المنشورات
أسلوب القرآن:
وهذا الأسلوب فإنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، ليس من ذلك شيء إلا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزًا وهو الذي قطع العرب دون المعارضة، واعتقلهم عن الكلام فيها، وضربهم بالحجة من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكئون. ثم هو الذي مثل لهم اليأس قائمًا لا يتصل به الطمع، وصور لهم العجز غالبًا لا تنال منه القدرة. فأحرز طباعهم في ناحية من الضعف والاستكانة، حتى كأنها غير طباعهم في تثلمها بعد انتضائها وتراجعها بعد مضائها، وقد كانوا يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ويتناقضون في أغراضه ومعانيه، حين لم يكن من الفرق عند فصحائهم بين فن وفن من القول إلا ما يكون من تفاوت المعاني واختلاف الأغراض وسعة التصرف، وكان أسلوب الكلام قبيلًا واحدًا وجنسًا معروفًا، ليس إلا الحر من المنطق والجزل من الخطاب، وإلا اطراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها، لا يغتصبون لفظة، ولا يطردون كلمة، ولا يتكلفون لتركيب، ولا يتلومون1 على صنعة، وإنما تؤاتيهم الفطرة وتمدهم الطبيعة؛ فنسق الألفاظ إلى ألسنتهم، وتتوارد على خواطرهم، وتجري مع أوهامهم، وتستجيب فيهم لكل حركة من النفس لفظة المعنى الذي هو أصل هذه الحركة، ثم لا تكون هذه اللفظة إلا كأنها خلقت لذلك المعنى خلقًا، وأفرغت عليه إفراغًا، حتى لا يناسبه غيرها فيما يلتئم على لسان المتكلم، ولا يكون في موضعها أليق منها في مذهبه ولحن قومه وطريقة لغته.
فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب، وألوان المنطق. ليس في ذلك إعنات ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود؛ حتى أحسوا بضعف الفطرة القوية، وتخلف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأن هذا التركيب هو روح الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطلع على قلوبهم، بل هو السر الذي يفشي بينهم نفسه، وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبين في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحس، فليس للخلابة أو المؤاربة وجه في نقض تأثيره وإزالته عن موضعه، ومن استقبل ذلك بكلامه أو أراده بأي حيلة، فقد استقبل رد النفوس عن أهوائها، وردع القلوب عن محبتها، وحاول معارضه أقوى ما في النفس بأضعف ما فيها؛ وهذا شيء -فيما يعرفونه- لا يستقيم لامرئ من الناس ببيان ولا عصبية ولا هوى ولا شيء من هذه الفروع النفسية، وليس إلا أن ينقض الفطرة فيستقيم له، وما في نقض هذه الفطرة إلا أن يبدأ الخلق فيكون إلهًا، وهذا كما ترى فوق أن يسمى أو يعقل.
وقد استيقن بلغاء العرب كل ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة، إذ وجدوا من القرآن، ما يغمر القوة ويحيل الطبع ويخاذل النفس مصادمة لا حيلة ولا خدعة، وإنما سبيل المعارضة الممكنة التي يطمع فيها أن يكون لصاحبها جهة من جهات الكلام لم تؤخذ عليه، وفن من فنون المعنى لم يستوف قبله، وباب من أبواب الصنعة لم يصفق من دونه، وأن تكون وجوه البيان له معرضة يأخذ في هذا ويعدل عن ذلك؛ حتى يستطيع أن يعارض الحسنة بالحسنة، ويضع الكلمة بإزاء الكلمة، ويقابل الجملة بالجملة، ثم يصير الأمر بعد ذلك إلى مقدار التأثير الذي يكون لكلامه، وإلى مبلغه في نفوس القوم؛ من تأثير الكلام الذي يعارضه.
ومذهب الحيلة على التأثير مذهب واسع لا يضيق بالبلغاء كلهم إذا هم تكافئوا في الصناعة والبصر بأسبابها؛ لأن كل واحد منهم ينتحي بكلامه جهة من جهات النفس، ويأخذ في سبيل من طباعها وعاداتها، وهو لا بد واحد في كلام غيره موضع فترة من الطبع أو غفلة من النفس، أو أثرًا من الاستكراه يبعث عليه باعث من أمور كثيرة تعتري البلغاء في صناعتهم، فيضطرب لها بعض كلامهم، ويضعف بعض معانيهم، ويقع التفاوت في الأسلوب الواحد ضعفًا وقوة. فإذا هو أصاب ذلك فعسى أن يقابله من نفسه بطبع قوي ونفس مجتمعة، ووزن راجح، أو شيء من أشباهها، فيكون قد ظفر بمدخل يسلك منه إلى المعارضة. ويظهر به فضل كلام على كلام، ومقدار طبع من طبع، وقوة نفس من نفس، ولولا ذلك وأنه من طباع البلغاء؛ ومما لا يسلم منه ذو طبع، لما أمكن أن يتناقض شاعران أو يتساجل راجزان، أو يتراسل كاتبان، أو يتقارض خطيبان، أو يواجه كلام كلامًا في معرض المقابلة، أو يرجح به في ميزان المعادلة.
فأما أن يكون الكلام الذي يقصد إليه بالمعارضة كهذا القرآن: أحكم دقيقه وجليله، وامتنع كثيره وقليله، وأخذ منافذ الصنعة كلها، واستبرأ المعنى الذي هو فيه إلى غايته، وقطع على صاحبه أمر الخيار في الوجه الذي يعارض منه، وكان من وراء ذلك بابًا واحدًا في امتناعه، لا موضع فيه للتصفح، ولا مغمز للثقاف، ولا مورد للمقالة؛ وقد توثقت علائقه، وترادفت حقائقه، وتواردت على ذلك دقائقه: ثم كانت جملته قد أحرزت عناصر الفطرة البيانية وجمعت فنونها، واحتوت من الكمال الفني ما كان إحساسًا صرفًا في نفوس أهله، يشعرون به وجدانًا، ولا يقدرون على إظهاره بيانًا, فلذلك مما لا سبيل للنفس إلى المكابرة فيه بحال من الأحوال، أو ابتغائه بالمعارضة ومطاولته بالقدرة على مثله، إذ هو بطبيعته المعجزة لا ترى فيه النفس إلا مثالًا للعلم تعرف به مقدار ما انتهت إليه من إحكام العمل.
وهذا هو سبيل آثار النوابغ الملهمين الذين انفرد كل منهم بحيزه من الفن؛ فإن المعجز من هذه الآثار -إذا بلغ أن يتجوز في العبارة عنه بهذا الوصف- لا يكون إعجازه إلا على قدر ما يحتوي من كمال الفطرة الفنية، فتتمثل أنت منه ما كان في النفس إحساسًا صرفًا، وأملًا محضًا، ثم يتصفحه من يريد معارضته فيراه بعينه ماثلًا مصورًا حتى لا يشك في إمكانه ومطاوعته، ويبتغيه حين يبتغيه فإذا هو قد عاد في نفسه إحساسًا وأملًا لا سبيل عليهما للقدرة الفنية.
وهذا هو معنى العجز، وذلك هو معنى الإعجاز، ولا يزال يتفق منه في أعمال الناس على حساب ما يكون من اختلاف درجاتهم ومبلغ طاقتهم؛ وما من ذي من فن نابغ إلا وأنت واحد حسن عمله دون أمله هو في هذا الحسن، ودون إحساسه بهذا الأمل، حتى إنك لتعجب بما ظهر من قدرته الفنية في عمل الذي تراه أحسن شيء, على حين أنه لا يعجب إلا بالأصل الكامل الذي توهمه في نفسه، ووجد بيانه في خاطره، والذي لم يستطع أن يخرجه كاملًا؛ لأن من طبيعة الإحساس أن يظهر فيه كمال النفس ما دام في النفس، فإذا هو انقلب في الحواس عملًا ظهر فيه نقص الحواس!
ولما كان مرجع تقدير الكلام في بلاغته وفصاحته إلى الإحساس وحده وخاصة في أولئك العرب الذين من أين تأملتهم ورأيتهم كأنما خلقوا خلقًا لغويا1، وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان ومذاهب النفس إليه فقد أحسوا بعجزهم عما امتنع مما قبله، وكان كل امرئ منهم كأنما يحمل في قرارة نفسه برهان الإعجاز، وإن حمل كل إفك وزور على طرف لسانه!
ولهذا انقطعوا عن المعارضة، مع تحديهم إليها على طول المدة وانفساح الأمر وعلى كثرة التقريع، والتأنيب، وعلى تصغير شأنهم وتحقيرهم، وذلك بالنزول عن التحدي بمثل القرآن كله، إلى عشر سور مثله، إلى عشر مفتريات لا حقيقة فيها، إلى سورة واحدة من مثله، ولو هم أرادوا هذه السورة الواحدة ما استطاعوها؛ لأن إحساسهم منصرف إلى أصل الكمال اللغوي في القرآن، مستغرق فيه، فلا يرون المعارضة تكون إلا على هذا الأصل، أو تتحقق إلا به: وهو شيء لا تناله القدرة، ولا تيسره القوة؛ لأنه على ظهوره في أسلوب القرآن، باطن في أنفسهم، تقف عليه المعرفة ولا تبلغه الصفة: كالروائح والطعوم والألوان وما إليها.
فلو ذهبوا إلى معارضة السورة القصيرة على قلة كلماتها، وعلى أنها نفس واحدة وجملة متميزة، لضاق بهم الأمر بمقدار ما يظن الجاهل أنه يسعهم؛ فإن ذلك الإحساس لا يزايلهم ولا يبرح يورد عليهم محاسن ذلك الأسلوب جملة. ويغمرهم بها ضربة واحدة تنثال من ههنا وههنا؛ فلا يكون إلا أن يقفوا متلددين1 وقد حاروا في أي جهة يأخذون، وأي جانب يتوجهون إليه، ولا يكون من همهم تعرف ذلك دون تحقيقه، ولا تحقيقه دون الإتيان به، ولا المجيء به دون أن يساوي ذلك الأصل الذي في أنفسهم، ولا هذه المساواة دون أن تذهب السورة التي يجيئون بها بكل ما وقر في أنفس العرب الفصحاء واستولى على إحساسهم من بلاغة القرآن وفصاحة نظمه، وذلك أمر بعضه أشد من بعض وأبلغ في الاستحالة.
فإن وجد منهم سفيه كمسيلمة، يحمله جنون العظمة وحب الغلبة والتحمد في الناس، ثم كدر الفطرة وغلظ الإحساس في نفوس أتباعه على أن يتعقب السورة أو بعض السورة بالمعارضة، لا يبالي بالوزن كما قال في معارضته: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فقد قال: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر ... ، إلى آخر ما حكوا من سخافاته وحماقاته التي التمس منها الحجة له فكانت فيها الحجة عليه، وأراد أن يستطيل بها فتركته مثلًا في الحماقة والسخرية؛ وسنكشف بعد عن سبب هذا الخطل في كلام مسيلمة.
لا جرم كان من الرأي القائل والمذهب الباطل قول أولئك الذين زعموا أن الإعجاز كان بالصرفة على ما عرفت من معناها، وما دعاهم إلى القول بها إلا عجبهم كيف لم يأتي للعرب أن يعارضوا السورة القصيرة والآيات القليلة مع هذا التحدي ومع هذا التقريع، وهم اللد الخصمون، والكلام سيد عملهم ولهم فيه المواقف والمقامات، بيد أن أولئك لو كان لهم إحساس العرب أو لم يأخذوا الأمر على ظاهره وردوه إلى أسبابه في الفطرة لرأوا أن معنى العجز هو في الكثير والقليل فإن التحدي بالسورة الواحدة طويلة أو قصيرة، لم يكن في أول آية نزلت من القرآن.. كان بعد سور كثيرة منه، وبعد أن ذهبت في العرب كل مذهب؛ وهو أمر غريب في استلاب حس القوم والتأتي إلى تعجيزهم، فإن أعجبك شيء من سياسة البيان المعجزة واشتقاق المستحيل من الممكن؛ فذلك فليعجبك.
وههنا معنى دقيق في التحدي، ما نظن العرب إلا وقد بلغوا منه عجبًا: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قصصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنة والتذكير بالنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون هذا الباب؛ وهو مذهب للعرب معروف، ولكنهم لا يذهبون إليه إلا في ضروب من خطابهم للتهويل والتوكيد، والتخويف والتفجع وما يجري مجراها من الأمور العظيمة؛ وكل ذلك مأثور عنهم منصوص عليه في كثير من كتب الأدب والبلاغة.
بيد أن وروده القرآن مما حقق للعرب عجزهم بالفطرة عن معارضته وأنهم يخلون عنه2 لقوة غريبة فيه لم يكونوا يعرفونها إلا توهمًا، ولضعف غريب من أنفسهم لم يعرفوه إلا بهذه القوة؛ لأن المعنى الواحد يتردد في أسلوبه بصورتين أو صور كل منها غير الأخرى وجهًا أو عبارة، وهم على ذلك عاجزون عن الصورة الواحدة، ومستمرون على العجز لا يطيقون ولا ينطقون. فهذا لعمرك أبلغ في الإعجاز وأشد عليهم في التحدي؛ إذ هو دليل على مجاوزتهم مقدار العجز النفسي الذي قد تمكن معه الاستطاعة أو تتهيأ المعاريض حينًا بعد حين، إلى العجز الفطري الذي لا يتأول فيه المتأول، ولا يعتذر منه المعتذرون ولا يجري الأمر فيه على المسامحة.
وقد خفي هذا المعنى "التكرار" على بعض الملحدة وأشباههم ومن لا نفاذ لهم في أسرار العربية ومقاصد الخطاب والتأني بالسياسة البيانية إلى هذه المقاصد، فزعموا به المزاعم السخيفة وأحالوه إلى النقص والوهن، وقالوا إن هذا التكرار ضعف وضيق من قوة وسعة، وهو -أخزاهم الله- كان أروع وأبلغ وأسرى عن الفصحاء من أهل اللغة والمتصرفين فيها، ولو أعجزهم أن يجيئوا بمثله ما أعجزهم أن يعيبوه لو كان عيبًا!
وفي بعض ذلك التكرار معنى آخر فطن إليه بعض علمائنا ولم يكشف لهم عن سره، وأول من نبه عليه الجاحظ في كتاب "الحيوان" إذ قال1: "ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلام" أي: كأن ذلك مبالغة في إفهامهم وتوسع في تصوير المعاني لهم وتلوينها بالألفاظ، إيجازًا في موضع وإطنابًا في موضع إذا كانوا قومًا لا سليقة لهم كالعرب وليسوا في حكمهم من البيان، فلا يمضي كلامه لسننه بلا اعتراض من تنافر التركيب وثقل الحروف وجفاء الطبيعة اللغوية، فلهذا ونحوه كان لا بد في خطابهم من التكرار والبسط والشرح، بخلاف العرب، فإن الخطاب يقع إليهم على سنن كلامهم من الحذف، والقصد إلى الحجة، والاكتفاء باللمحة الدالة، وبالإشارة الموحى بها، وبالكلمات المتوسمة، وما يجري هذا المجرى، وهو قول صحيح في الجملة2 بيد أنهم أخطئوا وجه الحكمة فيه؛ إن اليهود لم يكونوا من الغلظة والجفاء والاستكراه بحيث وصفوهم، أو بحيث يجوز ذلك في صفتهم، وإن فيهم لمتكلمين، وإن منهم لشعراء والخطاب في القرآن كان يسمعه العرب واليهود جميعًا، فلا هؤلاء ينكرون من أمره ولا أولئك.
ونحن فما ندري كيف نبلغ صفة هذا الوجه المعجز الذي غاب عن العرب ولم يدركه إلا المقصودون به، وهم الذين وصفوهم بتأخر المعرفة وبلادة الذهن، وهم أحبار اليهود ورؤساؤهم وأهل العلم فيهم، وما يمكن أن يهتدي إلى هذا الوجه بليغ عربي من بلغاء ذلك العهد إلا بوحي وتوفيق من الله، فإنه في الحقيقة سر من أسرار الأدب العبراني، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصة ليعلموا أنه وضع غير إنساني، وليحسوا معنى من معاني إعجازه فيما هو بسبيله، كما أحس العرب فيما هو من أمرهم؛ إذ كان أبلغ البلاغة في الشعر العبراني القديم أن تجتمع له: رشاقة العبارة، وحسن المعرض، ووضوح اللفظ، وفصاحة التركيب، وإبانة المعنى، وتكرار الكلام لكل ما يفيده التكرار وتوكيدًا وبمالغة وإبانة وتحقيقًا ونحوها، ثم استعمال الترادف في اللفظ والمعنى، ومقابلة الأضداد وغيرها، مما هو في نفسه تكرار آخر للمحسنات اللفظية، وتحسين للتكرار المعنوي.
وإنا لنظن أن تهمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر لم تكن ابتداء إلا من قبل بعض اليهود، ثم تعلق بها بعض العرب مكابرة، فإنهم ليعرفون أن القرآن ليس بشعر من شعرهم، ولا هو في أوزانه، وأعاريضه وفنونه وطرقه ولكنهم تجوزوا إلى ذلك ببراعة العبارة، وسمو التركيب، وتصوير الإحساس اللغوي بألوان من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها مما يكون القليل من جيده خاصا بالفحل من شعرائهم. ويكون مع ذلك حقيقة الإحساس اللغوي في شعره، وأن هذا الوجه البعيد الذي لا يستقيم في الرأي إلا بعد التمحل له، والتجوز فيه من قولهم إنه "شاعر"؟ ولفظ الشاعر عندهم متعين المعنى متحقق الدلالة ليس فيه لبس ولا إبهام ولا تجوز1؟
على أن كلامنا آنفًا في عجز العرب من معارضة السورة القصيرة من القرآن, وعدم تأتيهم لذلك بالسبب الذي بيناه، لا يؤخذ من أن غير العرب المحدثين والمولدين وسائر من يكونون عربًا في اللسان دون الفطرة، يستطيعون ما لم يأت لأولئك؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساس لغوي تستبد به روعة الكلام وتصرفه بالكثير عن القليل لتمثل الأصل اللغوي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز؛ لأنه سر التركيب والنظم. فيقال من ذلك إن المولدين ومن في حكمهم تتهيأ لهم معارضة السور القصار والآيات القليلة، ويتأتون إلى ذلك بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنهم مع هذه الوسائل كلها أبعد من العرب في أسباب العجز، وأدنى إلى التقصير، وأقرب إلى الهجنة إذا هم تعاطوه؛ لأن أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنه لا يعدو حالة من حالتين:
إما أن يتعلق على الألفاظ وأوزان الكلام في اللسان ويمضي في مثل نظم القرآن، فينظر في الحرف بين الحرفين ملاءمة واحتباكًا، وفي الكلمة بين الكلمتين تناسبًا واطرادًا، وفي الجملة إزاء الجملة وضعًا وتعليقًا، ويمر ذلك حتى يخرج من السورة، وهذه أسوأ الحالين أثرًا عليه وأشدها إزراء به وأبلغها فصيحة له؛ لأنها تنادي على كلامه بالصنعة، وتدل في مقاطعه على مواضع الكلام والفتور، وتومئ في نظامه إلى عثرات الطبع إذ يعمل على السخرة ويأخذ بالمحاكاة دون أن يذهب في البيان على سجيته، ويمضي في أسلوبه الذي يتعلق بمزاجه وأحواله النفسية1. وهذا مع ضيق الكلمات القليلة أن تسع شيئًا من المحسنات أو تستوفي وجهًا من وجوهها، ومع أن المقابلة بين الأصل والمعارضة ستؤدي إلى البحث في سر النظم وطريقة التأليف من الجملة إلى الكلمة إلى الحرف، وهو مذهب استبد به نظم القرآن -كما ستعرفه- حتى كأنه استوفى من اللغة كل ما يمكن أن يتهيأ منه؛ فإما ألفاظه بأعيانها وأجراس حروفها إذا أريد مثل نظمه، وإما الخروج بالكلام إلى نظم آخر في طريقة غير طريقته؛ وذلك من أعجب ما فيه حتى ما يقضي منه البليغ عجبًا. ومهما أراغ2 الإنسان وجه التخلص إلى معارضته بمثل نظمه فإنه يرى نفسه بإزاء ألفاظه من أين دار وكيف انقلب، ولا تنصرف هذه الألفاظ عنه إلا أن يزيغ طريقة أخرى من الكلام فتتلقاه اللغة بألفاظها وتراكيبها من كل جهة حتى يسعها وتسعه.
فهذه هي إحدى الحالتين؛ والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهبًا لا يتقيد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وإنما همه في المعارضة أن يجود ويبين اللفظ ويجزل قسطه من الصناعة، وأن يتولى الكلام بالروية والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها؛ لأن مثل ذلك لا يتأتى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، إلا أن تكون مثلًا مضروبًا، أو حكمة مرسلة، أو نحو ذلك مما يقصر بطبيعته في الدلالة وتستوفي القصة أو الحالة المقرونة به شرح معناه ويكون هو روح هذا المعنى؛ فإنه ما من حكمة أو مثل أو ما يجري مجراها إلا وأنت واجد لكل من ذلك قصة قيل فيها، أو حالة قيل عليها؛ ثم لا يقع من نفسك موقعًا يهز ويعجب حتى تكون القصة أو الحالة أو ما تفهمه منهما قد سبقته إلى نفسك، أو صارت معه إلى ذلك الموضع منها، فإن أنت وقفت على حكمة لا تعرف وجهها، أو سمعت مثلًا لم يقع إليك مساقه، أو لا تكون معه قرينة تفسره، فقلما ترى من أحدهما إلا كلامًا مقتضبًا أو عبارة مبهمة, تخرج مخرج اللغز والمعاياة، واحتاج على كل حال إلى روية تتنزل منه منزلة ذلك الشرح الذي يعطيه مساق القصة أو صفة الحالة، وانظر أين هذا من أغراض السور والآيات الكريمة؟
فأنت ترى أن معارضة السور القصار1 أشد على المولدين ومن في حكمهم من إرادة الطوال بالمعارضة، وإن أرادوا مثل النظم أو لم يريدوه، على أن المعارضة لا تكون شيئًا يسمى، ما لم تكن بمثل النظم والأسلوب؛ أما النظم فقد علمت وجه استحالته، وأما الأسلوب فستعلم وجه الأمر فيه.
وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضة ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلق الآية بما قبلها، وتسببها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجول الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟
وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد وهو في القرآن سر الإعجاز إلى الأبد، وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية، متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صنعتها فقد بطل إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صور فكرية لا بد من أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور -ولا تجزئ فيها الصناعة وآلاتها- من صفاء الطبع ودقة الحسن وسلامة الذوق ونحوها مما يرجع أكثره إلى الفطرة النفسية في أي مظاهرها.
فالمعجز من هذه الصور الفكرية بإحدى الخصائص كنظم القرآن معجز إلى الأبد، متى ذهب أهل هذه الخصوصية التي كان بها الإعجاز، كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحس البياني الذين صرفوا اللغة وشققوا أبنيتها وهذبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها، وكانوا يستملون ذلك من أسرار الطبيعة في أنفسهم، وأسرار أنفسهم في الطبيعة؛ ثم ذهبوا وبقيت اللغة في أصولها وأبنيتها وطرق وضعها ومحاسن تأليفها على ما تركوها, وإن العصر الطويل من عصورها ليدبر عنها كما يموت الرجل الواحد من كتابها أو شعرائها ليس لأحدهما من الأثر في تلك الخصائص أكثر مما للآخر، على تفاوت ما بين العصر الطويل بحوادثه وأهله، وبين الرجل الفرد في خاتمة نفسه.
وذلك لأن الفطرة التي كانت تصرفها قد ذهبت، وانقطعت من الزمن أسباب الطبيعة، فليس يمكن أن تعود أو تتفق، إلا إذا استدار الزمن كيوم خلق الله السموات والأرض، وعاد التاريخ الإنساني من أوله، أو بعث أولئك العرب أنفسهم نشأة أخرى، بأيامهم وعاداتهم وأخلاقهم وسائر ما كان لهم من أسباب الفطرة. وإذا وقع هذا الأمر كله ولم يعد في الفرض من مستحيل، فكل ما هنالك أن إعجاز القرآن الكريم لا ينتهي من الأبد ولكنه يبتدئ في أولئك العرب مرة أخرى إلى الأبد.
وفي القرآن مظهر غريب لإعجازه المستمر، لا يحتاج في تعرفه إلى روية ولا إعنات، وما هو إلا أن يراه من اعترض شيئًا من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه؛ لأنه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبين عن نفسه بنفسه، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه.
ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، وعلى أنه يؤاتي بعضه بعضًا، وتناسب كل آية منه كل آية أخرى من النظم والطريقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواء في ذلك ما كان مبتدأ به من معانيه وأخباره وما كان متكررًا فيه، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل بليغ من التفاوت باختلاف الوجوه التي يصرفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثم ما يكون من فترة الطبع ومسحة النفس في جهة بعث عليها الملل، أو جهة استؤنف لها النشاط، ثم ما لا بد منه من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها، مما يختلف البلغاء في علمه والإحاطة به، أو التأتي له والانطباع عليه؛ وهذا كله معروف متظاهر في الناس لا يمتري فيه أحد.
وليس من شيء في أسلوب القرآن ويغض من موضعه، أو يذهب بطريقته أو يدخله في شبه من كلام الناس، أو يرده إلى طبع معروف من طباع البلغاء، وما من عالم أو بليغ إلا وهو يعرف ذلك ويعد خروج القرآن من أساليب الناس كافة دليلًا على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان، بيد أننا لم نر أحدًا كشف عن سر هذا المعنى، ولا ألم بحقيقته، ولا أوضح الوجه الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كل ما عرف من أساليب الناس ولم يشبه واحدًا منها، ونحن نوجز القول فيه؛ لأنه أصل من أصول الكلام في أساليب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله1.
فقد ثبت لنا من درس أساليب البلغاء، وترداد النظر في أسباب اختلافها وتصفح وجوه هذا الاختلاف، وتعرف العلل التي أثرت في مباينة بعضها لبعض، من طبيعة البليغ وطبيعة عصره أن تركيب الكلام يتبع تركيب المزاج الإنساني، وأن جوهر الاختلاف بين الأساليب الكتابية، في الطريقة التي هي موضع التباين لا في الصنعة كالمحسنات اللفظية ونحوها, إنما هو صورة الفرق الطبيعي الذي به اختلفت الأمزجة بعضها عن بعض على حسب ما يكون فيها أصلًا أو تعديلًا؛ كالعصبي البحت، والعصبي الدموي، وغير ذلك مما هو مقرر في الفروع الطبية، حتى كأن الأسلوب في إنشاء كل بليغ متمكن ليس إلا مزاجًا طبيا للكلام، وما الكلام إلا صورة فكرية من صاحبه. وقد أمعنا في هذا الاستنتاج، وقلبنا عليه كل ما نقرؤه من أساليب العربية -وهي معدودة- ومررنا على ذلك زمنًا، حتى صار لنا أن نستوضح أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، برد ذلك إلى الأوصاف النفسية التي تكون من تأثير الأمزجة2 والتي قلما تختلف في الناس، وبها أشبه بعضهم بعضًا، وبها كان التاريخ يعيد نفسه.
وأنت تتبين هذه الحقيقة إذا عرفت أديبًا ليمفاوي المزاج مثلًا، وأردته على أن يأخذ في أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبية, فإنه لا يصنع شيئًا، وإذا نتج له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلا مضطربًا متعثرًا مطبقًا بأبواب التعسف والتكلف، وكأنه نتاج بين نوعين متباينين من الخلق؛ ولكن هذا الأديب عنه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترسل المتداخل الذي ليس حذرًا ولا مساوقة كترسل الجاحظ وأضرابه فقد لا يتعلق بجيده في ذلك شيء.
ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبون كيف لا يتهيأ لأحدهم أسلوب كأسلوب ابن المقفع أو عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقل له طريقة من ذلك على كثرة ما حاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته؛ ولا يدرون أنهم يحملون سر إخفاقهم، وأن أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطًا بين أسلوبين.
وهذا عبد الحميد الكاتب رأس تاريخ الكتابة العربية وواضع طريقتها، فقد أخذ نفسه بحفظ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرادها على طريقته، ثم جاءت كتابته فنا آخر لم يستحكم اتفاق الأسلوب بينها وبين ما أثر من كلام الإمام علي، وقد قيل إن "نهج البلاغة"1 مصنوع، وضعه الشريف الرضي ونجله أمير المؤمنين، والصحيح أن فيه الأصل والمولد, وربما انفردا وربما تمازجا ونحن نستطيع بطريقتنا أن نزايل بين ما فيه من ذلك، ونبين وضعًا من وضع؛ فإن المزاجين لمختلفان كما يعرف من صفة الإمام علي ومن صفة الشريف.
من ذلك يخلص لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه؛ لأنه ليس وضعًا إنسانيا ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوبًا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بد في طريقته ونسقه ومعانيه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ؛ ولقد أحس العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم ولولاه ما أفحموا ولا انقطعوا من دونه؛ لأنهم رأوا جنسًا من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعة غير مخلوقة؟
ولما حاول مسيلمة أن يعارضه جعل يطبع على قالبه، فجاء بشيء لا يشبهه ولا يشبه كلام نفسه، وجنح إلى أقرب ما في الطباع الإنسانية وأقوى ما في أوهام العرب من طرق السجع، فأخطأ الفصاحة من كل جهاتها, وإن الرجل على ذلك لفصيح2.
وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضًا، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} صدق الله العظيم.
وبعد فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لحر اللفظ ونادر المعنى، وأخلقه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسم مادة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلامًا فتراه نفسا حية، كأنها تلقي عليك ما تقرؤه ممزوجًا بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك -إن كنت بصيرًا بالصناعة متقدمًا فيها- كل مدخل، ولا تدع فيها إحساسًا إلا أثارته، ولا إعجابًا إلا استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهًا من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه، وتقرؤه وكأنك تسمعه، ثم لا يلج إلى فؤادك حتى تصير كأنك أنت المتكلم به، وكأنه معنى في نفسك ما يبرح مختلجًا ولا ينفك ماثلًا من قديم؛ مع أنك لم تعرفه إلا ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له؛ وذلك بما جوده صاحبه، وبما نفث من روحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعًا من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعًا فكأنه مادة روحية منه. وقد رأينا بلغاء هذه الطريقة في الأساليب العربية، يتوخون إليها في تصاريف الألفاظ؛ وتمكين الأسلوب، وإرهاف الحواشي، واجتناب ما عسى أن تبعث عليه رخاوة الطبع وتسمح النفس، من حشو أو سفساف أو ضعف أو قلق، ثم التوكيد للمعنى بالمترادفات المتباينة في صورها1، ثم الاستعانة بالمعطوفات على النسق، وبالإسجاع على الأسلوب، وبوجوه الصنعة البيانية على كل ذلك، فلا تقرأ سطرًا من كلامهم إلا أصبت ماء ورونقًا، ولا تمر فيه حتى يقبل عليك بالصنعة من وجهها المصقول، وحتى يبادرك أنه التنقيح والتهذيب بين الكلمة وأختها، والجملة وضريبتها2 وحتى لو كنت ذا بصر بالصناعة، وقد عركتك وعركتها؛ وكنت أملك بصعابها، وأخبر بشعابها لعرفت فضول الكلام كيف حذفت، وألفاظه كيف نزلت، ومحاسنه كيف رصعت، ووجهه كيف مسح، وخلقه كيف عصب، ثم لاستطعت أن تعين في أي موضع من الكلام كانت زفرة الضجر من صانعه، وعلى أي كلمة وقفت أنفاس الملل، وعند أي مقطع كانت فترة الطبع، وأين ضاق وأين اتسع، وإن كان هذا الكلام الذي نحن في صفته كله بعد نسقًا واحدًا وصنعة مفرغة، يعلم ذلك من يعلمه ويجهله من يجهله.
فانظر، هل تحس شيئًا من كل ما تقدم أو من شبه ما تقدم في أسلوب القرآن الكريم؟ وهل ترى فيه من الغرابة التي يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد رصفه وحبكه، إلا أن غرابته في كونه منسجما لا غرابة فيه؟ وهل عندك أغرب من هذه السهولة التي يسيل بها القرآن، وهي في كثير من الكلام وكثير من أغراضه تقتضي الابتذال، وفي القرآن كله على تنوع أغراضه لا تقتضي إلا الإعجاز؟
وانظر، هل ترى هذه السهولة الغريبة في نفسها مما يمكن أن يحس فيها روح إنساني كسائر الأساليب، أم هي سهولة الأوضاع الإلهية التي يعرفها كل الناس ويعجز عنها الناس كلهم، ثم يعرف العلماء منها غير ما يعرفه الجهال، ثم يمتاز بعض العلماء في المعرفة بها على بعض، ثم يبقى فيها سر الخلق مع كل ذلك مكتومًا لا يعرف، وما هو سر الإعجاز!.
وتأمل، هل تصيب في القرآن كله مما بين الدفتين إلا رهبة ظاهرة لا تمويه في شيء منها، وإلا أثرًا من التمكن يصف له منزلة المخلوق من أمر الخالق، وإلا روحًا أكبر من أن يكون نفسًا إنسانة أو أثرًا من آثار هذه النفس، ثم هل تجد في أغراضه إلا ما كان في وضعه مادة لتلك الرهبة ولذلك الأثر وذلك الروح؟
هذا على أن فيه من المعاني والأغراض الوافرة، مما لو كان في كلام الناس لظهر عليه صبغ النفس الإنسانية لا محالة، بأوضح معانيه وأظهر ألوانه؛ وبصفات كثيرة من أحوال النفس، وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك مما يستفيض فيه الكلام الإنساني، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بيانًا، وأفصحهم عربية لترى فرق ما بين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإنسانية في السعة والتمكن، فإن هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثم لا دليل عليه لمن يريد أن يستدل إلا الحسن.
ومعنى آخر وهو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسر في كل عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين لم يكن لهم إلا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيرًا من حقائقه التي كانت مغيبة وفي علم الله ما يكون من بعد1؛ وإن ما عهد من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه، بل هو كلما كان أدنى إلى البلاغة كان نصا في معناه، ثابتًا في حيزه، تجمد الكلمة أو الجملة على معنى بعينه قد يستقيم وقد ينتقص، وكيفما قلبته رأيته وجهًا واحدًا وصفة واحدة؛ لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين؛ وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه.
وأكبر السبب في ذلك أن هذا القرآن الكريم ليس عن طبع إنساني محدود بأحوال نفسية لا يجاوزها، فهو يداور المعاني، ويريغ الأساليب ويخاطب الروح بمنطقها من ألوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألف الناس بهذه الخصوصية فيه، حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق؛ وتراه في أوضاعه من أجل ذلك يستجمع درجات الفهم كأن فيه غاية لكل عقل صحيح، ولكنه في نفسه وأسرار تركيبه آخر ما يسمو إليه فهم الطبيعة نفسها؛ بحيث لو هو علا عن ذلك لخفي على الناس، ولو نزل عن ذلك لما ظهر في الناس؛ لأن علوه، يفوت ذرعهم، ونزوله يوجدهم السبيل إلى معارضته ونقضه، وكلا هذين يجعل أمره عليهم غمة فلا يتجهون إلى صواب. وإنما هو في نفسه وفي أفهام الناس كما وصفه الله "الحق والميزان"1 كل الناس يعملون لفهمه ويدأبون عليه، ولكل درجات مما عملوا.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
16 ديسمبر 2024
تعليقات (0)