المنشورات

الهجاء في القبائل:

وكان هجاء الشريف عندهم مما [ينذرع] إلى هجاء قبيلته وتشعيثها؛ لأنه لا يشرف إلا إذا فخرت القبيلة به وجعلته معقد ألسنتها فيما بينها وعنوان شرفها بين القبائل، وكان له عز الأمر والنهي، وعقد المنن في أعناق الرجال وسرور الرياسة، وثمرة السيادة. قال الجاحظ في سبب ذلك: وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده، فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكر وجد من يغلط فيه ويحمله عنه. ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجي زرارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة. وإنما ذكرت لك هؤلاء؛ لأنهم من سؤددهم، وطاعة القبيلة لهم، لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة، ولا مذهب حذيفة بن بدر، ومذهب عيينة بن حصن، ولا مذهب لقيط بن زرارة -أي: في إعنات الناس بطغيانهم وبغيهم كما كان يفعل كليب إذ كان يحمي موقع السحاب فلا يرعى ونحو ذلك- "ص156 ج1: الحيوان. وص237 ج10: ابن الأثير" فإن هؤلاء وإن كانوا سادة فقد كانوا يظلمون.... وكان أولئك السادة لم يكن شأنهم أن يردوا الناس إلى أهوائهم، وإلى الانسياق لهم بعنف السوق وبالحرب في القود؛ وهم مع ذلك قد هجوا بأقبح الهجاء. ومتى أحب السيد الجامع والرئيس الكامل قومه أشد الحب، وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حب قومه "ص31 ج2: الحيوان". هذا إذا لم يتوثب إليه، ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال في اللحاق به، كخبر أوس بن حارثة بن لأم الطائي حين ألبسه النعمان الحلة التي جعلها لأكرم العرب، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة! فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلًا لا أرى في بيتي أثاثًا ولا مالًا إلا من عنده؟ ثم أخذها بشر بن أبي خازم أحد بني أسد وهجاه. والخبر بجملته ساقه المبرد في "الكامل" "ص137 ج1". ولذلك لم يكن يسلم من ضروب الهجاء إلا القبائل المغمورة والمنسية، حيث لا يكون فيها خير كثير ولا شر كثير، وحيث يكون محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، فيسلمون من أن يضرب بهم المثل في قلة ونذالة، بخلاف القبائل التي يعرفونها بالمناقب والمثالب. وقد تكون القبائل متقادمة الميلاد، ويكون في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شر وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان؛ ومثل فزارة ومرة وثعلبة؛ ومثل عبس وعبد الله بن غطفان؛ ثم غنى وباهلة واليعسوب والطفاوة؛ فالشرف والخطر في عبس وذبيان؛ وربما ذكروا القبائل الوضيعة ببعض الذكر، مثل اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأشجع الخنثى؛ ولكن البلاء كله لم يقع إلا بغنى وباهلة، وهم أرفع من هؤلاء وأكثر مناقب، ولكنهم لقوا من صوائب سهام الشعراء ومر الهجاء كأنهم آلة لمدارج الأقدام ينكب فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش، حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالًا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، قال الجاحظ: ومن هذا الضرب تميم بن مر وثور وعكل وتيم ومزينة، ففي عكل ومزينة من الشرف ما ليس في ثور؛ وقد سلم ثور إلا من الشيء اليسير مما لا يرويه إلا العلماء؛ ثم حلت البلية وركد الشر والتحف الهجاء على عكل وتيم، وقد شعثوا بين مزينة شيئًا؛ ولكنهم حببهم إلى المسلمين قاطبة ما تهيأ لهم من الإسلام حين قل حظ تيم فيه.
ولولا الربيع بن خثيم وسفيان الثوري لما علم العامة أن في العرب قبيلة يقال لها ثور؛ ولشريف واحد ممن قبلت تميم أكثر من ثور وما ولد؛ وكذلك بلعنبر قد ابتليت وظلمت وبخست مع ما فيها من الفرسان والشعراء ... ومن نوادر الرجال إسلاميين وجاهليين؛ وقد سلمت كعب بن عمرو؛ فإنه لم ينلها من الهجاء إلا الخمس والنتف.
ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، وهذا من أول كرمها، كما بكي مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علاثة، وكما بكى عبد الله بن جدعان "ص176 ج1: الحيوان"؛ أما مخارق بن شهاب فذكر في البيان أنه وفد رجل من بني مازن على النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: كيف مخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيد كريم، وحسبك من رجل يمدح نفسه ويهجو ابن عمه، ذهب إلى قوله.
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وجار ابن قيس جائع يتحوب
ولعله بكى لذلك؛ وأما علقمة بن علاثة فقد ذكر ابن بسام في "الذخيرة" أنه لما سمع قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟ وأما بعد الله بن جدعان، فئقد قال الجاحظ في "الحيوان": إنه بكى من بيت لخداش بن زهير ولم يذكره، ولم نقف عليه؛ وكان خداش قد هجاه من غير أن يكون قد رآه؛ وكذلك فعل دريد بن الصمة؛ لأنه رأى فيه شرفًا ونبلًا فأراد أن يضع شعره موضعه "ص 254: سرح العيون".
ومن أسباب الهجاء في القبائل أيضًا أن يكون القبيل متقادم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة؛ فيتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام؛ فإنه يستبين حينئذ لكل من رآهم أو سمع بهم أضعاف الذي هو عليه من القلة والضعف، وتكون البلية في شرف إخوتهم؛ وكذلك عندهم كل أخوين إذا برع أحدهما وسبق وعلا الرجال في الجود والإفضال أو في الفروسة والبيان؛ فإنهم يقصدون بمآثر الآخر في الطبقة السفلى لتبين البراعة في أخيه، وقد يكون مع ذلك وسطًا من الرجال، فصارت قرابته التي كانت مفخرة هي التي بلغت به أسفل السافلين "ص179 ج1: الحيوان".
ولما صار للهجاء في القبائل هذا الشأن واعتقدوه سياسة، صار البيت الواحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيدور بهم في الناس دوران الرحى؛ كما أهلك الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم قول الشاعر فيهم:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم
فلزمهم هذا القول؛ وكما أهلك ظليم البراجم قول الآخر:
إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظليم فقحة البراجم
وكما أهلك بني عجلان قول النجاشي:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل 

وكما أهلك نميرًا قول جرير يهجو الراعي:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا
وهذه القصيدة تسميها العرب: الفاضحة، وقيل: سماها جرير: الدماغة، وقد تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه عامر؛ هربًا من ذكر نمير، وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة "ص26 ج1: العمدة"، وكان بنو نمير من جمرات العرب الذين تجمعوا في أنفسهم ولم يداخلوا معهم غيرهم في أنسابهم بالمحالفة ونحوها؛ والجمرات هم بنو نمير؛ وبنو الحارث بن كعب؛ وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض؛ قال المبرد في "الكامل": وأبو عبيدة لم يعدد فيهم عبسًا في "كتاب الديباج" ولكنه قال: فطفئت جمرتان وهما: بنو ضبة؛ لأنها صارت إلى الرباب فحالفت؛ وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة؛ لأنها لم تحالف "ص377 ج1: الكامل" وقد أجاب شاعرهم جريرًا فلم يغن عن قومه شيئًا.
وعلى الضد من ذلك خبر بني أنف الناقة؛ فإن الواحد منهم كان إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة ابن قريع بن عوف بن مالك؛ فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
حتى صاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة "ص29 ج1: العمدة". وقد بلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبب عليهم وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق؛ وربما شدوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص حين أسرته بنو تميم يوم الكلاب، وأبياته في ذلك مشهورة "ج2: البيان" وأسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام؛ فجعل يصرخ: يا صباحاه! ويا بني تميم؛ أطلقوا من لساني "ج2: البيان".
ثم صاروا يستنجدون بالشعراء ليحضوا لهم الأشراف في رد الغارة وغيرها فيخشى الشريف إن هو لم يغثه أن يفضحه بهجائه "ص170 و171 ج1: الحيوان".
وكما سلم بعض القبائل من الهجاء بالخمول والقلة، كغسان وغيلان من قبائل عمرو بن تميم سلمت بعض القبائل بالنباهة العالية من مضرة الهجاء فكأنها لم تهج، مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الذبان بن عبد المدان، وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرة الهجاء إلا خامل جدا أو نبيه جدا "ج2: البيان".
وذكروا عن حجناء بن جرير أنه قال لأبيه: يا أبت إنك لم تهج أحدًا إلا وضعته إلا التيم. فقال جرير: إني لم أجد حسبًا فأضعه ولا بناء فأهدمه "ج2: البيان".
وقد سمر يزيد الرقاشي ذات ليلة عند السفاح فحدثه بحديث ساقه فيه أشعارًا هجيت بها ثلاث وأربعون قبيلة، وقد حكاه المسعودي في "مروج الذهب - ص2" فالتمسه هناك.
وكان الشعراء يعرفون تاريخ الهجاء في القبائل حتى ليستطيعون أن يميزوا القبائل التي انتضلت بينها تلك السلام من القبائل التي تحاجزت فلم يكن بينهما هجاء، وقد أنشد الكميت بن زيد نصيبًا الشاعر فاستمع له، فكان فيما أنشده قوله يصف غليان القدر:
كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارًا
"يشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيها بالموج الذي يرتفع". فقال لهلنصيب: ما هجت أسلم غفارًا قط، فاستحيا الكميت فسكت "ص 335 ج1: الكامل". 















مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید