المنشورات

التحدي والمعارضة:

كان العرب قد بالغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة، ومن دقة الحس البياني، حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلًا واحدًا باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة1 من بلغائهم وفصحائهم، مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض، وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم؛ لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة، ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضًا ويدور بعضها على بعض، فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي، وكأن معنى حياته في الألفاظ وفيه معًا.
وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليتهم الثانية من بعده، لا حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظًا وأسلوبًا ومعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها، وكانت رأس أمره وقوام تدبيره؛ إذ هي بصبغتها العقلية ومعناها النفسي؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به، بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب، شعورًا لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين.
ومن طباع النفس التي خبلت عليها، أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهن في ذلك، وضربها الخذلان باليأس، فقلما تنفعها نافعة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى؛ وقلما تصنع شيئًا دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه ومجاوزة ما لا تستطيع إلى ما نستطيع.
فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم، ومن جهة الكلام الذي هو سيد عملهم، بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها، وهم كالحصى عددًا وكثرة، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه، وإلا نفر قليل معه، لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مفادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم؛ فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها، وهذا هو حق الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في السرايا والجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح، حتى نصروا بالرعب من بعيد وقريب، وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم، وتعد المراصد لعدوهم من نفسه، وتسلبه ما لا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا، ويريد أعداؤهم أن يحيوا فيموتوا1.. وإلا فأين تلك الشراذم العربية القليلة، من جيوش الروم والفرس، وهي فيها كالشامة في جلد البعير. ولو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها!
على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه، وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم2، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر، وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة، فلم يجمعوا كيدهم، ولم يصدموه، بل استأنوا به ولبسوه على أمر، وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة، وتركوا أسبابًا كانت منهم قريبة، وليس في ذلك سبب وراء القرآن؛ فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي، وتخذلهم في أنفسهم، فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة, ويكسر ذلك عليهم أمرهم, فتقع الحرب في أنفسهم بديئًا بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة، وعزائم واهية، وأمور منتشرة، وخواطر منقسمة، وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه، وكان عبرة لغيره، حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى، فمن سكن بعدها فقد سكن!
ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوا ونزولًا، على حسب ما لا بد منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه. ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب، متربصون به حالة من تلك الأحوال، فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام، وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية، وجمرة متوقدة، وأمر فوق الأمر وكلام يحاورن فيه بدءًا وعاقبة.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثلة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة؛ وهم مجبولون عليه فطرة. ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن، إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها, حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن، مولد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف وبالله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر1.
أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصورًا على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب، وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور ... ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفج الرماد الهامد، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فقطع لهم أنهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله، ولا يقولها عربي في العرب أبدًا، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفيًا وتعجزهم آخر الأبد فما فعلوا ولا طمعوا قط أن يفعلوا1, وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف، كما يبذل المحرج آخر وسعه، وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهن حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا: ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر2 وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقرارًا منهم بالعجز، إذا جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات، تلميحًا كما تقدم، وتصريحًا كقولهم: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقولهم: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .
وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق؛ لأنها أعراق ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع، وخاصة في قوم كالعرب كان شأن الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف، وكانت العادة عندهم دينًا حين لم يكن الدين إلا عادة.
قال الجاحظ: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته؛ فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف. فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة؛ أو بآيات يسيرة، فلكلما ازداد تحديًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا تعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات. فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم، مع كثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم؛ وكثرة شعرائهم؛ وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله؛ وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه؛ وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات؛ ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم. فمحال -أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة1 على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه، وهم يعرفون ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه. ا. هـ.
على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنهم عارضوا القرآن، فمنهم من ادعى النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآنًا كيلا تكون صنعته بلا أداة ... على أنه لا أتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه طائفة يستنفرون لأمره ويعطفون عليه جنيات الناس حتى يجمعوا له أخلاطًا وضروبًا، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية، وحدبًا من الطباع على الطباع2 فهم في غنى عن نبوته وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة، مقاربة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد ذلك مغنمًا، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب إذا صادفوا غرة وأصابوا مضطربًا، إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويغر به الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرءوس والأرجل مبادرة لا يدرى أيهما حامل وأيهما محمول.
ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة وظن أنه قادر عليها يضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة1 تعرض لك من حمر الوحش في جانب البر الواسع ثم تغيب وتسفي الريح على آثارها وسنعد لك عدا، لتصدر في هذه الدعوى عن روية، وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة، وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل إنهم بلغوه، فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن. وإن الحق ليجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط، فتكون مكابرتهم فيه وجهًا من الوجوه التي يثبت بها ويغلب:
1- فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب، تنبأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم، كان يصانع كل إنسان ويتألفه، ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح؛ لأنه إنما يتخذ النبوة سببًا إلى الملك، حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده، وكتب إليه في سنة عشرة للهجرة: "أما بعد: فإني قد شوركت في الأرض معك، وإنما لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكن قريشًا قوم يعتدون ... ! ".
وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرَّجَّال2 قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، إذ شهد أنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول إن مسيلمة قد أشرك معه! فصدقوه واستجابوا له؛ وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوه -إن هو لم يقبل- أن يعينوه عليه، فكان الرجال لا يقول شيئًا إلا تابعه مسيلمة؛ وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب، ليحكيه ويتشبه به، وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله، وفي "تاريخ الطبري" من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح. 

وقد زعم مسيلمة أن له قرآنًا نزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن ... بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا، ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه، ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعًا1 فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتى إلى أنفسهم منها2.
ومن قرآنه الذي زعمه قوله -أجزاه الله: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوئوه ...
وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون3.
وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل ...
وقال الجاحظ في "الحيوان" عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وكل كلامه على هذا النمط واه سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سببًا نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.
2- ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي، يلقب ذا الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خمار، وكان رجلًا فصيحًا معروفًا بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب؛ وقد تنبأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن، ولا يذكرون له قرآنًا غير أنه كان يزعم أن الوحي ينزل عليه، وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ أكب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت، يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جبارًا، وقتل قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة.
3- وطليحة بن خويلد الأسدي، وكان من أشجع العرب، يعد بألف فارس، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثم لما رجعوا تنبأ طليحة، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي -وقيل بل يزعمه جبريل- ولكنه لم يدع لنفسه قرآنًا؛ لأن قومه من الفصحاء، ولم يتابعوه إلا عصبية وطلبًا لأمر يحسبونه كائنًا في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم، وإنما كانت كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة، رأيناها في معجم البلدان لياقوت، وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله قيامًا1 فإن الرغوة فوق الصريح2.
وقد بعث أبو بكر -رضي الله عنه- خالدًا بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة. فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه، وألح المسلمون على أصحابه بالسيف، فقال عيينه: هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد! فأعاد إليه مرتين، كل ذلك يقول: لا. فقال عيينة: لقد تركك أحوج ما كنت إليه! فقال طليحة: قاتلوا عن أحسابكم، فأما دين فلا دين3! ثم انهزم ولحق بنواحي الشام، أسلم بعد ذلك، وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.
4- وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية. وكانت في بني تغلب "وهم أخوالها" راسخة في النصرانية، وقد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، فاستجاب لهم بعضهم وترك التنصر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل، وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فالملك ملككم. وقد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر رضي الله عنه، ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها. وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها؛ وخافها مسيلمة، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوجها. قال: "ليأكل بقومه وقومها العرب" فأجابت، وانصرفت إلى قومها؛ فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته1. ولم تدع قرآنًا، وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة.
وفي رواية صاحب الأغاني2: أنه كان فيما ادعت، أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشًا قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة، وقد مرت آنفًا.
ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها، وما كانت نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!.
5- والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن، فلفق النضر هذا شيئًا من أخبار الفرس وملوك العجم، ومخرق بذلك؛ لأنه جاء بأخبار يجهلها العرب. ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل، لحماقته فيما زعم، وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه!
6- وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور: زعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره3.
وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب "الدرة اليتيمة"4.
لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب، وإذا قال هؤلاء إن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته، وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته، وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر، قال أولئك: بل عارض ومزق واستحيا لنفسه!
أما نحن فنقول: إن الروايتين مكذوبتان جميعًا، وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء من الأشياء إلا لأنه من أبلغ الناس. وإذا قيل لك إن فلانًا يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه، فاعلم أن فلانًا هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين: إما جاهل يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس؛ ولن يكون "فلان" ثالث ثلاثة!
وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس؛ لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده، وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه؛ ثم كان ابن المقفع متهمًا عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة.
ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب، وكان متهمًا بها أو كان له عرق في المجوسية، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة: لا لأنه زنديق، ولكن لأنه بليغ يصلح دليلًا للزنادقة1.
وزعم هؤلاء الملحدة أيضًا أن حكم قابوس بن وشمكير2 وقصصه، هي من بعض المعارضة للقرآن؛ فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله؛ وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا؟ ومثل قولهم: إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها3. 

7- وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي1 وكان رجلًا غلبت عليه شقوة الكلام؛ فبسط لسانه في مناقضة الشريعة، وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها من قوله في كتاب "الفريد"2: "إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي فلم تقدر على معارضته؛ فيقال لهم: أخبرونا: لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ ".
قلنا: فاعجب لهذا الجهل الذي يكون قياسًا من أقيسة العلم, واعجب "للكلام" الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب؛ ولما كان كذلك فأحدهما مثل الآخر؛ ولما كان أحدهما معجزًا فالثاني معجز لا محالة. وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني. وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت ... لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلًا من الحجة وبابًا من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط؛ وإلا فأين كتاب من كتاب3؟ وأين وضع من وضع؟ وأين قوم من قوم؟ وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض ولاطرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا: إن كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟ ولو أن مثل هذه السخافة تسمى علمًا تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى باسمه، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة؛ لأن فيه قوة من قوى الخلق؛ ولأنك لا تجد سخيفًا من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون من ذلك علمًا -كابن الراوندي مثلًا- إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل إلهه هواه، أم جعل إلهه في فمه4. 

وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه "التاج" ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب، مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء قد أجابوا على كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من "كفرياته" وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة, والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة، كما صنع في سائر كتبه؛ كالفريد، والزمردة، وقضيب الذهب، والمرجان1 فإنها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض، وكلها اعتراض على الشريعة والنبوة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح، ولا يقيم وزنها علم راجح2.
وقد ذكر المعري هذه الكتب في "رسالة الغفران"، ووفى الرجل حسابه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع!. وناهيك من سجع المعري الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى!.
ومما قاله في "التاج"، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلًا, وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: أف وتف3 وجورب وخف. قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنم!.
وهذا يشير إلى أن الكتاب كذب واختلاق وصرف لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة؛ وإلا فلو كانت معارضته لنقض التحدي وقد زعم أنه جاء بمثله لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة، كما أصبنا من ذلك لغيره1.
8- وشاعر الإسلام أبو الطيب المتنبي المتوفى قتيلًا سنة 354هـ فقد أدعى النبوة في حدثان أمره، وكان ذلك في بادية السماوة "بين الكوفة والشام"، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، وكان يمخرق على الناس بأشياء وصف المعري بعضها في "رسالة الغفران"، وقيل إنه تلا على البوادي كلامًا زعم أنه قرآنًا أنزل عليه يحكمون منه سورًا كثيرة، قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها فضاعت مني وبقي في حفظي من أولها: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار, امض على سنتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين؛ فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيل".
ونحن لا نمنع أن يكون للرجل شيء من هذا ومثله، وإن لم يكن في طبقة شعره ولا في وزن ما يؤثر عنه من فصول النثر، كقوله وقد كتب به إلى صديق له في مصر كان يغشاه في علته حين مرض، فلما أبلّ انقطع عنه فكتب إليه: "وصلتني -وصلك الله- معتلا؛ وقطعتني مبلا؛ فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله" فإن هذا وشبهه إنما هو بعض عشره منثورًا، وهي المعاني التي تقع في خواطر الشعراء قبل النظم، وما من شاعر بليغ إلا هو يحسن أن يقول هذا وأحسن منه، وإن كان فيما وراء ذلك من صناعة الترسل ودواوين الكتابة لا يغني قليلًا ولا كثيرًا.
ولم يكن المتنبي كاتبًا، ولا بصيرًا بأساليب الكتابة وصناعتها ووجوهها، ولا هو عربي قح من فصحاء البادية، وإن كان في حفظ اللغة ما هو؛ فليس يمنع سقوط ذلك الكلام الذي نسب إليه من أن تكون نسبته إليه صحيحة؛ لأنه لو أراده في معارضة القرآن ما جاء بأبلغ منه؛ وما المتنبي بأفصح عربية من العنسي ولا مسيلمة، وقد كان في قوم أجلاف من أهل البادية، اجتمعت لهم رخاوة الطباع، واضطراب الألسنة، فلا تعرفهم من صميم الفصحاء بطبيعة أرضهم، ولا تعرفهم في زمن الفصاحة الخالصة؛ لأنهم في القرن الرابع، وإذا كانت حماقات مسيلمة قد جازت على أهل اليمامة والقرآن لم يزل غضا طريا ونور الوحي مشرق على الأرض بعد، فكيف بالمتنبئ في بادية السماوة وقوم من بني كلب! وهل عرف الناس نبيا بغير وحي ولا قرآن؟
9- وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449هـ، فقد زعم بعضهم أنه عارض القرآن بكتاب سماه "الفصول والغايات، في مجاراة السور والآيات" وأنه قيل له: ما هذا إلا جيد، غير أنه ليس عليه طلاوة القرآن! فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون*. 

وقيل: إن من كتابه هذا قوله: "أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إن الكافر لطويل الويل وإن العمر لمكفوف الذيل؛ تعد مدارج السيل؛ وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج".
فلفظة "ناج" هي الغاية، وما قبلها فصل مسجوع، فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية، وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم؛ لأنها تأتي خواتم لآياته، فكأن المعارضة نقض للوضع ومجاراة للموضوع، وكأنها صنعة وطبع.
وتلك لا ريب فرية على المعري أراده بها عدو حاذق؛ لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلا أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأن البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصابًا لألفاظها، وتوطينًا لغرائبها كما يصنع؛ وأن الفصاحة شيء غير صلابة الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثرًا يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه من جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية؛ وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى فساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله، وما أسلوب المعري إلا من هذا كله.
على أن المعري -رحمه الله- قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي، فقال: "وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن المحجة ومقتدي, أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب, وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق" ا. هـ.
ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه، ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته1 منه تضييعًا ولا ضعفًا، ولا نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة؛ فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة2.
وبعد، فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة؛ أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدهم الجن بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه، ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في غلتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة، وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه، وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيه إلى طبع.
وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستفاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان؛ فكلما تناهى في علمه تناهى كذلك في علمه بالعجز وما أهل الأرض جميعًا في ذلك إلا كنفس واحدة {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . 











مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید