المنشورات

الرثاء

الشعر في المراثي إنما يقال على الوفاء، فيقضي الشاعر بقوله حقوقًا سلفت، أو على السجية إذا كان الشاعر قد فجع ببعض أهله، أما أن يقال على الرغبة فلا؛ لأن العرب التزموا في ذلك مذهبًا واحدًا، وهو ذكر ما يدل على أن الميت قد مات؛ فيجمعون بين التفجع والحسرة والأسف والتلهف والاستعظام، ثم [يذكرون] صفات المدح مبللة بالدموع، حتى قال قدامة: إنه ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك؛ ومن أجل ذلك لم يتبسطوا في معاني الرثاء والفجيعة من [الموجودات] وما يتبع ذلك من درس العواطف المحزنة والبحث عن أماكن الألم في نفس الإنسان، كما كان ذلك عند اليونان، إذ كان من شعرائهم من تخصيص للفواجع وعرف بصفات الحزب كأوريبيذس وغيره، وكما كان عند العبرانيين، وهم أبكى الناس، حتى إن الرثاء من الصفات المميزة لأشعارهم؛ ويرجع ذلك النقص في العرب إلى أسبابه الطبيعية مما يتعلق بالبداوة والأخلاق التي تكون عنها، وقد مر ذكر ذلك في مواضع كثيرة.
ومن تلك الأخلاق كانوا لا يرثون قتلى الحروب؛ لأنهم ما خرجوا إلا ليقتلوا، فإذا بكوهم كان ذلك هجاء أو في حكمه؛ ولكن الرثاء لمن يموت حتف أنفه؛ أو يقتل في غير حرب من حروب التاريخ، كالغارة ونحوها، فحينئذ يعددون المآثر ويبالغون في الفجيعة كأن هذا الموت غير طبيعي فيمن يستحق أن يموت.
وقد مر في الكلام عن شواعر العرب شيء عن موضعهن من الرثاء؛ لأنهم أشجى الناس قلوبًا عند المصيبة وأشدهم جزعًا على هالك؛ لما ركب في طبعهم من الخور، وفي قلوبهن من سهولة الانخلاع. أما الرجال فلم يشتهر منهم بالرثاء إلا أفراد عضتهم المصيبة بما لم يبرأ من الألم فصاحوا تلك الصيحة التي ينجذب معها القلب إلى الشفتين.
قال المبرد في "الكامل" "ص390 ج2": وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبّن. وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت وفي كنفها تصلح ... ثم ذكر منها قصيدة أعشى باهلة التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي وساق خبرها. وكذلك روى قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وهذه القصائد التي يشير إليها المبرد هي عيون المراثي التي رواها محمد بن أبي الخطاب القرشي في كتابه "جمهرة أشعار العرب" وهي لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب، ومتمم بن نويرة. ولم يذكروا منها شعر النابغة في حصن بن حذيفة، ولا مراثي أوس بن حجر في فضالة بن كلدة، ولأوس هذا فيه مراث جيدة، من أحسنها القصيدة السائرة التي أولها:
أيتها النفس أجملي جزعًا ... إن الذي تحذرين قد وقعا!
وبديهي أن الرثاء لا يتعلق بالنسيب كما يتعلق به المدح والهجاء وغيرهما ولكن وردت للعرب في ذلك قصيدة واحدة, قال ابن الكلبي: لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة:
أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعافية وأخلفت كل موعد
وقال ابن رشيق: "وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة وحين أخذ ثأره وأدرك طلبته، وربما قال الشاعر في مقدمة الرثاء: تركت كذا أو كبرت عن كذا وشغلت عن كذا، وهو في ذلك كله يتغزل ويصف أحوال النساء، وكان الكميت ركابًا لهذه الطريقة في أكثر شعره، فأما ابن مقبل فمن جفاء أعرابيته أنه رثى عثمان بن عفان بقصيدة حسنة أتى فيها على ما في النفس ثم عطف وقال:
فدع ذا ولكن علقت حبل عاشق ... ...................... "الأبيات"
والنسيب في أول القصيدة على مذهب دريد خير مما ختم به هذا الجلف على تقدمه في الصناعة "ص121 و122 ج2: العمدة".
ومما حدث بعد الإسلام في طرق الرثاء الجمع بين التعزية والتهنئة، وهو مخصوص بالخلفاء في تعزية من يلي عهد أبيه منهم، وكان أول ذلك حين مات معاوية وقدم يزيد ولده فلم يقدم أحد على تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فأنشده "ج1: البيان" ففتح للناس بعده باب القول، وقد روى ابن رشيق هذه الأبيات في العمدة "ص124 ج2" ووطأ لها بسجعات نسبها للسلولي، والصحيح أن الشعر وحده، أما السجع فهو لعطاء بن أبي صيفي الثقفي، وهو من الخطباء الذين فتح لهم الكلام بذلك الشعر "ج1: البيان". ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أو يعزونه؟ فأقبل غيلان ابن مسلمة الثقفي، فسلم عليه ثم خطب معزيا ومهنئًا. وكذلك لما توفي المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدي فسلم ونحا هذا المنحى، وقد روى كلامهما الجاحظ في الجزء الأول من "البيان".
والذي ابتدأ بالإجادة في هذه الطريقة من الشعراء أبو نواس في قصيدته النونية التي يعزي بها الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنيه بالأمين، يقول منها:
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
ثم اتبعه أبو تمام في قصيدته التي أولها:
ما للدموع تروم كل مرام
يقولها للواثق بعد موت المعتصم، وقد صرف الكلام فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الناحية من الشعراء؛ وليس في المتأخرين من يؤم في هذه الطريقة غير جمال الدين بن نباتة المصري -من شعراء القرن السابع- فإنه جاء في قصيدته الميميمة التي عزى فيها عبد الملك المؤيد صاحب حماه وهنأ ولده الأفضل، بما يعد من عجائب الصناعة؛ لأنه استطرد في القصيدة على طولها بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها، وهي مشهورة، مطلعها:
هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء خاصة، حتى قيل فيه إنه نواحة ندابة؛ وكذلك عبد السلام بن زعبان المعروف بديك الجن؛ واشتهر في الرثاء بطريقة انفرد بها لا ترجع إلى الأسلوب ولا إلى الصناعة، ولكن إلى معنى الفجيعة، وذلك أنه قتل له جارية وغلامًا كان يهواها ثم جعل ينوح عليهما ويرثيهما، فاشتهر بهذه الطريقة، وليس أدل على جودة رثائه من قوله فيها:
لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه، بكى له في قبره
وكان للرثاء شأن في أول الدولة الأموية، حتى كانت المراثي يناح بها نوحًا على القتلى والأموات، وأشهر من عرف بذلك الغريض المغني، وقد ربته الثريا بنت عبد الله بن الحارث وعلمته النوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرة "ص85 ج1: الأغاني"؛ وكان المشهور قبله بالنوح ابن سريج المغني، وقد عدل بعد ظهور الغريض إلى الغناء فعدل معه الغريض إليه "ص100 ج1: الأغاني"، ثم كان بنو أمية يشترطون في تقريب الراوية منهم أن يكون لمراثي العرب [أحفظ] وكان القائم برثاء المتقدمين منهم النصيب الشاعر، كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي قومه، فإذا أنشده بكى وبكى معه "ص135 ج1: الأغاني" وكان يتقرب بذلك إلى ملوكهم وأمرائهم، حتى إنه لم دخل على عمرو بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ابتدأه في الاستئذان أن ينشده من مراثي أبيه عبد العزيز، فقال: لا تفعل فتحزنني "ص137 ج1: الأغاني"؛ وقد عارض بني أمية في الولع بالرثاء شعراء الطالبيين ومن نبغ بعد ذلك من هذه الشيعة إلى اليوم.
ومن طرق الرثاء التي أحدثها المتأخرون، ما يرثون به الدواب والأثاث والأدوات، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع آخر، ولكن القصيدة التي احتذوها في ذلك إنما هي القصيدة الهرية الشهيرة التي نظمها ابن العلاف الشاعر المتوفى سنة 318هـ، وكان له هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بها؛ وقيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز وخشي من الإمام المقتدر؛ لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وعرض به في أبيات منها، ويقال بل كنى بالهر عن الوزير أبي الحسن بن الفرات أيام محنته؛ لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وقيل: غير ذلك، وهذه القصيدة في 65 بيتًا، وهي معدودة من أحسن الشعر وأبدعه، وقد نقل زبدتها ابن خلكان في تاريخه "الجزء الأول ص137". وللعلاف قصائد أخرى في المهر أيضًا ولكن هذه أشهرها. [واستحسن] من بعده هذا المذهب، فعارض ابن العميد القصيدة الهرية صناعة، ونقل الثعالبي شيئًا من قصيدته في "اليتيمة" "الجزء الثالث ص23" ولما نفق برذون أبي عيسى المنجم بأصبهان وكان قد طالت صحبته له، أوعز الصاحب بن عباد إلى الندماء المقيمين في حلبته أن يعزوا أبا عيسى ويرثوا برذونه، فقال كل منهم قصيدة فريدة، نقل الثعالبي مختارات منها "الجزء الثالث ص55: يتيمة الدهر". ثم شاع هذا النوع بعد ذلك وتقلبوا في أغراضه. 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید