المنشورات

الارتجال والبديهة والروية:

قد يكون لفظ الارتجال مأخوذًا من الانصباب والسهولة، ومنه قيل: شعر رجل إذا كان سبطًا مسترسلًا غير جعد، أو من ارتجال البئر، وذلك أن ينزلها الرجل برجليه من غير حبل؛ لأن الشعر لا يسمى مرتجلًا إلا إذا كان انهمارًا واندقاقًا لا تعمل فيه ولا تروئة، وكانت هذه سنة العرب في جاهليتهم، إذ هم لم يحتذوا الشعر على مثال، بل كان ذلك نوعًا من كلامهم متى بعث أحدهم عليه انبعث، ولما كانت أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسباب ذلك ما تجد النفس في لذة المغالبة والمدافعة، كالمماتنة والمقارضة ونحوها، وما يرفه عليها ويحسم عنها كالحداء وما في حكمه مما ينشدونه على أفواه القلب وعند الانكفاء من الغارات وأمثال ذلك، ومما يغمر النفس فتكون فيه طافية راسبة، ومن هذا النوع شعر العواطف، كالغزل والرثاء والاستغاثة والتحريض وما إليها، ومن أجل ذلك ابتدأ الشعر عند العرب بالبيتين والأبيات يقولها الرجل في حاجته، حتى وجد فيهم من جعل تلك الأسباب همه وهو الشاعر، فتركوا ذلك له وصار من عدا الشعراء منهم كما كان العرب في أوليتهم: لا يكاد الرجل يجد سبب الأبيات حتى ينتزعها من نفسه وينبعث بها طبعه، ثم فعلت الوراثة في ذلك فعلها الشعر وصار في الارتجال شيء من الصنعة يكفي له تقليب العين وخطرة الوهم، فيجيء الشاعر بالقصيدة فيها من بديع الشبيه وبارع الاستعارة وكرم الديباجة وحسن الرونق، لا يتعاون عليها إلا طبعه ومادته من الأسباب التي قدمناها، فإذا اعترض النفس ما يصرفها عن تلك الأسباب، تبلد الطبع ونضبت المادة، فربما استحالت البديهة بعد الارتجال، وربما استحالت الروية بعد البديهة، كما وقع لعبيد بن الأبرص وهو من أقدم شعراء الجاهلية وأقواهم غريزة، إذ يقول له النعمان في يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض! قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب!
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد!
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول بعد روية ومراجعة. وقد عدوا نفرًا من الشعراء في عصور مختلفة كانوا في هذه الحال كما يكونون في غيرها من أحوال الأمن والدعة، وذلك لقدرتهم وسكون جأشهم وقوة غريزتهم، كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي، وعبد يغوث بن صلاءة، وتميم بن جميل، وعلي بن الجهم وغيرهم. قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إحالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا "ج2: البيان والتبيين".
واستمر ذلك شأنهم حتى نشأ الذين تكسبوا بالشعر والتمسوا به الصلات والجوائز، وجعلوه للسماطين وأيام الحفل، كالنابغة وزهير والأعشى وغيرهم فلم يجدوا من السبب ما وجد الذين قبلهم؛ لأن الشاعر إذا مدح اليد وأشاد بالصنيعة لم يكن له بد من التكلف والاستكراه، إذ يعلم أنه لا يقبل منه عفو الكلام؛ ولأن ذلك المقام لا تجدي فيه غير المبالغة التي تكون من استعراض الصفات وتخير المعاني والتغلغل والإغراق وأشباهها، فكان من ذلك القيام على الشعر ومعاودة النظر فيه وتتبع الشاعر على نفسه حتى يخرج شعره مستويًا في الجودة؛ لأن الطبع في مثل تلك المعاني يندفع ويتبلد، ويضعف ويتجلد، فإذا لم تجتذب الألفاظ ولم تجتلب المعاني جاء الشعر جديدًا مرقعًا أو لبيسًا ممزقًا، فلا يصلح أن تكون حلة الفخر التي لا تبلى على الدهر؛ وقد يكون من أسباب ذلك أيضًا أن الشعر لما فشا فيهم بعد نبوغ امرئ القيس ومن في طبقته، وكان الشعراء يستعينون عليه بالروية استجماعًا لمحاسنه خشي آخرهم أن يقصر عن أولهم إذا هو لم يجار سنة النمو والارتقاء، فكان يبيت المعاني يلتمس لها وجوه الصنعة، ويدع القصيدة تمكث عنده زمنًا طويلًا يردد فيه نظره ويقلب رأيه ويرصد أوقات نشاطه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره؛ وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا "ج1: البيان".
وأول من ذهب لذلك منهم طفيل الغنوي؛ وكان يسمى محبرًا لحسن شعره "العمدة" وكلا السببين قد اجتمعا في زهير؛ لأنه كان يروي شعر ثلاثة من الفحول منهم طفيل، وكان مذهب شعره المديح كما ستراه في الكلام عنه؛ ولذلك كان أول من اشتهر بالثبات المحكك1 من الشعر، وهو الذي كان يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه ينظم القصيدة منها في شهر ثم لا يزال ينقحها ويهذبها حتى يمر عليها الحول؛ غير أن مثل زهير من أهل السيادة والورع لا يمدح لرغبة ولا يكذب في مديح، فكان بديهيا أن يكون من بعض بواعثه على الرواية مغالبة الأنفة ومدافعة الطبع والتماس عذر النفس الأبية في صدق المديح، وهذا كله مما لا يغني فيه الارتجال شيئًا.
وما ظهرت الصنعة والتجويد في الشعر حتى اتقته العرب اتقاء شديدًا؛ لأنها رأت الشاعر في ترويته إنما يسم كلماته فلا يرمي بها إلا قاتلًا، ولا جرم كان ذلك أيضًا سببًا من الأسباب في ضعف الارتجال؛ لأن شاعر الجاهلية الآخرة ميزان الأحساب، لا يصلح إلا لأن يرفع ويضع، غير أن سبيل هؤلاء [الصنعيين] في غير تلك الطرائق سبيل غيرهم من أهل الطبع، فهم يرتجلون في الحماسة والهجاء وغيرهما.
ثم جاء الإسلام فكانت أسباب الشعر في أوله على ما كانت في أولية العرب؛ إذ كان مثل حسان ينصب له منبر في مؤخر المسجد لينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك مر المخضرمون برونق الطبع ووشي الغريزة، حتى نبغ الحطيئة وهو من هو في الضراعة والجشع وسقوط الهمة، وكان راوية زهير وابنه، فاستعبده الشعر، واستفرغ مجهوده، وكان الأصمعي يسميه هو وزهيرًا وأشباههما "عبيد الشعر" لذلك. ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض الماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل التفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية. وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، وأشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا إنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم نعثر على رواية في ارتجالها بعد المخضرمين إلا ما رواه ابن خلدون عند ذكر استقبال عبد الرحمن الناصر من أمراء الدولة الأموية بالأندلس لرسل الملوك الوافدين من رومة والقسطنطينية وغيرهما؛ قال بعد أن وصف من جلال مجلس الخلافة ما قال: وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل.... وكان من خطباء هذا المجلس منذر بن سعيد "توفي سنة 355هـ وهو فقيه شاعر كاتب خطيب جريء على ذلك كله، وقد أورد الجلسة صاحب "نفح الطيب" وفصل أبهة ذلك المجلس، وحالة الخطباء فراجعه هناك "ص171 ج1: نفح الطيب".
ولا يبعد أن يكون في كل عصر من يرتجل مثل ذلك حتى في المتأخرين إلا أنه لا يجيء بالجيد ولا يباري أهل الروية، ومن عجائب ذلك في المتأخرين ما ذكره صاحب "خلاصة الأثر" في ترجمة أبي السماع البصير المصري أنه كان أعجوبة الزمان وأحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر؛ قال: وكانت طريقته إذا أراد الارتجال أن يبدأ بإنشاد قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجي، وفي أثناء إنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحًا كان أو غزلًا أو غيرهما. "ص139 ج1" ولم نقف على نظير لهذه الرواية إلى عصرنا، ولكن هناك عجيبة أخرى في ارتجال الرسائل ذكرها الثعالبي في "اليتيمة" "ص31 ج4".
أما البديهة فهي عند سببها في كل عصر وزمن، وقد جمع علي بن ظافر كتابًا حسنًا في ذلك سماه "بدائع البدائه" وهو مشهور.
ومن البديهة سريع يقارب الارتجال، وهو الذين تجوز المتأخرون في تسميته بالارتجال، وفي كتب الأدباء أشياء كثيرة منه "كالذخيرة" لابن بسام و"القلائد" وغيرهما. 

[كان عمود الارتجال القافية, وربما حدا بعضهم بالرجز حتى إذا شردت عليه القافية تركه وسجع بغيره] *.
[من أسباب ضعف الارتجال ... غلبة اللحن ومعاشرة اللحانين، حتى صار الشاعر يحتاج إلى الإطراق ونحو ذلك] *. 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید