المنشورات

الشعر العامي والمواليا

لا نعرف بالتحقيق أصل الشعر العامي ولا منشأه؛ ولكنا لا نشك أنه قديم، وأن ظهوره كان في أواخر القرن الأول للهجرة، بعد ظهور الغناء وانتشاره؛ لأن طبقات كثيرة من العامة -ومن حكمهم ممن لا أدب لهم- لا يطربون للغناء في الشعر الفصيح؛ وخاصة عامة أهل الشام، ولعلهم أصل الشعر العامي في العربية؛ لأن الفصيح استبحر في بلادهم، وهم مع ذلك أسقم الناس ألسنة، فكان لا بد لعامتهم من هذا الشعر، وقد وقفنا على شيء من شعرهم الذي يطربون له؛ من ذلك ما رواه صاحب الأغاني في أخبار معبد أنه أشخص إلى الوليد بن يزيد، ثم كان في منزل بعض أهل الشام من ذوي الحال الرفيعة وقال في وصف غنائه عنده: فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه، وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني فلما طال عليه أمري، قال: يا غلام، شيخنا شيخنا! فأتى بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سلور في القدر، ويلي علوه ... جاء القط أكله، ويلي علوه!
والسلور: السمك بلغة أهل الشام، قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طربًا وسرورًا. ا. هـ. "ص28 ج1: الأغاني". وذكر في أخبار حنين الحيري، وكان في أيام عبد الملك بن مروان، أنه خرج إلى حمص يلتمس الكسب بها ويرتاد من يستفيد منه شيئًا، فاجتمع بفتيانها ثم غناهم في هنيات معبد، وغناء الغريض، وخفائف ابن سريج، وأهزاج حكم، وفي غنائه هو، فلم يتحرك منهم أحد ولا فكهوا لذلك، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا، حتى جاء أبو منبه، فخنس حنين وصار كلا شيء، خوفًا منه ورهبة أن يفتضح بإحسانه، قال: فأخذ العود ثم اندفع يغني:
طرب البحر فاعتبري يا سفينه ... لا تشقي على رجال المدينه
فأقبل القوم يصفقون ويطربون ويشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء "ص123 ج2: الأغاني".
ولا بد أن تكون مثل هذه الأشعار قد شاعت في العامة يومئذ وجعلوها فنهم، ولكن الأدباء لم يحفلوا بها فلم يصل إلينا من خبرها شيء، ويدل على ذلك ما نقله صاحب الأغاني [من مثل ذلك] في أخبار إسحاق الموصلي.
ثم ظهر بعد ذلك هذا النوع الذي يسمونه المواليا، وقالوا في أصله أقوالًا أشهرها عند الأدباء أن الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، وتنكر لمن يفعل ذلك، فرثت إحدى جواريهم جعفرًا بهذا النوع الذي يدخله اللحن ولا يجري على أوزان الشعر، لتتقي بذلك نقمة الرشيد، وجعلت تقول بعد كل شطر: يا مواليا! فعرف هذا النوع به وتناقله الناس؛ والذي قالته في ذلك هو:
يا دار، أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت: نراهم رمم تحت الأراضي الدرس ... سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس! 

وليس هذا النوع ملحونًا أبدًا كالزجل والكان وكان والقوما، ولكنه يحتمل الإعراب واللحن، ولا يجيزون فيه مع ذلك أن يختلط الاثنان في قول واحد فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، فهذا من أقبح العيوب التي لا تجوز؛ وإنما يكون المعرب منه نوعًا بمفرده؛ والملحون منه ملحونًا لا يدخله الإعراب "المستطرف عن كتاب العاطل والحالي".
وللمواليا وزن واحد وأربع قواف؛ منها واحدة اخترعها صفي الدين الحلي "المستطرف" وقد حمله المتأخرون محاسن البديع كما فعلوا بالدوبيت؛ وحرف المصريون هذه الكلمة بكلمة "موال" وأهل الصعيد منهم أشهر الناس بهذه المواويل؛ وخاصة أهل مديريتي قنا وجرجا، ويقسمون الموال إلى نوعين: أحمر، وهو الذي ينظم في الحماسة والحرب والحكمة، وأخضر وهو ما دخل في الغزل والنسيب وما إليهما من الأنواع الرقيقة؛ وقد يجعلونه مخمسا ومسبعا، ويسمى النعماني، وذلك كله مأثور بينهم مستفيض في مناقلاتهم وقريب منه نوع آخر يسمونه "فن الواو" ووزنه كوزن بحر المجتث في الشعر: مستفعلن فاعلاتن، ويكون في أربع شطرات، كل شطرة تسمى في اصطلاحهم فردة -ومنه أحمر وأخضر كما مر في الموال- ولكنهم يسمون المحتوى منه على الجناسات مغلوقًا، والأمثلة في ذلك كله كثيرة ولها رسائل متداولة معروفة. 












مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید