المنشورات

الهجاء

نحن في تأريخ هذه الأبواب لا نبسط فلسفة الأخلاق، ولا نكتنه أسرار تركيبها نريد أن نلون أجزاء الصورة الإنسانية بالأصباغ حتى نعين منها ما يكون صباغة بالشعر وما لا يكون؛ لأننا لو ذهبنا نعد لذلك لأدخلنا في هذا الكتاب كتابًا آخر، وأحدهما لا محالة مخرج الثاني من غرضه الذي وضع له؛ فالكلام في الهجاء يحتمل كثيرًا من فلسفة النفس، كتعريف العيوب والرذائل وما يتأثر بها من الأخلاق والأحوال التي يكون فيها هذا التأثير على اختلافه لينًا وشدة، إلى ما يتصل بهذه المعاني أو يقاربها. فنحن نتجاوز ذلك كله إلى التاريخ. وإنما نلم فيه بما لا يحسن بنا أن نتخطاه وإن ترامت أطراف الكلام، وكان الإسراع وسيلة السائر فيه إلى الأمام.
العرب أمة أخلاق، لم تصفها الحضارة، ولم يذهب بخشونتها النعيم والترف، فهي جارية طبيعية في مجرى العادات الوراثية الذي تخطه العصور ويتحيف جوانبه تيار الاجتماع؛ وبديهي أن ذلك المجرى لا يكون مطردًا على اتساق، بل هو يستقيم وينحرف، وتلتئم جوانبه وتتمزق على مقتضى سنة التكون الطبيعي الذي يرجع في كل ظواهره إلى الاتفاق [وقذفات] الأقدار. لذلك يرى العربي نفسه خلقًا محضًا، ولكن فطرة الحياة غطت على بعض جوانب منه وكشفت عن بعضها. فهذا يظهر منه جانب الكرم وإن كان شجاعًا، ويظهر من الآخر جانب الشجاعة وإن كان كريمًا، وهلم جرا، حتى إنهم لا يميزون بوصف من الأوصاف إلا من تناهى فيه، وتجد ذلك في أمثالهم، فيقولون: أكرم من فلان، وأشجع من فلان، وأحلم من فلان؛ ولكنهم لا يميزون من يستجمع الفضائل الكثيرة ويكون كلها غالبًا ظاهرًا، فلا يضربون به أمثالهم؛ لأنه عندهم دون من يستغرق الخلق الواحد ويستوفي مناقبه على ما يعرفونها؛ فلما قضى عليهم نظام الحياة بالمغالبة، كان جانب التنافس بالأخلاق أغلب فيهم على جانب المنازعة بالأعمال؛ لأن العمل مظهر الخلق، وقلما يأتون شيئًا من أعمالهم إلا ابتغاء أن يظهروا تلك الخلاق أو يكتسبوا ما يساعدهم على المبالغة في إظهارها، وذلك بين في حروبهم ومنافراتهم وكثير من عوائدهم؛ فكان من الطبيعي أن يدعو إلى ظهور الهجاء.
ولهذا لم يكن الهجاء عند العرب في اعتبار السباب والإفحاش؛ ولكنه سلب الخلق أو سلب النفس، أو فصل المرء من مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة وتركه عضوًا ميتًا يتواصفون ازدراءه ويحركه جسم الأمة حركة جامدة كلما نهض أو تقدم.
لا جرم كان للهجاء عندهم ذلك الشأن؛ وعدوا بكاء الأشراف منه أول مكارمهم كما ستعرف؛ وكان السباب والإفحاش فيه مما يحيله عن أن يكون هجوًا ولا يضر المهجو شيئًا؛ فالهجاء عندهم قسمان: قسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابًا مقذعًا، بل هو [التضريب] بين الأحساب، وتعليق الكلام على الأخلاق يمتص منها مادة الحياة؛ وقسم هو السباب، ولا يعبئون به؛ لأنه هجو المهجوين بطبيعتهم وهم السفلة؛ فليس يجنح إليه الشاعر إلا إذا عجز عن إصابة المغمز الذي يكمن فيه الألم من الموضع الصحيح. ولما قدم النابغة بعد وقعة حسي سأل بني ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم؟ فأنشدوه؛ فقال: أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك؛ ولكني سأقوله؛ ثم قال:
فإن يك عامر قد قال جهلًا ... فإن مطية الجهل السباب
الأبيات "ص139 ج2: العمدة" فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شق عليه وقال: ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة؛ جعلني القوم رئيسًا وجعلني النابغة سفيها جاهلًا وتهكم بي!.
ولذلك السبب كان أليق ما يسمى به الهجاء "شعر التاريخ" لأن الهجاءة مؤرخ يذكر مثالب الناس ومناقبهم، ويقص من التاريخ ما يستعين به على إحكام معنى الهجاء؛ حتى إنك لتقرأ كثيرًا من الشعر الذي أثر عنهم في ذلك وفيه ذكر العادات وأخبار من التاريخ فلا تجد فيه شعرًا، حتى إذا عرفت شرحه وتأويله وجدت فيه شعرًا لا يكون ذلك المنظوم إلا إشارة إليه، وذلك كقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضض يابن القين قيسًا ليجعلوا ... لقومك يومًا مثل يوم الأراقم
كأنك لم تشهد لقيطًا وحاجبًا ... وعمرو بن عمرو إذا دعوا يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب والصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
وقد أوردها المبرد في كتابه "الكامل" "ص134 ج1" وشرحها، وعلى هذا التأويل قال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. ومن الهجاء بالعادة قول ابن لسان الحمرة لرجل من بني أسد مر به: قد علمت العرب يا معشر بني أسد أنكم أشدها بياض جعور! فعطف عليه الأسدي فضربه بالسيف حتى برد. وتأويل ذلك أنه عيره بأنهم لا يعرفون البقل ولا يعرفون إلا اللبن؛ لأنهم يقولون إن الجعور قد تبيض إذا كان قوت صاحبها اللبن. وقال الشاعر يهجو ناسًا منهم بذلك "ص75 ج2: الحيوان":
عراجلة بيض الجعور كأنهم ... بمنعرج الغيطان شهب العناكب
وهذا وإن كان تطرفًا في الهجاء إلا أنه شائع فيهم؛ لأنهم يهجون بكل شيء حتى بأكل الكراث، كما عير به جرير عبد قيس بالبحرين "ص81 ج2: الكامل"؛ وبأكل السخينة، وعيرت بها قريش، وبأكل لحوم الكلاب، وعيرت به بنو أسد؛ وبأكل لحوم الناس أيضًا ... وهجيت به هذيل وأسد وبلعنبر وباهلة "ص139 ج1: الحيوان"؛ وبكثرة الأكل، وهجيت به تميم.
والأشعار في ذلك مأثورة تفيض بها الكتب. 











مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید