهًا من وجوه الاستواء، ولا تملك إليهم سببًا من أسباب التأثير، ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها، إلا في فنون من جهل الجهلاء ولغط العامة وأوهام السخفاء، وفي انتقاض الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلا قلوبهم مساغًا {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
لا جرم كانت هذه علة العلل في أن القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهله ما كان له من قبل، ولا بعض ما كان له؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يجروه من ذلك على حقه، بل أصبحوا لا يستحون من الله أن يجعلوا قراءة كتابه ضربًا من العبادة اللفظية يرجون عند الله حسابها؛ ويبتغون في الأعمال ثوابها، ولا يشكون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابها، على أنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
ذلك وجه الإعجاز الأدبي في القرآن، وهو متصل باللغة اتصالًا سببيا كما رأيت؛ ثم هو من وراء الجنسية العربية التي بسطنا القول فيها؛ لأنه تحقيق تلك العصبية الروحية، أما حقيقة هذا الإعجاز مما يتعلق بحال الآداب نفسها وكونها آداب الفطرة المحضة التي تماد الزمن؛ لأنها مادة الإنسانية؛ ولأنها فصل ما بين الإنسان في حيوانيته وبين هذا الحيوان الناطق في إنسانيته؛ فالقرآن كله برهان هذه الحقيقة، ونحن ملمون بها إلمامًا على ما بنا من الضعف، وعلى ما بها من القوة، وعلى أنه ينبغي أن تكون الإفاضة فيها غرض كتاب برأسه في بيان ما هي الجهات المتقابلة من علوم التربية والاجتماع وفلسفة الشرائع، فإن هذه العلوم بما انتهت إليه وعلى جملتها وتفصيلها، ليست إلا شروحًا مبسوطة للمبادئ القليلة التي هي ملاك الآداب، والتي حصرها القرآن حصرًا محكمًا, وجاء بها على سردها وجهاتها، كما يتبين ذلك من يقرؤه قراءة بحث وتأمل؛ ومن زعم أن هذه الآداب علم أو هي تكون علمًا فلا يقصر سبيل الحجة إليه طول الخصومة في زعمه مهما أطلنا؛ فإن أصل الأمر في الآداب حالة النفس لا حالة العقل1؛ وكم رأينا في أجهل الناس من سلامة النفس ورحب الذرع وإخلاص الطوية وصدق اللسان والقلب وضروب من الآداب كثيرة، ما لم نر بعضه ولا الخالص من بعضه في العلماء عامتهم أو أكثرهم؛ وإنما {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . 

وقوام الإنسانية في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إليه آداب القرآن:
الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلة فاصلًا طبيعيا بين فرد وفرد، وبين أمة وأخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعًا متباينة بطبيعتها، ثم ينشق النوع إلى أجناس، ثم كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظام الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسان مع تقادم الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعة ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع ...
الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يبتلى به الإنسان من الخير والشر فتنة، حتى لا يحيف القوي ولا يستيئس الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزاهز، كالحروب ونحوها، إلا عملًا إنسانيا يبتغى به دفع اعتداء وإقرار حق ورد باطل وتقويم زيغ، إلى أمثالها مما هو في حدود المرحمة والمبرة، وليس يعدو بحال من الأحوال أن يكون وسيلة من وسائل الزجر والتأديب، إذ قد خلا من ابتغاء الهلكة ورغبة الفناء وإبادة الخضراء، ونرئ من معايب هذه السياسة الحيوانية التي لا تقوم لها قائمة إلا باعتراض الغفلة وانتهاز الضعف وبالكيد والمخاتلة، وتنزه مع ذلك عز دناءة المقصد وسفال الغاية وسوء الذريعة، وعن الخبث الإنساني في الجملة.
الثالثة: حد هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوة الأزلية، حتى يتحقق معنى المساواة فيها، فإن كل ما هو أدنى فهو سواء في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض. ولولا هذا الحد لما أمكن أن يجمع الناس على آداب يكون من غايتها أن تحوط الإنسانية فيهم، إذ يبعدون هذه الإنسانية من قلوبهم إلى ما وراء إنكارها والتكذيب لها، فلا يبقى لآدابها وجه تعتبر منه أو يؤخذ به في أمرها، ومن ثم لا تكون الإنسانية إلا الغلظة والفظاظة في الأقوياء، وإلا الذلة والمسكنة في الضعفاء، وتكون كل ذرة تسقط على الأرض من نعل القوي تفتح في الأرض قبرًا لرجل ضعيف، فلا تعمل في العمران يومئذ إلا آلات الهلاك والدمار، حتى يبقى الإنسان من الدنيا كأنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا1 ولذا كانت الأديان الإلهية كلها متفقة في حد هذه النسبة التي أشرنا إليها، بل كان هذا الحد أساس الاعتقاد في جميعها؛ لأنه أساس كل نظام إنساني في الأرض.
وهذه الثلاث فإنما هي جماع ما تقول به الإنسانية المحضة في صفاتها الإلهية التي هي غريزة النفس وصلة ما بين المخلوق والخالق، ولذا أمكن أن تكون {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وأن تكون من آداب كل عصر وجيل، لا تعترضها حدود الزمن؛ ولا ينال منها تقلب الأيام؛ ولا تغادر الدهر أن يراها الإنسان من نفسه بحيث وضعها الله، وهي بعد أمهات الفضائل وأصلها الذي تنشق منه. وقد نرى هذه الفضائل الاجتماعية على اختلافها أطوار الناس، على تفاوت مقاديرها فيهم، كيف تلتقي إلى هذه الثلاث؛ وكيف تدور عليها حتى لا يقطع على الرذيلة بأنها رذيلة إلا إذا كانت تعدو على جهة من تلك الجهات في سبيلها أو غايتها، فأما أن تكون في الأرض رذيلة لا تفسد شيئًا من ذلك ولا تلم به، فهذا ما لا يكاد يصح في عقل صحيح.
وأنت إذا تدبرت آداب القرآن الكريم حيث أصبتها منه، رأيتها قائمة على تلك الثلاث جميعًا، فإن روح هذه الآداب كلها في ثلاث كلمات من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. فليس في الناس اختلاف كاختلافهم في كل ما يرد إلى تعيين حقيقة النسبة في المساواة بين الإنسان والإنسان، وما الظلم والتعسف والمكابرة والمخاتلة، ولا كل الرذائل الاجتماعية، إلا مظاهر متعددة لهذا الاختلاف بعينه؛ ولا القوانين والعادات والشرائع وكل الفضائل الاجتماعية، إلا وسائل مختلفة لتبين هذا الاختلاف على حدود بينة من الحق، وهيهات أن يكون للناس هدى إلا بالطرق التي يتخذونها لحياطة تلك النسبة ويأخذ بها بعضهم بعضًا, وهيهات أن يصيبوا أثرًا من الرحمة لأنفسهم إلا بحد تلك النسبة وإقامة هذا الحد على التقوى التي هي مظهر الإيمان فيما بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
وكل الوسائل التي تعمل في النهضة الإنسانية فإنما هي ترجع إلى ثلاث كلمات تقابل تلك الثلاث أيضًا وهي: صلة الحرية بالشريعة وصلة الشريعة بالأخلاق وصلة الأخلاق بالله, وعلى تفصيل هذه الثلاث جاءت آداب القرآن الذي لو بلغت الإنسانية في وصفه بما وسعها ما بلغت مثل قوله تعالى فيه: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} فانظر كيف يكون تصوير العاطفة وتأثيرها العصبي وما وراء تأثيرها.
لا غرو كان هذا القرآن من أجل ذلك إنما يصف جمل الآداب، أي: الكليات الأدبية التي تلائم الفطرة في مختلف أزمانها، ولا يقرر الأخلاق تقريرًا وضعيا على أسلوب الكتب والمصنفات، فيضعها على أن لها قواعد وضوابط وأشباه القواعد والضوابط، مما هو مثار الاختلاف ومبعث الفرقة في مذاهب الحكماء، ومما لا تكون الآداب معه إلا معادة على الناس في كل عصر بنوع من التنقيح وضرب من التغيير يناسبان اختلاف كل عصر عن الذي قبله، بل إن المعجزة في هذه الآداب الكريمة أنها تقرر الأخلاق تقريرًا عاما، فيصفها القرآن على أنها هي القواعد لغيرها، والضوابط لما يبتنى عليها، ويوردها في أحسن الحديث؛ ويعترض بها وجوه القصص ويقلبها مع أغراض الكلام ثم لا يكون في ذلك وجه من وجه الخلاف بينها وبين الفطرة الإنسانية، على ما في تلك الآداب من الإطلاق، وعلى أنها غير ملحوظ فيها دولة بعينها أو أمة بأوصافها، أو نحو ذلك من ضرور الحد والتعيين؛ فليس فيها من روح الزمن إلا روح الزمن كله بحيث لا يتأتى للفيلسوف ولا المؤرخ إلى أن يردها أحدهما أو كلاهما في جملتها إلى عصر بعينه لا تعدوه، أو يقصرها على حد تقفها عنده الإنسانية وتتقدم بغيرها مما يقال فيه إنه الأصلح أو الأنفع، ولو أن الدهر قد فنى ثم نزع من كل أمة شهيد وعرضت عليهم آداب القرآن فقابلوها بفضائل آدابهم واعترضوا بعض ذلك ببعضه ثم قيل هاتوا برهانكم عليها، لأقر الزمن بألسنتهم جميعًا أنها الحق وأن الحق لله.
من أجل ذلك تجد الخطاب الأدبي مطلقًا في القرآن كله كأنه نظام إنساني عام لا يراد به إلا حرية المنفعة للنوع كله، ثم الموازنة بين مقدار هذه المنفعة وبين مقدار الحرية التي تنال بها، ليكون كل شيء في نصابه الاجتماعي، فإن إطلاق الحرية عبث، وإطلاق المنفعة ضرر أو ضرار، ولو سوغت كل أمة أن تقارف ما تريد بمقدار ما يهيئ لها ضعف غيرها من الحرية في بسط يدها لكان من ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير.
وإن كل أمة اضطربت فيها الموازنة بين الحرية والمنفعة، فإنما يكون ذلك حاضر تاريخها مبدأ العبودية لغيرها؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه علوم الاجتماع لهذا العهد.
وكذلك كل ما في آداب القرآن الكريم من الأمر والنهي، فإنما يراد به ضبط الصلة بين عالم العقل وعالم المادة على وجه بين؛ ولولا ذلك ما كانت هذه الآداب زمنية تحيي روح الزمن كله، بل لكانت من غير هذا العالم، فلا يستقيم لها بشيء ولا تستقيم هي لشيء1 ثم لا تكون في الناس إلا عنتًا وإرهاقًا ولا يتهيأ معها صرف ولا عدل، ولا يكون منها في الزمن إلا اسمها، وإلا الخبر أنها كانت يومًا فتلحق في التاريخ بباب الفضائل الذي لا يلجه إلا القليل، مع أن وراءه كل أسماء الحكماء والفلاسفة.
والإنسان إنما يصرف ما يشاء من النواميس الثابتة لعالم المادة فيما يرجع بالنفع والضرر، فإذا أطلقت يده في ذلك فكأنه جزء ناقص من نظام الكون؛ أو جزء ينقصه شيء من هذا النظام؛ بيد أن الآداب إذا أحكمت صلته بذلك العالم المادي على وجه بين حلاله وحرامه، فلا ينحاز إلا في حد من الحدود المرسومة، ولا يبغي شيئًا لم تتعين تبعته، ولا يستدخل في أمر إلا وهو في ربقة من نظامه الاجتماعي2 فإنه يكون قد استكمل حينئذ ما كان ينقصه، أو ما كان يجعله ناقصًا إن خلا منه، وما دامت الحياة مادة، فللمادة حكمها في الحياة.
وما تدبر هذا القرآن أحد قط إلا وجده يطلق لكل إنسان -على القوة والضعف والعزة والذلة- إرادة اجتماعية أساسها الفضيلة الأدبية: حتى لا تكون بطبيعتها إلا جزءًا من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادة المجموع، ولقد كانت تلك الإرادة الاجتماعية هي الحلم السماوي الذي أطبق عليه الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعًا، ولم يتحقق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيح لآداب القرآن؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبية بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتفق لها أن تبلغ من الفطرة؛ فكانت أعمالها مظاهر لتلك القوة التي سميناها "الإرادة الاجتماعية" ولو أن العلوم كلها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئًا من غنائه، ولا ردت عليهم بعض مرده؛ فإن الفضيلة العقلية التي أساسها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظرية التي ربما اهتدى بها المرء وربما ظل بها على علم، ولكن الفضيلة الأدبية تدفع إلى الإرادة العملية دفعًا؛ لأن هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل، ومتى صحت إرادة الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعة من عمل الأمة، ولا بد أن تكون الأمة القائمة بأفراد من أمثاله قطعة من عمل التاريخ الاجتماعي؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب في التاريخ، وهو وليهم بما كانوا يعملون.
ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلا أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأ قبل أن يجعل له شريعة، ثم لا يقيم الشريعة إلا على هذا المبدأ، فيكون المرء محكومًا بيقينه وفكره لا بظنه ولا بعادته؛ وبذلك يكون بناؤه الإنساني قارا في حيزه الإنساني.
وأنه ليستحيل ألبتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعي ما دام له يقين ثابت في آداب المجموع.
هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنية في كل ما تقدم، تفاديًا من الإطالة واقتصارًا على غرض الكتاب، مما يجزئ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على الكثير وإن لم تكن هي إياه غير أنها تعينه وتصفه، ومن ضرب بالحدود على فضاء واسع من الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئ النظر الهين أن يطبقه ويستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك من تعرفه وقياسه واستخراج مبلغ ذرعه ما يبلغ العنت؛ ما ليس في العنت أبلغ منه.
وبالجملة فإن القرآن إنما يريد بآدابه وعظاته الإنسان الاجتماعي لا الصورة الإنسانية التي تخلقها العصور التاريخية والسياسية أصنافًا من الخلق، أو تفتري عليها ضروبا من الافتراء، فهو يريد كل ما فيه من الآداب الاجتماعية على هذه الجهة لا يعدوها، وليس فيه من آية من الأدب والأخلاق إلا هو يريغ بها ناحية من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روح آدابه في أنفس المسلمين لا تغير في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنها فيهم طبيعة وراثية، ولقد كانت هذه الروح -ولم تزل- هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادوا استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممن اشتدوا عليه ليخذلوه، ثم كانوا بعد ذلك من أشد أهله في نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلام لا دعوة له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما شاء الله، إلا القدرة التي هي مظهر آدابه أو روح هذه الآداب؛ فحيثما وجدت طائفة من أهله وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم، وإن لم يتسخر هو من ورائهم الدعاة المنتخبين ولم يستحثهم للجولة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدنيا ليترامى بهم إلى غرضه في كل شرق، وتلك دلالة صريحة على أنه الدين الطبيعي للإنسانية، إذ تأخذ فيه النفس عن النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط ... وهي حقيقة زمنية لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلها!
وبعد فما أفصح وأبلغ، وما أصح وأوضح ما ورد في صفة القرآن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل" 1. ونحن فما عدونا في كل ما قدمناه تفسير هذه الكلمات القليلة، وإن فيها بعد لفضلًا فاضلًا، لو وجد له فاضلًا، وقولًا طائلًا، وأصاب له قائلًا. 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید