المنشورات

السبع الطوال:

هي المعروفة بالمعلقات المروية لامرئ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، وكلهم جاهليون إلا لبيدًا فإنه من المخضرمين؛ وإنما سميت المعلقات؛ لأن العرب اختارتها بين أشعارها فكتبوها بالذهب على الحرير، وقيل: بماء الذهب في القباطي "جمع قبطية - بالكسر والضم، وهي ثياب إلى الرقة والدقة والبياض، كانت تتخذ بمصر من الكتان" ثم علقوها على أركان الكعبة، وقيل: في أستارها، وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم.
أما أن هذه القصائد من مختارات الشعر فأمر لا ندفعه؛ لأن العرب في الجاهلية، كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب؛ قال أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ "وقيل: 159هـ": وكانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش.
وأما خبر الكتابة بالذهب أو بمائه والتعليق على الكعبة ففي روايته نظر، وعندي أنه من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتى وثق بها المتأخرون، وإنما استدرجهم إلى ذلك أن هذه القصائد تكاد تكون الصفحة المذهبة في ديوان الجاهلية، وأن العرب قوم لم يصح من أديانهم إلا دين الفصاحة وهو الذي دانوا به أجمعين، فلو أنهم فعلوا ذلك لكانوا قد أتوا بشيء غير نكير، وسنقص في أخبارهم وكتبهم أثر تلك الرواية ونورد ما رجح عندنا أنها موضوعة:
نقل ابن خلكان عن ابن جعفر النحاس المتوفى سنة 337هـ "وقيل: 338هـ" أن حمادًا الراوية هو الذي جمع السبع الطوال، وحماد هذا توفي سنة 155هـ، وفي "المزهر" أنه أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، وقال البغدادي في "خزانة الأدب" "ص61 ج1" بعد أن ذكر أصحاب المعلقات: وقد طرح عبد الملك بن مروان شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة، وعبد الملك توفي سنة 86هـ, فبين وفاته ووفاة حماد 69سنة، ثم قال البغدادي: وروي أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات، وفي رواية أخرى -في غير "الخزانة": فماسها المعلقات الثواني.
وقال ابن الكلبي المتوفى 204هـ "وقيل: سنة 206هـ": أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحْدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة.
وبمعارضة هذه الرواية بما ذكره أبو جعفر النحاس يتضح لك أن أبا جعفر لم يثق بها، فيكون خبر طرح عبد الملك وإثباته موضوعًا أيضًا، خصوصًا وقد أغفله أبو زيد بن أبي الخطاب القرشي صاحب الجمهرة المتوفى سنة 170هـ، وابن الكلبي هذا هو الذي نقل عنه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في شرحه ديوان امرئ القيس عند ذكر قصيدته المختارة أنه قال: إن أعراب كلب ينشدون هذه القصيدة لابن حذام "هو امرؤ القيس بن حذام" وذكره امرؤ القيس بن حجر في بعض شعره حيث يقول:
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكي ابن حذام
ويروي خذام بالخاء، وحزام بالزاي، وحمام. ويقال إن "لأننا" لغة في "لعلنا"؛ حكى الخليل أن بعض العرب يقول: ائت السوق أنك تشتري لنا سويقًا، أي: لعلك. وكان ابن حذام بكى الديار قبل امرئ القيس.
وقد أغفل ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ رواية ابن الكلبي بجملتها في كتابه "طبقات الشعراء"، ولم نر أحدًا ممن يوثق بروايتهم وعلمهم أشار إلى هذا التعليق ولا سمى تلك القصائد بهذا الاسم، كالجاحظ والمبرد وصاحب الجمهرة وصاحب الأغاني، مع أن جميعهم أوردوا في كتبهم نتفًا وأبياتًا منها، وقد ذكر أبو الفرج صاحب الأغاني المتوفى سنة 356هـ أن عمرو بن كلثوم قام بقصيدته خطيبًا بسوق عكاظ، وقام بها في موسم مكة، فلو كان خبر التعليق صحيحًا لما ضره أن يقول، فكتبتها العرب وعلقتها على ركن من أركان الكعبة.
وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة، يعني مختارته. وفي ترجمة عنترة، وكانت العرب تسميها الذهبية، ولكنه قال في ترجمة الحارث بن حلزة عند ذكر قصيدته: وهي من جيد شعر العرب، وإحدى السبع المعلقات؛ ولم ترد هذه اللفظة إلا في هذا الموضع، غير أن البغدادي نقل كلمة في "الخزانة" معزوة إليه وأسقط منها لفظة المعلقات "ص119 ج1" فيكون ذكرها في طبقات ابن قتيبة زيادة من النساخ، لشهرة الكلمة في المتأخرين وارتباطها بهذا النعت.
والأسماء التي وردت بها تلك القصائد فيما لدينا من كتب الأدب والبيان واللغة إلى آخر القرن الثالث، هي: السبع الطوال، والسموط، والسبعيات؛ أما الأولى فهي تسمية حماد، وقد نقلها من الحديث $"أعطيت مكان التوراة السبع الطوال" وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف؛ واختلفوا في السابعة أنها يونس، أو يوسف، أو الكهف, وأما الثانية ففي "الجمهرة" عن المفضل أن امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى ولبيدًا وعمرًا وطرفة، أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط "ونقلها صاحب "العمدة": السمط، ونقلها عنه السيوطي في "المزهر""، فمن قال إن السبع لغيرهم فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة؛ فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة، وأثبت الأعشى والنابغة؛ وهذا مما يدل على أن بين الرواة اختلافًا فيهم، فلو كان خبر التعليق صحيحًا لكان نصا في تعيين الأسماء.
وأصل التسمية بالسمط أو السموط، عن حماد أيضًا، ففي بعض أخباره قال: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منها كان مقبولًا، وما ردوا منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
فقالوا: هذه سمط الدهر؛ ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم:
طحا بك قلب في الحسان طروب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر؛ وهي رواية لا توافق ما قالوه من أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها إلا في الشعر.
وأما السبعيات فهي تسمية وقفنا عليها في "إعجاز القرآن" للباقلاني المتوفى سنة 403هـ؛ وقد ذكر هناك ما تؤخذ منه حقيقة هذه القصائد؛ قال: أنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس؛ ولا ترتاب في براعته؛ وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعره فلانًا وفلانًا؛ ويضمون أشعارهم إلى شعره؛ حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة؛ وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه؛ أو قربوا موضع تقدمهم عليه وبرزوه بين أيديهم؛ ولما اختاروا -أي: الأدباء- قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها؛ ثم نراهم يقولون: لفلان لامية مثلها ... إلخ، وقد أورد ذلك وبالغ في مدح القصيدة، ثم بين عوارها، وزيف كثيرًا من جيدها، ليظهر الفرق بين أجود الشعر وبين القرآن في أسباب الإعجاز، ويبرهن على أن القرآن جنس مميز وأسلوب متخصص، فلو صح عنده خبر التعليق وأن العرب هي التي اختارتها وقدمتها على سائر الشعر لكان في ذلك دليل يشد عليه يده شد الحريص.
وفي "الجمهرة" عن المفضل "هو المفضل بن محمد الضبي، كان عالمًا بالشعر وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين، وهو معاصر لحماد الراوية، وقد غلبه عليه بصدق الرواية عند المهدي كما سيمر بك في بحث الرواة*" بعد أن ذكر أصحاب السموط قال: وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون إن بعدهن سبعًا ما هن بدونهن، ولقد تلا أصحابهن أصحاب الأوائل فما قصروا، وهن "المجمهرات" لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب.
وأما منتقيات العرب فهن للمسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمنتخل بن عويمر.
وأما المذهبات فللأوس والخزرج خاصة، وهن لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئ القيس.
وعيون المراثي سبع، لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري؛ ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب النهشلي، ومتمم بن نويرة اليربوعي. 

وأما مشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام، فلنابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، وعمرو بن أحمر، وابن مقبل.
وأما الملحمات السبع فهي للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكميت بن زيد، والطرماح بن حكيم.
قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة هي عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام "ص35" وبعد أن ساق صاحب الجمهرة أخبارًا أخرى قال: هذا ما صحت به الرواية عن الشعراء وأخبارهم.
فقد خلص لنا مما تقدم أن حمادًا هو أول من اختار السبع الطوال وشهرها في الناس، وأن ابن الكلبي هو الذي ذكر خبر تعليقها على الكعبة، وهو قد علل ذلك بأن العرب ينظرونها في الموسم، ثم ينزلونها أو يبقونها، وأن من عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئًا، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي، وأن العرب بقيت تسجد لها 150 سنة حتى ظهر الإسلام، مع أن امرأ القيس لم يفته الإسلام بأكثر من مائة سنة، [وتسميتهم] لذلك المعلقات بالمذهبات، مع أنك رأيت في رواية المفضل أن المذهبات قصائد أخرى للأوس والخزرج، وذكر ابن رشيق في "العمدة" رواية أخرى في تسمية الطوال بالمعلقات، وهي أن الملك كان يقول إذا استجيدت قصيدة الشاعر: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
[*وليس ببعيد أن يكون ابن الكلبي، وهو من متأخري الرواة، قد رأى انصراف الناس عن شعر الجاهلية والتأدب به إلا فيما احتاجوا إليه من الشاهد والمثل، ولا يكاد ذلك يعدو أشعارًا معروفة متداولة في أيدي العلماء لمكانة الشعر الإسلامي يومئذ، وقد كثر فحوله وافتنوا فيه أيما افتتان، وذهبوا في البديع كل مذهب، فاختلق ابن الكلبي -أو غيره- خبر التعليق، ليصرف وجوه الناس إلى هذه القصائد، وهم يومئذ أكثر ممن قبلهم ولعا بمآثر الجاهلية، لعفاء الصبغة العربية من سياسة عصرهم كما يعرف الواقف على التاريخ. وليس يشك أحد أنه لولا هذا الخبر لما بقيت هذه القصائد متدارسة إلى اليوم، لا لشاهد منها ولا لمثل فيها، ولكن لوقوع اختيار العرب عليها] .
وعندنا أن الذي روى التعليق إنما أخذه من تعليق قريش للصحيفة، وذلك أنه لما فشا الإسلام وقوي المسلمون بحمزة وعمر، ائتمرت قريش في أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا؛ فكتبوا بذلك صحيفة بخط منصور بن عكرمة، ثم علقوها في جوف الكعبة توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم. 

وأعجب شيء أنك لا ترى في كلام أحد من الصدر الأول من لدن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك الخبر، مع أنهم تكلموا في الشعر والشعراء وفاضلوا بينهم، وورد في الحديث كلام عن امرئ القيس وعنترة، وكل ذلك مما يدل على أن ذلك التعليق إنما كان بحبل التلفيق!
وقد شرح هذه القصائد ذكر منهم صاحب "كشف الظنون" أبا جعفر بن النحاس المتوفى سنة 338هـ، وأبا علي الثعالبي المتوفى سنة 356هـ، وأبا بكر البطليوسي المتوفى سنة 394هـ، وأبا زكريا ابن الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502هـ؛ والدميري صاحب "حياة الحيوان"، والزوزني المتوفى سنة 486هـ وشرحه مطبوع متداول، وهي مشروحة أيضًا في كتاب "الجمهرة"، ولابن الأنباري عليها شرح مفرد.
وقد رأينا من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحًا أنها منحولة وضعها مثل حماد الراوية، أو خلف الأحمر، وهو رأي فائل؛ لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في كلام الصدر الأول؛ وإنما تصحح الروايات بالمعارضة بينها؛ فإذا اتفقت فلا سبيل إلى ذلك، غير أنه مما لا شك فيه عندنا أن تلك القصائد لا تخلو من الزيادة وتعارض الألسنة، قل ذلك أو كثر؛ أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التاريخ. 












مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید