المنشورات
سرائر القرآن:
بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابنا هذا خرج في الآستانة القديمة. كتاب جليل للقائد العظيم والعالم الرياضي الفلكي المشهور الغازي أحمد مختار باشا رحمه الله، أسماه "سرائر القرآن" وبناء على سبعين آية من كتاب الله تعالى فسرها بآخر ما انتهى إليه العلم الحديث في الطبيعة والفلك، فإذا هي في القرآن منطبق السماء عن نفسها، لا يتكذب ولا يزيغ ولا يلتوي، وإذا هي تثبت أن هذا الكتاب الكريم سبق العقل الإنساني ومخترعاته بأربعة عشر قرنًا إلى زمننا، وما ذاك إلا فصل من الدهر، وستعقبه فصول بعد فصول1.
ومعلوم أن الزمن تقسيم إنساني محض يلائم وجود الإنسان وفناءه عن هذه الأرض المحدودة بمادتها وأجلها، وإلا فليس في الحقيقة أزمان تبتدئ أو تنتهي، فإذا ثبت للقرآن المجيد سبقه ما تتوهمه زمنًا وتقدمه حدودًا من آخر حدود العقل الإنساني، على حين أنه أنزل في حدود غيرها بعيدة ضعيفة لا علم فيها ولا آلات علم, فحسبك بذلك وحده برهانًا على أن هذا الكتاب جملة من الأزل تحولت في معنى ومنطق، وجاءت لغرض وغاية، ولامست الناس لتكون فيهم سببًا لرسوخ الإيمان، ثم نظامًا للإيمان نفسه، ومتى رسخ الإيمان فقد رسخ العالم كله في النفس الإنسانية، وهذا عندنا من بعض السر فيما جاء في الكتاب الكريم من آيات السموات والأرض والنظر والاستدلال، ومن طرق التعبير، التعبير النفسي بالأمثال والقصص ونحوها.
ثم إن في ذكر الآيات الكونية والعلمية في القرآن دليلًا على إعجاز آخر فهو بذلك يومئ إلى أن الزمن متجه في سيره إلى الجهة العلمية القائمة على البحث والدليل، وأن الإنسانية ذاهبة في أرقى عصورها إلى هذا المذهب؛ وأن الدين سيكون عقليا، وأن العقل هو آخر أنبياء الأرض، فوجود ذلك فيه قبل أن يوجد ذلك في الزمن بأربعة عشر قرنًا، شهادة ناطقة من الغيب لا يبقى عليها موضع شبهة، فإن أسفر الصبح وبقي بعض الناس نيامًا لا يرونه وقد ملأ الدنيا فذلك من عمى النوم في أعينهم، وآخرون لا يرونه من نوم العمى في أعينهم والصبح فوق هؤلاء وهؤلاء. و"من أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها".
قال الغازي في مقدمة كتابه2: "وفي القرآن غير ما يكفل للهيئة الاجتماعية سعادتها وسلامتها في معاشها ومعادها مما حواه من الدساتير الأخلاقية والقضائية والإدارية والسياسية وعظة الأمثال والقصص، فيه إشارات وآيات بينات في مسائل ما برحت العلوم الطبيعية تحاول الكشف عن كنهها منذ عصور، ولا سيما في علم التكوين والتخريب "القيامة" الذي دل الآن بنظريات الإخصائيين من علماء الفلك ومباحثهم ومشاهداتهم في طور التقدم والارتقاء وإنك لا تكاد تقلب من المصحف الشريف بضع صفحات حتى تجد آية في أسرار الكائنات وأحوال السماء منظومة في نسقها بمناسبة من أبدع المناسبات.
قال: "وقد فهموا من علم الهيئة السماوية عظمة الله تعالى بعظمة الأجرام التي كانوا يحسبونها نقطًا صغيرة منثورة في السماء. خذ لذلك مثلًا: إدراك عظمة الشمس وكوكب الشعرى بالنسبة إلى الأرضن فإن هذه الأرض إذا نحن فرضناها فرضًا بحجم الحمصة، تكون مساحة الشمس بالنسبة إليها كمساحة مائدة مستديرة طول قطرها ذراع فرنسية، ومساحة سطح كوكب الشعرى الذي قال الله فيه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} تبلغ مائة ذراع فرنسية بالقياس إلى تلك الحمصة1.
"ومما أفدناه من تلك المباحث أن عالمنا الناسوتي الذي نسميه "العالم الشمسي" وتؤلفه طائفة مستقلة من الأجرام السماوية تعد بالمئات أهمها شمسنا المنيرة وأرضنا وأخواتها من السيارات وما يتبعهم من النجوم ذوات الأذناب- يدور بسرعة عشرين ألف ذراع فرنسية في الثانية الواحدة، مجتازًا فضاء الله الذي لا نهاية له، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 2 وأن المجرة العظمى المحيطة بالسماء3 تحتوي مئات الألوف من العوالم الأخرى.... إلى أن قال "إن القرآن الكريم آيات بينات عن تكوين العالم، وكيف كان هذا التكوين، وعن الأطوار التي تنقل فيها، وعن خلفة الموجودات، وأسباب الحياة، وعن آخرة كرتنا الأرضية وعاقبتها التي ستصير إليها في النهاية، ولقد كانت معاني هذه الآيات الشريفة منظورًا إليها فيما مضى من جهة العقائد حسب، ولم يكن أحد يستطيع أن يذهب في تأويلها مذهبًا يصدر فيه عن علم، ولكن هذه الحالة قد تغيرت الآن؛ لأن الحكماء الذين نبغوا في العصرين الأخيرين قد أبانوا بمباحثهم العلمية وما كشفوه من الغوامض الدقيقة عن قدرة الله بأجلى بيان، حتى أصبحت نظريات علم التكوين صالحة لتفسير آيات الله سبحانه وتعالى تفسيرًا بديعًا، مع أنها هي في حالتها الراهنة لم تبلغ بعد حد الكمال".
وبعد أن وصف همم علماء الفلك والرياضة، ووسائلهم ومعرفتهم المسائل الدقيقة، عن الكواكب والشموس والعوالم، وعن حقيقة هذه الكرة التي نعيش عليها، وما أفاده المجتمع البشري من ذلك، قال:
"وأفدنا نحن معشر المسلمين فوائد عظيمة خاصة بنا؛ لأن هذه المخترعات والمستحدثات وما أدت إليه من أدلة ونظريات قد جاءتنا ببرهان جديد على إعجاز القرآن الذي ندين الله عليه، فقرت بذلك أعين المؤمنين، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس..". قال: "وسيرجع الفلكيون موحدين إذا علموا أن الأسرار العلمية التي يحسبونها جديدة، هي في القرآن كما ظهرت لهم، ومثل من ذلك أن العالم الفلكي م. بوانكاريه، قال في مقدمة كتابه المطبوع في نسة 1911 وهو يبحث في دقة نظام هذه الكائنات وما فيها من مظاهر الكمال: "ليس ذلك من الأمور التي يمكن حملها على المصادفة والاتفاق، وأحسب أن القدرة التي لا أول لها ولا آخر سنت للكائنات هذا النظام في عهد ما على أن يستمر حكمه إلى الأبد، فأذعنت الكائنات لإرادتها راضية طائعة". قال الغازي رحمه الله: فأمعن أنت النظر في هذه الكلمات وسياقها، ثم اقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وتأمل ما في الآية من معاني ورموز؛ ثم تصور ما في ذلك من ذوق وجداني لأهل العرفان، وقل: "تبارك الله والمنة لله".
كتاب "سرائر القرآن" ثلاثة فصول: الأول في كيفية تكوين العالم ووجود الحياة. والثاني في يوم القيامة أو خاتمة عمر الأرض. والثالث في المباحث والآيات القرآنية المتعلقة بإعادة الخلق وكل ذلك مطبق على نظريات وآراء الحكماء الأولين والآخرين إلى عصرنا، ثم ما يؤيد حقيقة ما انتهوا إليه من آيات القرآن الكريم. وكان الغازي يفكر في هذا الكتاب خمسة وعشرين عامًا، فرحمة الله عليه كفاء ما أحسن إلى أمته.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
16 ديسمبر 2024
تعليقات (0)