المنشورات

الكلمات وحروفها:

والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس؛ لأنها تلبس قطعة من المعنى فتختص به على وجه المناسبة قد لحظته النفس فيها من أصل الوضع حين فصلت الكلمة على هذا التركيب.
وصوت النفس أول الأصوات الثلاثة التي لا بد منها في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمع الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصورها النفسية، فيجري في النفس مجرى الإرادة، ويذهب مذهب العاطفة، وينزل منزلة العلم الباعث على كلتيهما، فإن البيان لا يؤلف أصواتًا لرياضة الصدر بها وصلابة الحلق عليها ولكنه صور نفسية في الطبيعة وصور طبيعية في النفس، فإذا لم يكن حيا ناطقًا يلمح بعضه بعضًا، ولم يكن بتركيبه وطريقة نظمه كأنما يحمل من معناه للنفس مادة الإرادة أو الفكر لم يجد شيئًا، وانقطع به غرضه واستهلكه انصراف النفس عنه، وصارت معانيه كأن ليس لها أصول فيها، وكأنها مادة جامدة، أو روح مادة ميتة، بل هو ربما سفل إلى منزلة الإشارة التي هي اللغة الأولى منذ كان الإنسان يتكلم بحواسه، والتي هي أضعف الكلام وأخفاه وأشد التباسًا في مذاهب المعاني النفسية؛ لأنها "أي: الإشارة" باب من النطق الصامت؛ كما أن ذلك لون من الصمت الناطق.
أما الأصوات الثلاثة التي أومأنا إليها فهي:
1- صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها، وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة وعلى نضد متساو، بحيث تكون الكلمة كأنها خطوة للمعنى في سبيله إلى النفس، إن وقف عندها هذا المعنى قطع به.
2- صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لا يخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها.
3- صوت الحس، وهو أبلغهن شأنًا، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورد عليها من وجوه البيان، أو يسوق إليها من طرائف المعاني، يدعها من موافقته والإيثار له كأنها هي التي تريده وكأنها هي التي تحاول أن يتصل أثرها بالكلام، إذ يكون قد استحوذ عليها وانفرد منها بالهوى والاستجابة.
وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة، فإن خرج مما وقفت عنده الطباع النفسية فلم يكن في بعض الكلام مقدارًا معينًا تحسه في جهة وتفقده في جهة، وتراه مرة ماثلًا ومرة زائلًا، بل صار كأنه روح للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي, فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون خلقًا روحيا؛ وكأنه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة. 

ولو تأملت هذا المعنى فضلًا من التأمل، وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه، لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم، بحيث لو خلا منه لأشبه أن يكون إعجازه صناعيا عند العرب -أن بقي معجزًا- ولو هم فقدوا فقدوا هذا المعنى من أكثره أو من أقله، لقد كانوا وجدوا مذهبًا فيه للقول ومساغًا للرد، ولظلوا في مرية منه، ثم لسارت عنهم الأقاويل في معارضته واعتراضه.
ذلك بأن صوت النفس طبيعي في تركيب لغتهم، وإن كان فيها إلى التفاوت كمالًا ونقصًا، وصوت الفكر لا يعجزهم أن يستبينوه في كثير من كلام بلغائهم، أما صوت الحس فقد خلت لغتهم من صريحه وانفرد به القرآن وقد كانوا يجدونه في أنفسهم منذ افتنوا في اللغة وأساليبها ولكنهم لا يجدون البيان به في ألسنتهم؛ لأنه الكمال اللغوي الذي تعاطوه ولم يعطوه، وإنما كانوا يبتغون الحيلة إليه بألوان من العادات وضروب من التعبير النفسي؛ إذا هي اتصلت بالحس البياني الذي ميزتهم به الفطرة أشبهت أن تكون استواء حسيا، وبهذا خلص إليهم كلام شعرائهم وخطبائهم، وبلغ من أنفسهم ومازجها، وكان منها في محل وموقع؛ على أننا نقرأ اليوم أكثره ولا نجده بتلك المنزلة1.
وإنما مثل ذلك كمن يفتتن بالجمال، فهو إذا رأى الوجه الجميل كانت نظرته إليه كلامًا نفسيا لو جهد البلغاء جهدهم على أن يحكموه بالعبارة كما هو في نفسه لأعيتهم وسائل البلاغة أن يمهدوا منها لهذه الحالة النفسية، ولجائوا من كلامهم بالحس المغمور الذي لا يعدم النقص والاضطراب مما حسبوه قد تكامل واستقر2.
وهذا مثال يطرد في كل ما أنت واجده من البلاغة العربية, فلا ترى شيئًا منها يروعك ويملك عليك المذاهب من نفسك بالتئام أجزائه ورشاقة معرضه وحسن تصويره، إلا وقعت منه على ضرب من الاستعانة بالخيال الشعري أو العادة الثابتة أو العاطفة المطمئنة أو نحوها, والقرآن لا يستعين بشيء من ذلك في إحكام عبارته والتأني بها إلى النفس وانتظام أسباب التأثير فيها، وليس إلا أن تقرأه حتى تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماته وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى بأنه كلام يخرج من نفسك، وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتًا، واستحال كل ما فيك من قوة الفكر والحس إليها وجرى فيها مجرى البيان، فصرت كأنك على الحقيقة مطوي في لسانك.
وأعجب شيء في أمر هذا الحس الذي يتمثل في كلمات القرآن أنه لا يسرف على النفس ولا يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كل أنواع التأثير عليها، فلا تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخونها الملال. ولا تزال تبتغي أكثر من حاجتها في التروح والإصغاء إليه والتصرف معه والانقياد له، وهو يسوغها من لذتها ويرفه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان1، مع أن أبلغ ما اتفق للبلغاء لا تجمع منه النفس بعض ذلك حتى يتعسفها ويثقل عليها وتبتلي منه بالتخمة وسوء الاحتمال، وحتى لا تكون البلاغة في سائره بعد ذلك إلا طعمة خبيثة؛ لأنها جاءت من وراء القصد وفوق الحاجة فلا تعدم النفس أن تجد من جماله قبحًا، ومن صوابه خطأ؛ ولا يمتنع أن يكون فيه النافر والقلق والمحال عن وجهه وما إلى ذلك مما تسكن النفس إلى تأمله وتستجم بتصفحه والبحث عنه واعتراضه في سياق الكلام ونسق التركيب.
وهذا أمر ليس في قدرة أحد أن ينفيه عن كلام البلغاء متى امتد به النفس واتسقت له المعاني وتداخلت فيه الأغراض، ولا نرى أحدًا يقدر على أن يثبت منه شيئًا في القرآن؛ لأن طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة، كما يكون للخالص من ضروب الموسيقى، على ما هو معروف من تأثيرها في النفس ووجه هذا التأثير، بل هو النفس العربية كالحداء للإبل العربية؛ مهما كدها السير لم يزدها إلا إمعانًا فيه ولم تستأنف منه إلا نشاطًا واعتزامًا حتى ليذهب بها المراح وكأنها تريد أن تسابق الحروف والأصوات المنبعثة من أفواه من يحدونها.
ولو ذهبنا نبحث في أصول البلاغة الإنسانية عن حقيقة نفسية ثابتة قد اطردت في اللغات جميعًا وهي في كل لغة تعد أصلًا في بلاغتها، لما أصبنا غير هذه الحقيقة التي لا تظهر في شيء من الكلام ظهورها في القرآن وهي: "الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي". وما تعرف في هذه الأساليب العربية خاصة -وقد مخضناها جميعًا وفررنا باطن أمرها- إلا إسرافًا على هذا الحس، أو تراجعًا من دونه؛ فأما أمر بين ذلك على أن يكون قصدًا، وألا يكون إلا المحض من هذا القصد، وأن لا تجده إلا سواء في محض الاعتبار من حيث أجريته على هذه الحقيقة فلا يكون من شأنه أن يلتوي معك في جهة ويلتوي عليك من جهة، فهذا ما لا نعرفه على أتمه وأبينه إلا في القرآن، ولا نعرف قريبًا منه إلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بين الجهتين ما بينهما2.
ولما كان الأصل في نظم القرآن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة3 كما تجد من كل ذلك في أساليب البلغاء بل نزّلت كلماته منازلها على ما استقرت عليه طبيعة البلاغة، وما قد يشبه أن يكون من هذا النحو الذي تمكنت به مفردات النظام الشمسي وارتبطت به سائر أجزاء المخلوقات صفة متقابلة بحيث لو نزعت كلمة منه أو أزيلت عن وجهها، ثم أدير لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها، لم يتهيأ ذلك ولا اتسعت له اللغة بكلمة واحدة، كما سنبينه في موضع آخر، وهو سر من إعجازه قد أحس به العرب؛ لأنهم لا يذهبون مذهبًا غيره في منطقهم وفصاحة هذا المنطق، وإنما يختلفون في أسباب القدرة عليه ومعنى الكمال فيه، ولو أنهم وجدوا سبيلًا إلى نقص كلمة من القرآن لأزالوها وأثبتوا فيه هذا الخطأ أو ما يشبه الخطأ في مذهبهم، إذ كان من المشهور عنهم مثل هذا الصنيع في انتقادهم وتصفحهم بعض على بعض في التحدي والمناقضة1.
لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجزي واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد شرط الفصاحة؛ لأن لكل لفظ صوتًا ربما أشبه موقعه من الكلام ومن طبيعة المعنى هو فيه والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان بغير ذلك أشبه.
فلا بد في مثل نظم القرآن من إخطار معاني الجمل وانتزاع جملة ما يلائمها من ألفاظ اللغة، بحيث لا تند لفظة، ولا تتخلف كلمة؛ ثم استعمال أمسها رحمًا بالمعنى، وأفصحها في الدلالة عليه، وأبلغها في التصوير، وأحسنها في النسق، وأبدعها سناء، وأكثرها غناء، وأصفاها رونقًا وماء، ثم اطراد ذلك في جملة القرآن على اتساعه وما تضمن من أنواع الدلالة ووجوه التأويل ثم إحكامه على أن لا مراجعة فيه ولا تسامح، وعلى العصمة من السهو والخطأ في الكلمة وفي الحرف من الكلمة، حتى يجيء ما هو كأنه صيغ جملة واحدة في نفس واحد وقد أديرت معانيها على ألفاظ في لغات العرب المختلفة فلبستها مرة واحدة، وذلك ولا ريب مما يفوت كل فوت في الصناعة، ولا يدعيه من الخلق فرد ولا جماعة. 

ولقد صارت ألفاظ القرآن بطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحدًا من البلغاء لا تمتنع عليه فصح هذه العربية متى أرادها، وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه، وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها؛ لأنها في القرآن تظهر في تركيب ممتنع فتعرف به، ولهذا ترتفع إلى أنواع أسمى من الدلالة اللغوية أو البيانية التي هي طبيعية فيها، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم وتكون بتكريبها المعجز طبقة عقلية في اللغة، ومن ثم تتنزل الأفكار منزلة التوهم الطبيعي الذي يؤثر بالصفة ما يؤثر بالشيء الموصوف بل بما وفي وزاد، كما ترى فيمن يهتز للشعر ويطرب له ويملكه رق أعصابه النفسية، فإنه يبصر الشاعر الفحل الذي أعجب به فيتوهم في رأسه المعنى الكريم والخيال البارع والتعبير الذي هو ضرب من الوحي، وكأنما يتخيل من الرأس صومعة إلهية تهبط عليها ملائكة الحكمة والبيان، وإنه ليتوهم ذلك فيهتز له هزة عصبية واضحة تعرفها في انتشائه والتماع عينيه واستطارة ألحاظه وما تنطق به معارف وجهه، وإن ذلك ليأخذ منه ما تأخذ القصيدة البارعة والكلمة النادرة، وإنه على ذلك في نفسه لشديد، فهذا ما سميناه باب التوهم الطبيعي، وهو بمنزلة من الحقائق النفسية1.
ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضًا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقًا في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة:
من ذلك لفظة "النذر" جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا، فضلًا عن جسأة هذه الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام, فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه؛ ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال "لقد"، وفي الطاء من "بطشتنا" وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو "تماروا"، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من "تماروا" فإنها ما جاءت إلى مساندة لراء "النذر" حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون "أنذرهم" وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في "النذر".
وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبًا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم فيه النظر وأحكمته الروية وراضه اللسان، وليس منها إلا متخير مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يلتمس وعلى أي جهة يستطاع، وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها -فضلًا عن القرآن كله- وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية؟ والبليغ من الناس متى اعتسف هذا الطريق ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه فقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتناثرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لج في المكابرة لجت البلاغة في الإباء، فمثله كمن يمشي مستديرًا ويحسب أنه يتقدم؛ لأنه -زعم- لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده؛ ولأن نظره ما يزال ثابتًا فيما يستقبله!
إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يلم به من تلك الجهة أو يجعل طريقة عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهامًا ووحيًا، لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسر له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من التواء ومن مغمز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة من جملة أو بيتًا من قصيدة أو شطرًا من بيت، لا يطرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقًا؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضربًا موسيقيا، وينظم نظمًا مطردًا ويهدف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف، ويعصب الحركة بالحركة، ويجري بعضًا من بعض, فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ، فليس يستقيم في ألفاظ ذات معان، فهو لغو من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرنًا, ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة.
وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلًا بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجًا سريا، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقًا وأخفها تركيبًا, إذ تراه قد هيأ لها أسبابًا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات؛ إذا تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء؛ لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عرب ولم يكن في الأصول عربيًا: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها؛ ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان.
وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة "ضيزى" من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1 ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات2 فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا، وفي تآلف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقدن بهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.
وإن تعجب فعاجب هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غنتين في "إذًا" و"قسمة" وإحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي, وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضًا.
ثم الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} 3 فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية، زائدتان، أي: في الإعراب. فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإن المراد بالآية الأولى، تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام, وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب1 تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".
وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب, ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعه ويقصر به علمه، ولا يدع مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مطلعه ومأتاه فيمضي القول على ما خيل؛ ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها؛ ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال, ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخطأ جهة ثالثة إلا أن يصر على الخطأ.
ومما لا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صبت على الجملة صبا, أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعًا ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة "اللب" فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء في مكانها "القلب"، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثم فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة؛ تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها؛ نصبًا أو رفعًا، أو جرا؛ فأسقطها من نظمه بتة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة "الجب"، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة.
وكذلك لفظة "الكوب"، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ "أكواب" الذي هو الجمع. 

و"الأرجاء" لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعًا وترك المفرد -وهو الرجا أي: الجانب- لعلة لفظه، وأنه لا يسوغ في نظمه كما ترى.
وعكس ذلك لفظة "الأرض"؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسر الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجد لها كل فكر سجدة طويلة، وهي في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ولم يقل: وسبع أرضين؛ لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالًا، وأنت فتأمل -رعاك الله- ذلك الوضع البياني، واعتبر مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائع، وبالغ الأسباب، وأحكم ما قبله وما وراءه.
ومن الألفاظ لفظة "الآجر" وليس فيها من خفة التركيب إلا الهمزة وسائرها نافر متقلقل لا يصلح مع هذا المد في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلما احتاج إليها لفظها ولفظ مرادفها وهو "القرمد"1 وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألطف عبارة وأرقها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف يفضح الصبح, وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} فانظر، هل تجد في سر الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرع أو أبدع من هذا؟ وأي عربي فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يملكه حسه ولا يسوغه حقيقة نفسه ولا يجن به جنونًا ولا يقول آمنت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالقرآن معجزة2؟ وتأمل كيف عبر عن الآجر بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله: "فأوقد" وما يتلوها من رقة اللام، فإنها في أثناء التلاوة مما لا يطاق أن يعبر عن حسنه، وكأنما تنتزع النفس انتزاعًا.
وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر؛ فإنها تحقر شأن فرعون، وتصف ضلاله، وتسفه رأيه، إذ طمع أن يبلغ الأسباب أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سلمًا، إلا شيئًا يصنعه هامان من الطين3! 

وما يشذ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروف ومكانه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئًا فيما ليس فيه شيء.
تأمل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ "الطوفان والجراد والدم" وأثقلها "القمل والضفادع" فقدم "الطوفان" لمكان المدين فيها؛ حتى يأنس اللسان بخفتها؛ ثم الجراد وفيها كذلك مد؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئًا بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لماكن تلك الغنة فيه؛ ثم جيء بلفظة "الدم" آخرًا، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفًا؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب.
وأنت فمهما قلبت هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع؛ لو قدمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأغنتك أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أحالك ذلك عن قصد الفصاحة وقطعك دون غايتها، ثم لخرجت الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسواء؛ ليس يظهر أخفها من أثقلها؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيها ليس فيه إعجاز بطبيعته.
وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقص في أمثلته لأنه أمر مطرد، تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة الوضع ولن تستوي هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن ههنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث. 














مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید