المنشورات
الاختراع والاتباع:
لم يغفل علماء الأدب العربي عن معنى الجهبذة والنبوغ العبقري، وهم يسمون ذلك بقسميه الاختراع والإبداع، والفرق بينهما عندهم أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ، قالوا: فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمر وحاز قصب السبق "ج1 ص177: العمدة" وإنما ذلك معنى شخصية الكلام التي تميزه وتجعله خلقًا وابتكارًا فيكون عملًا ذاتيا يدل على صفة شعرية متخصصة، وليس يصح لقب الشاعر لغير هذه الصفة وإلا فهو منتحل أو مغتصب. واشتقاق الاختراع من التليين، يقال: بيت خرع إذا كان لينًا، والخروع منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى أو لينه حتى أبرزه، وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل الحبل جديدًا، ليس من قوى حبل نقضته ثم فتلته فتلًا آخر.
والاختراع في شعر العرب مما يظلمون به عند المحدثين والمولدين؛ لأن أولئك أهل البادية وتربية العراء وشعراء الفطرة، وهؤلاء أهل الحضارة التي تفتق القرائح بما تنوعه من المآخذ المختلفة؛ ولذلك كانت المعاني قليلة في شعر الجاهلية تكاد تحصر لو حاول ذلك محاول، وإنما نريد المعاني التي لا يشتركون فيها بطبيعة الاجتماع، والتي لو اختلطت جميع أشعارهم لتزايلت وانفصل بعضها عن بعض، فكأن كل معنى قلب فيه سر حياة القصيدة أو القطعة، كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فهذا المعنى الذي لا تصوره إلا الحواس الدقيقة، قد سلمته له الشعراء جميعًا فلم ينازعه فيه أحد، وقد مكن مزية الاختراع فيه أنه وصف طبيعي ثابت لا يطاوع في التوليد والتشقيق إلا بالعنت والاستكراه، ومن أجل ذلك لم يأخذه أحد إلا فضحه؛ وسنلم به في ترجمة امرئ القيس.
وقد جاء المخضرمون ولا مزية لهم على شعراء الجاهلية في الاختراع، ثم جاء بعدهم شعراء الصدر الأول من الإسلاميين فزادوا في ذلك بعض الزيادة بما مكنتهم منه الحالة الدينية، ثم كانت طبقة جرير والفرزدق والأخطل وأصحابهم فذهبوا في التوليد والإبداع والاختراع مذهبا واضحًا، وطرقوا لذلك طريقًا سابلة، ثم أتى أبو المحدثين بشار بن برد وأصحابه فنظروا إلى مغارس الفطن ومعادن الحقيقة ولطائف التشبيهات فأحكموا سبرها وساروا إليها بالفكر الجيد والغريزة القوية، وقد التقى إليهم طرفا العربية في منطقة البداوة الزائلة ومفتتح الحضارة الثابتة، فأصبح شعرهم خلقًا جديدًا، ووقف شعر من قبلهم عند الاستشهاد بألفاظه، حتى لتجر اللفظة الواحدة قصيدة بطولها, وكان من افتتان هؤلاء المحدثين أن نصبوا لأنفسهم منزلة تضارع المنزلة التي وقف عندها الشعر القديم، فصار يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، وعلماء الأدب مجمعون على أن أكثر الشعراء المولدين اختراعًا وتوليدًا، أبو تمام وابن الرومي.
وهذا الأخير كان ضنينًا بالمعاني حريصا عليها: يأخذ المعنى الواحد ويولده فلا يزال يقلبه ظهرًا لبطن، ويصرفه في كل وجه وفي كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد يتخصص به ويزيد بذلك مادة النبوغ العبقري في شعره؛ وقد تجد من يجيء بعده ممن لا يعد في طبقته قد أخذ هذا المعنى بعينه فولد فيه زيادة ووجهه جهة حسنة تدل البصير بالصناعة على أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة. وذكر ابن رشيق في موضع من كتابه "العمدة" عزمه على تأليف كتاب يحصي فيه معاني الجاهلية ويذكر ما انفرد به المحدثون وما شركهم فيه المتقدمون، كصفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لم يتسع له كتاب العمدة، وشرط [على نفسه] في ذلك إحصاء المخترعات للمحدثين وإقامة البرهان منها على أن ابن الرومي أكثر الشعراء اختراعًا. وابن رشيق [أهل لهذا] التأليف، ولكنا لم نعرف عنه خبرًا غير ما ذكره هو.
والمعاني بما فيها من صفة الحياة وفسحة الروح خاضعة كالأحياء لناموس الانتخاب الطبيعي الذي يقضي بتنازع البقاء، ولولا ذلك لأقفل باب الاختراع والتوليد؛ لأنه إذا اقتصر الناس على طبقة واحدة من الشعر ولم يكن في طباعهم ما يساعد معنى من الكلام على إماتة معنى آخر أو إسقاطه والحلول محله لم يبق من الكلام ما يتفتح للتوليد، ولم يبق من القرائح ما يتمخض للولادة؛ ولو تتبعت معاني الشعر السائرة ورتبتها ترتيبًا تاريخيا على العصور التي قيلت فيها، لأمكنك أن تضع من ذلك تاريخًا لهذه الوفيات المعنوية، ومن أمثلة ذلك ما قاله الجاحظ أن الناس كانوا يستحسنون قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
فلما قال الحطيئة:
متى تأته تعشوا إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
سقط بيت الأعشى "ج1: البيان والتبيين" مع أن بيت الحطيئة مولد من قول الأعشى، والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة إذا كان الشاعر ليس آخذًا على وجهه.
الاتباع وأنواعه:
فالتوليد اتباع، ولكن هذا الاتباع على نوعين: اتباع في طريق المعنى، واتباع للمعنى نفسه؛ والأول يكون إلمامًا وملاحظة واسترواحًا، والثاني لا يكون إلا غصبًا وسرقة واستكراهًا، وذلك دليل البلادة وسقوط الهمة وضعف القدرة والعجز؛ وقد ذكروا للاتباع في الشعر أنواعًا سموها بأسماء خاصة، وهي ألقاب محدثة وضعوا أكثرها في القرن الرابع, وذكرها الحاتمي في حلية المحاضرة، وتبسط فيها ابن رشيق "ص16 ج2: العمدة" وأورد مثالًا لكل من هذه الألقاب فارجع إليها إن شئت.
ولا غنى للشاعر -جاهليا أو إسلاميا- عن اتباع غيره من الشعراء، وأول ذلك الرواية، وقد كانت شائعة إلى أن انتشر الخط وكثرت الدواوين فصار الشعراء يتلقون عنها، وقد وقفنا على أسماء بعض الشعراء الذين رووا لغيرهم وتخصصوا بهذه الرواية لهم مبعثرة في بطون الأوراق فجمعناها، وهي على قلتها كافية في الدلالة، فمنهم امرؤ القيس، كان راوية أبي دؤاد الإيادي "ص61 ج1: العمدة" وكان زهير راوية أوس بن حجر، وهو زوج أمه، وطفيل الغنوي "ص132 و155 ج1: العمدة" وكان الحطيئة راوية زهير وابنه "ص78 ج7: الأغاني" ولم يقتصر على الرواية لهما بل كان يروي شعر الحجازيين أيضًا وكان منقطعًا لهم "ص34: الطبقات" وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل "ص8 ج7: الأغاني" وبلغ من اعتباره إياه أنه كان إذا استنشد لنفسه بدأ فأنشد لجميل "ص132 ج1: العمدة" وكان أبو ذؤيب الهذلي راوية ساعدة بن جوبة الهذلي "ص154: الطبقات" ولا نظن استغراق هذا الباب ممكنًا إلا أن يكون قد كتب فيه أحد المتقدمين من أئمة الأدب.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
16 ديسمبر 2024
تعليقات (0)