المنشورات
صفة محمد صلى الله عليه وسلم:
ليس في التاريخ العربي كله من جمعت صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثيق إسنادها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل لا يعدل به شيء في بيان حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوة الملكات، واستخرج الصفات النفسية التي حصل من مجموعها أسلوب الكلام على هيئته وجهته، وانفراد بما عسى أن يكون منفردًا به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركًا فيه؛ وعلى هذه الجهة نأتي بطرف من صفته صلى الله عليه وسلم.
فعن الحسين بن علي "رضي الله عنهما" قال: سألت هند بن أبي هالة، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وصافًا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع1 وأقصر من المشذب2، عظيم الهامة، رجل الشعر3 إن انفرقت عقيقته فرق4 وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنبه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ من غير قرن5 بينها عرق يدره الغضب؛ أقنى العرنين6 له نور يعلوه7 ويحسبه من لم يتأمله أشم؛ كث اللحية أدعج8، سهل الخدين ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان9 دقيق المسربة10، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا11 سواء البطن والصدر12 بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس13
أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعيين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين؛ رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف1 سبط العصب خمصان الأخمصين2 مسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال تقلعًا ويخطو تكفؤًا، ويمشي هونًا3 ذريع المشية: إذا مشى كأنما ينحط من صبب4، وإذا التفت التفت جميعًا5 خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام".
قلت: صف لي منطقه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت6، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه7 ويتكلم بجوامع الكلم8 فضلًا لا فضول فيه ولا تقصير9 دمثًا ليس بالجافي ولا المهين10، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم شيئًا، لم يكن يذم ذواقًا11 ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه؛ جل ضحكه التبسم12، ويفتر عن مثل حب الغمام". ا. هـ.
ولقد أفاضوا في تحقيق أوصافه صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك ألفاظًا ومعاني ونقلوا الكثير الطيب من هذه الأوصاف الكريمة في كل باب من محاسن الأخلاق، مما لا يتسع هذا الموضع لبسطه، فتأمل أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسم منها أروع ما عسى أن تدل عليه دلائل الحكمة، وسمة الفضيلة، وشدة النفس وبعد الهمة، ونفاذ العزيمة، وإحكام خطة الرأي، وإحراز جانب الخلق الإنساني الكريم.
وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها وتجمع الإنسانية بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه ملك من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلك من الأفلاك، وما خص بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكون ويعمه، ولا كان فردًا في أخلاقه إلا لتكون من أخلاقه روح الأمة.
وإذا رجعت النظر في تلك الصفات الكريمة واعتبرتها بآثارها ومعانيها رأيت كيف يكون الأساس الذي تبنى عليه فراسة الكمال في نوع الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روح الإنسان في أعماله، أو أثر هذه الروح، أو بقية هذا الأثر، فإذا تأملتها متسقة وتمثلتها قائمة في جملة النفس، وأنعمت على تأمل صورها الكلامية التي تبعث الكلام وتزنه وتنظمه وتعطيه الأسلوب وتجمله بالرأي وتزينه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغ ما أنت واجده من الأساليب العصبية في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعف، ولا تزايله الحكمة ولا تخذله الروية، ولا يباينه الصواب، بل يخرج رصينًا غير متهافت، متسقًا غير متفاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يضبطه العقل، ولا يتوثب به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه بل تراه على استواء واحد في شدة وقوة واندماج وتوفيق.
وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قلما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم. وقلما يكون أبلغ الناس وأفصحهم في كل دهر إلا عصبيا على تفاوت في نوع المزاج وحالته؛ فإن من الأمزجة العصبي البحت، والمنحرف إلى مزاج آخر ولكل من النوعين حالة قائمة بالكلام، وصفة خاصة بالأسلوب.
وبالجملة، فإن الندرة في الأساليب العصبية أن تجد منها ما إذا أصبته موثق السرد متدامج الفقرة محبوك الألفاظ جيد النحت بالغ السبك أن تجده مع ذلك رصينًا مثبتًا في نسق معانيه وألفاظه، لا يتزيد بهذه ولا يتكثر بتلك، لا يخالطه من فنون الأقاويل ما تستطيع أن تنفيه، ولا يتولاه ما تتأتى إليه من وجه التخطئة؛ وأن تجده بحيث يمتنع أن تقول فيه قولًا، أو تذهب فيه مذهبًا؛ وبحيث تراه من كل جهة متسايرًا لا يتصادم ومطردًا لا يتخلف.
ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوبًا يجتمع له من تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواء في الحدة والرصانة، مبنيا من الفكرة بناء الجسم من اللحم، متوازنًا في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مسحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار, وتراه في ظاهره وحقيقته كالنجم المتقد, يكون في نفسك نورًا وهو في نفسه نار.
لسنا نعرف أسلوبًا لأحد البلغاء هذه صفته، على كثرة ما قرأنا وتدبرنا واستخرجنا، وعلى أنه لم يفتنا من أقوال الفصحاء قول مأثور، أو كلام مشهور إلا ما يمكن أن يجزئ بعضه من بعضه في هذه الدلالة، فإنا لم نقرأ كل ما كتب عبد الحميد، وابن المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرأنا لهم كثيرًا أو قليلًا، وبعض ذلك في حكم سائره؛ لأن الأسلوب واحد والطريقة واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود، ولم نجد ألبتة في هذا الباب غير أسلوب أفصح العرب صلى الله عليه وسلم فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمينا لك آنفًا، بل تجده قصدًا محكمًا متسايرًا يشد بعضه بعضًا وكأنه صورة روحية لأشد خلق الله طبيعة، وأقواهم نفسًا وأصوبهم رأيًا، وأبلغهم معنى، وأبعدهم نظرًا، وأكرمهم خلقًا؛ وهذا وشبهه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعث عليها الطبع الحديد والخلق الشديد، ويخرجها من كل أمر متكافئة متوازنة، بحيث يظهر أثر النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفس على حدة. ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .
وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين قال له رضي الله عنه: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدبك "أي: علمك"؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" وقوله مثل ذلك لعلي أيضًا، كما سيأتي في موضعه؛ ثم قوله: "أنا أفصح العرب" وما كان من هذا المعنى؛ لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خص الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ الاستحالة راجعة إلى الطبع والجبلة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن يخرق الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمرًا من أمره، وأنى لامرئ بذلك من العرب غير النبي صلى الله عليه وسلم؟
وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا، وإنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامع مجتمع، لا يذهب في الأعم الأغلب إلى الإطالة بل كالتمثال, يأتي مقدرًا في مادته ومعانيه وأسلوب الجمع بينها وربط الصورة بالمعنى كما ستأتي عليه بعد.
وأما الآن فإنا نقول قول أديبنا الجاحظ رحمه الله، فإنه بعد أن وصف هذا الكلام السري بما نقلناه عنه في موضعه خشي أن يظن بعض الناس أنه أفرط على ذلك الوصف، وبالغ في الحمل عليه مما حمل، فقال: ولعل من لم يتسع في العلم، ولا يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره.
"وكلا والذي حرم التزيد عند العلماء. وقبح التكلف عند الحكماء. وبهرج الكذابين عند الفقهاء لا يظن هذا إلا من ضل سعيه".
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
16 ديسمبر 2024
تعليقات (0)