المنشورات

طويلة امرئ القيس:

ذلك نبذ من تاريخ أمير الشعراء بسطنا منه بعض ما يكشف لك وجه نشأته، لتعرف الأخلاق التي كان لا بد لشعره أن يظهر بها مظهر المتميز والمتخصص، ثم نحن نسوق إليك طرفًا من الحديث عن طويلته، ثم نقذف بجملة الكلام عن شعره في فصل انتقادي؛ لأن امرأ القيس ليس بالشاعر الذي يقال فيه ولد ومات، فيترجم بألفاظ لا تفوت حتى تموت، ولكنه الرجل الذي افتتح به ديوان التاريخ الأدبي، وما زال فيه كأنه قطعة من الزمن، لا يغيره الموت ولا يغيبه الكفن!
كان من حديث تلك القصيدة أن امرأ القيس كان مولعًا ببنت عم له يقال لها فاطمة، وأنه طلبها زمانًا فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير* [حين مرت به فتيات وفيهن ابنة عمه يردن الغدير  ليبتردن، فتبعهم مختفيًا، فلما تجردن ودخلن الغدير وثب على ثيابهن فأخذها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطي واحدة منكن ثوبها حتى تخرج كما هي فتأخذه بيدها. فأبين ذلك عليه، حتى ارتفع النهار؛ فلما خشين فوات الوقت خرجت إحداهن فوضع لها ثيابها ناحية فلبستها....] ، ثم تتابعن على ذلك حتى فضحهن جميعًا، وذلك العهر الذي ليس بعده خلق ذميم ولا عهد أثيم، ثم حملن متاع راحلته بعد أن نحرها لهن، وحملته ابنة عمه على غارب بعيرها، فلما راح إلى أهله نفث الخبيث على لسانه، فقال هذه القصيدة وقص فيها ما كان وجعلها حديثًا باقيًا على الدهر.
وقد قابلنا بين أربع نسخ منها بروايات مختلفة، فما وجدنا نسخة تساوي الأخرى في عدد أبياتها، فهي في الجمهرة سبعون بيتًا، وفي الديوان الذي شرحه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب 77 بيتًا، وهو ينقل في مواضع من شرحه عن ابن النحاس، فلعله قابل على نسخته؛ وفي شرح الزوزني 79، وفي نسخة أخرى من ديوانه 75 بيتًا؛ وهذه النسخ تختلف مع ذلك في كثير من الأبيات تقديمًا وتأخيرًا، وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة.
أما القصيدة فقد وقف فيها واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الديار والآثار، ثم استشعر العزاء وتجلد، ثم التاع وتنهد، ثم كأنه عفا وتجدد، وذكر يوم الغدير، ووصف عقر ناقته للعذارى، وتبذله لهن تبذل الجآذر، وارتماءهن بلحمها وشحمها، ثم ألم بأطراف العفاف من ابنة عمه، وتعهر في ذلك حتى كأن الكلام لا يمر بقلبه به يخلقه لسانه خلقًا، إلا في أبيات قليلة، ووصف الجمال وصفًا ظاهرًا يبلغ شهوة النظر، ثم وصف طول الليل وخرج من الفخر إلى صفة الخيل، واستتبع ذلك بالصيد والقنص والطعام، ثم رفع عينيه إلى البرق والسحاب، وخفضها إلى الجبل فزمله من المطر في ثياب، ثم أغمضها وسكت كما يسكت على خير جواب.
المختار في ذلك كله قوله:
أفاطم مهلًا بعض هذا التذلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطي بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل 











مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید