المنشورات

نسق البلاغة النبوية:

قد قلنا في بيان أسلوب كلامه صلى الله عليه وسلم، أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتضبة، لا يشبهه في العبارة المبسوطة، ولا يستوي له الشبه مع ذلك في كل قليل ولا في كل مقتضب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغة ونسقًا وبيانًا.
ونحن الآن قائلون في نسق هذا الأسلوب؛ ليتأدى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض.
إذا نظرت فيما صح نقله1 من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مسدد اللفظ محكم الوضع جزل التركيب. متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات, فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفًا مضطربًا؛ ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه؛ ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتيًا لسره في الاستعمال؛ ورأيته في الثانية حسن المعرض، بين الجملة، واضح التفضيل، ظاهر الحدود جيد الرصف، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهًا، ولا ترى اضطرابًا ولا خطلًا، ولا استعانة من عجز، ولا توسعًا من ضيق، ولا ضعفًا في وجه من الوجوه.
وهذه حقيقة راهنة؛ دليلها ذلك الكلام نفسه بجملته وتفصيله، لا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى؛ وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنو المأخذ، وإصابة السر، وفصل التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه وأمثالها من مذهبه صلى الله عليه وسلم في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خص به دون الفصحاء، وكان له خاصة، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن ومن المنزعة الجيدة، واللسان المتمكن, رأيت من جملة ذلك نسقًا في البلاغة قلما يتهيأ في مثول أغراضه وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء، إذ يجمع الخالص من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة, بعضها إلى بعض.
أما اللغة فهي لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمنصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان فبيان أفصح الناس نشأة، وأقواهم مذهبًا، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوة، وتبصير الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية.
وأين من ذلك الفصحاء والبلغاء وأنى لهم؟ وما قط عرفنا بليغًا سلمت له جهات الصنعة في كلامه -من اللغة والبيان والحكمة- على أتمها، بحيث لم يرغ عن قصد الطريقة، ولا تحيفته إحدى هذه الثلاث بإدخال الضيم على أختيها في كلامه واستبانة أثرها فيه وغلبتها عليه، وإنما هو جهد الممرن من هذه الفئة أن يصنع الصنعة، ويغلو في الإتقان، ويبالغ في التهذيب والتنقيح، ويعمل بما وسعه لتخليص كلامه، ويتلوم على ذلك1 ويتقدم فيه ويتأخر متأملًا ههنا وههنا من أعطاف الكلام، ثم هو بعد ذلك إن سلمت له الحكمة لم تسلم له صنعة اللغة في حس الهداية إلى الاستعمال والتمكن منه، وإن خلصت له هذه لم يخلص إلى أسرار البيان في تركيبها وتنضيدها، فإن هو أفضى إليها لم يخلص إلى النادر منها، مما يخرج الكلام في قبوله وحسن معرضه وصفاء رونقه ودقة تأليفه كأنه وضع تركيبي مرتجل، له غرابة الارتجال في الوضع المفرد الذي هو من أصل اللغة، فإن قوة البيان إنما هي في هذه الغرابة وفي جهتها ومقدارها على ما عرفته من قبل. 

ومن أجل ذلك تقرأ كلام البليغ من الناس، فترى الصنعة المحكمة، والطبع القوي، والصقل البديع، واللفظ المونق، والحكمة الناصعة، ولكنك تصيب أكثر ذلك أو عامته على وجهه كما هو، ليس فيه سر من أسرار البيان، ولا دقيقة من أوضاع اللغة، ولا غرابة من التركيب تتحير فيها، وتقف عندها وتعطف برأيك عليها كلما هممت أن تمضي في الكلام، وتردد نظرك في مصادرها ومواردها، على إصابتك من الصناعة، وبلوغك من الأدب، ورسوخك في حكمة البلاغة، فإن البصير بذلك ليمر في كلام البلغاء مرا، لا يعدو أن يستحسنه ويعجب به ويستمرئ أسلوبه، حتى إذا انتهى إلى وجه من وجوه هذه الغرابة البيانية رأى في الكلام عقلًا من العقول تنطوي عليه الأحرف القليلة، وكأنه يكاشفه بنفسه وقد ثبت على نظره كما تثبت العاطفة، فما يعفو ولا يضمحل1 حتى يكون هذا المتبين الذي يطلب أسرار الكلام قد وقف عنده ذاهلًا، وحبس عليه الفكر يتأمل به فرق ما بين عقله وهذا العقل، ويروز نفسه2 منه مختبرًا، ويتعرف من تلك الأحرف القليلة مسافة ما بين العجز والقدرة إن كان عاجزًا عن مثله، أو ما بين قوة وأخرى إن كان قادرًا عليه؛ فكأن اللفظة الواحدة من تلك الجملة إنما هي مقياس للنبوغ والابتكار وكأن الجملة ليست كلامًا من الكلام، ولكنها سر من أسرار النفس يلقي إليه شغلًا طويلًا لم يكن هو من قبل في سبب من أسبابه. وما كان إلا في أحرف وكلمات ينشر منها ويطوي، فقد صار إلى كلمات مسحورة تنشر هي من نفسه وتطوي.
هذا، على أن كلامه صلى الله عليه وسلم ليس مما تكلف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يتلوم على حوكه وسرده، ولكنه عفو البديهة، ومساقطة الحديث، مما يجريه في مناقلة الكلام ومساق المحاضرة، وأنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثله في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الرواية. ومراجعة الطبع، والغلو في الصنعة، وعلى أن لهم السبك الخالص والمعدن الصريح, والبيان الذي يتفجر في الألسنة لرقته وعذوبته واطراده.
والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المورقة في روائها ونضرتها حتى تتسق له أسباب من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمرًا، والثمر بعد متفاوت في أشجار البلاغة، نضجًا وماء وحلاوة وكثرة، وما أثمرت من ذلك بلاغة غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم بلاغة الأرض في كلامه صلى الله عليه وسلم، والناس بعد ذلك أجمعوا حيث طاروا أو وقعوا.
فمن هذه الأوضاع قوله عليه الصلاة والسلام: "مات حتف أنفه" وقد شرحناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حنين: "الآن حمي الوطيس" والوطيس: هو التنور مجتمع النار والوقود، فمهما كانت صفة الحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلام أكلًا، وكأنما هي تمثل لك دماء نارية أو نارًا دموية! 

وقوله في حديث الفتنة: "هدنة على دخن"، والهدنة: الصلح والموادعة والدخن: تغير الطعام إذا أصابه الدخان في حال طبخه فأفسد طعمه1.
وهذه العبارة لا يعدلها كلام في معناها، فإن فيها لونًا من التصوير البياني لو أذيبت له اللغة كلها ما وفت به، وذلك أن الصلح إنما يكون موادعة ولينًا؛ وانصرافًا عن الحرب، وكفا عن الأذى؛ وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة فإذا بني الصلح على فساد، وكان لعلة من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يسترح غيره من أفعالها، كما يغلب الدخن على الطعام، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان، والطعام من بعد ذلك مشوب مفسد.
فهذا في تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة2 وثم لون آخر في صفة هذا المعنى، وهو اللون المظلم الذي تنصبغ به النية "السوداء" وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة "الدخن".
ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سر البيان في العبارة كلها، وبها فضلت كل عبارة تكون في هذا المعنى وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تطفأ الحرب، فهذه حرب قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نارًا أخرى. كما يلقى الحطب الرطب على النار تخبو به قليلًا، ثم يستوقد فيستعر فإذا هي نار تلظى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جرم من تحته، وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتها معنى من المعاني يمكن أن يتصور في العقل إلا وجدت اللون البياني يصوره في تلك اللفظة لفظة "الدخن".
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت في نفس الساعة" يريد أنه بعث والساعة قريبة منه. فوصف ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهو لفظة النفس كما يحس المرء بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنما أفرد اللفظة ولم يقل: "بعثت في أنفاس الساعة" لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنفس من الأنفاس، وليس المراد من قرب الساعة أنها قدر اليوم أو غد على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها. وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئًا فيما مضى، وإن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة، فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مرية فيها.
وفي تلك اللفظة معنى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلًا فكانت الساعة بعيدة ثم قصر هذا العمر فبدأت الساعة تتنفس، وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟ 

وبقي معنى رائع في لفظة "النفس"؛ وذلك أن يقال على المجاز: فلان في نفس من ضيقه، إذا كان في سعة ومندوحة وقد عرف الضيق ما هو بعد أن شد عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتية وأنها قريبة. وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل الناس لآخرتهم فإنه يوشك أن لا يعملوا؛ ثم ليعمروا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.
ومن تلك الأوضاع قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أرض بسماتها"، وقوله: "يا خيل الله اركبي" "ولا تنطح فيها عنزان" 1.
وقوله لأنجشة، وكان يسير بالنساء في هوادجهن، وهو يحدو بالإبل وينشد القريض والزجر، فتنشط وتجد وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطرابًا شديدًا فقال عليه الصلاة والسلام: "رويدك رفقًا بالقوارير" 2.
وقوله في يوم بدر: "هذا يوم له ما بعده" 3، إلى أمثال لذلك كثيرة؛ ولو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جدا ورجع أمر هذا الفصل أن يكون في معنى التأليف كتابًا برأسه إن كنا لا نلتزم إلا جهة البيان وحدها.
وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب صلى الله عليه وسلم في هذه اللغة ابتداء ولم تسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعد، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها، ولا يفي بها كلام في تصوير أجزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليها، وهذا الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثله، أو الكلمتين، أو الكلمات القليلة القليلة. ولو ذهبت تحصيه في العربية ما رأيته إلا معدودًا، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العد وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة الخاصة، حتى لا تساويها في ذلك لغة أمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بعض وكل، وإن عدوا لنا واحدًا "صفرناه" ولا فخر4. 

وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسائل بين أيدينا؛ فخذ فيها حيث شئت فإنه كلأ حابس فيه كمرسل1.
على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواء ورأيت كلامه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال خاصة مما يطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلة تطوع لك القدرة عليه وتمد لك أسباب المطمعة فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقًا ألبتة، إذ لا تحس منه نفسًا إنسانية، ولا أثرًا من آثار هذه النفس، ولا حالة من حالاتها حتى تأنس إلى ذلك على التوهم، ثم تتوهم الطبع والمعارضة من هذه الأنسة، فتمضي عزمك وتقطع برأيك، وتبت القول فيه كما يكون لك قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحس والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.
بيد أن ذلك مما لا يستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلت منه وفاتت سمت ما قدرت لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلًا إلى حدها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلامًا تعرف حده في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحسن.
وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأن لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قول الجاحظ في "كتاب النبوة" وإن كان لم يهتد إلى تعليله: "لو أن رجلًا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم -أي: العرب- سورة قصيرة أو طويلة، لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها".
ولا يقذفن في روعك أنه صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه؛ وتكلف له، وتأتى لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما لجاء منه ما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي كل ما به صار القرآن معجزًا, تتوهم ذلك الذي يكون من جمع النفس القوية، وكد الذهن الصحيح، والتوفر بأسباب الفطرة والصنعة على عمل هذا أمره وشأنه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لخرج مخرج غيره من فصحاء العرب، قولًا واحدًا2؛ لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنما نوادر الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عمل لا تبلغ فيه الحيلة، ولا يؤتيه البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تنفذ شيئًا من شيء وتهيئ مادة من مادة، بل كان ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضرب من الإلهام، يقوى بقوة الاستعداد له ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصنعة الكلامية ولو وقعوا في ملء رءوسهم منها1، ولا يمكن أن تنفذ فيه قواعد التأليف البياني التي تصف البلاغة وضروبها وأسرارها؛ بل هو يتفق لهم اتفاقًا على غير طريقة معروفة ولا وجه يسلكونه إليه وقد يعسر على أبلغ الناس في حين قد تيسر له بأسبابه، واتجه إليه بالرغبة، وجمع عليه النفس الحريصة، وحسبه منقادًا فإذا هو عنان لا يملك2.
ولو أن هذا الضرب كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الروية ويحتال عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام, لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه غصة الريق التي لا يعتصر منها3، وإنما يبعثها قدر، ويسيغها قدر، ومع أن الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم كان أمير كلامه، والواسطة في نظامه، والدليل على إلهامه.
فهذه واحدة، والثانية أنه صلى الله عليه وسلم لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تطمع غيره في كلامه، وتجعله أبعد الأشياء عن مظنة الإعجاز بجانب الكلام ورأى ألفاظه تتنفس تنفسًا آدميا، بجانب تلك الألفاظ التي تهب هبوبًا كأن لها جوا فوق كون من اللغة.
وليس الأمر في هذه المعارضة -كما علمت- إلى مقدار الهمة في بعدها وقصرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومهاونته، بل هو أمر فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما توجد في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغة ما بلغت ونازلة حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوطأ له بأسبابه لا تحدثه غير أسبابه، وما عرف الناس يومًا من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنسانًا أخرج من نفسه غير ما في نفسه.
ومن خواص القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصًا من طبيعته، وذهابًا عن قصده وسنته، فكلما اندفع إلى ذلك ارتد بمقدار ما يندفع، وكلما كد طبعه رأى من تبلده على حساب ما يكده فإذا ترك ذلك حينًا فعفا من تعبه4 وتراجع إليه الطبع ثم عاد، كانت الثانية أشد عليه من الأولى؛ لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس وهكذا حتى يكون هو أول من يتهم نفسه بالعجز، ويرمي طبعه بالاختيال، ويصف كلامه بالنقص، فإنه إنما يطمح في تلك المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنها، بل يمنعها مما تنازع العمل عليه، ويردها عن وجهها ويشق عليها في النزوع، ويكدر بها تكديرًا يفسد عليها كل ما هي فيه من ذلك العمل، فليست تجد منه أبدًا إلا طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صنعت عليه ونشأت فيه.
فإذا طال ذلك به وبها، أمات حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضربها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدى طبعه فيما كان ينجح فيه، وتبدل من شأنه الأل شأنًا ثانيًا كيفما أداره رآه سواء غير مختلف. وذلك كله من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.
وضرب آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما مرت مثله من ذلك النحو الذي يكون مجتمعًا بنفسه منفردًا في الكلم القليلة، وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم اللمحة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالة، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوت عليها كلامًا طويلًا، والوقوف عندها شأوًا بعيدًا وهو القليل في كلام البلغاء إلى حد الندرة التي لا يبنى عليها حكم، ولكنه كثير رائع في البلاغة النبوية، لما عرفت من أسباب قلة كلامه صلى الله عليه وسلم، فإن هذه القلة إن لم تنطو على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تعد في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلها في الكلام فضلًا، ولا يعرف أمرها في البلاغة أمرًا.
فمن ذلك حديث الحديبية1، حين جاءه بديل بن ورقاء يتهدده ويحذره فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي، معهم العوذ المطافيل2 وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قريشًا قد نهكتهم الحرب 3 فإن شاءوا ماددناهم مدة ويَدَعوا ما بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس. وإلا كانوا قد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمرئ هذا حتى تنفرد سالفتي هذه4، ولينفذن الله أمره".
فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى تنفرد سالفتي هذه" وكيف تصور معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه؛ لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا يخاف منها؛ لأن الكثرة فيها من الله، والاستماتة التي لا تردد معها؛ لأن الأمر فيها إلى الله، وانظر كيف يصف العزيمة الحذاء، وكيف تقرع بالوعيد والتهديد، وكيف تغني في جواب القوم ما لا تغنيه الرسائل الطوال، حتى لتقطع الشهادة عليها قطعًا بما في نية صاحب الجواب من عزم أمره ووثاقة عقده، فكأنها صورة واضحة لما استقر في نفسه من كل ما عسى أن يرجعه جوابًا، وما عسى أن يتهيأ له في باب الحزم، وإنها لكلمة بمعركة!
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك" فتأمل هذا التذييل العجيب، فإنك لا تقضي منه عجبًا، ولن يعجز إنسان أن يهم بالخير، يفعله أو يفعله، وأن ينزع إلى الشر فيمسك عنه، فإن عجز حتى عن هذا فما فيه آدمية، ورحمة الله تنال الإنسان بأسباب من خيره، ومن شره إذا كان فيه الضمير الإنساني، وهذا في الغاية كما ترى. 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید