المنشورات
شاعرية امرئ القيس وأسباب شهرته:
كان امرؤ القيس يماني النسب ولكنه كان نزاري الدار والمنشأ، فإن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد، ومن ثم كانت له الفصاحة؛ وقد رأيت أن أباه وأعمامه كانوا ملوكًا، ولملكهم قصة رواها صاحب "الأغاني"؛ فلم يألفوا ما ألفته العرب من خشونة العيش وجفاء البداوة، بل كان أبوه حين يرتحل يقدم بعض ثقله أمامه ويهيئ نزله، ثم يجيء وقد هيئ له من ذلك ما يعجبه، فضربت القباب، واجتمعت القيان، فينزل، ويقدم مثل ذلك إلى ما بين يديه من المنازل "ص67 ج8: الأغاني".
فلا جرم كان ميراث امرئ القيس منه هذه الكبرياء التي تمسح شعره، وتلك النعمة التي يرف بها رفيفًا؛ وقد كان المهلهل الشاعر خاله، فنزع إليه بالعرق، واجتمع له الشعر والنعمة والكبرياء، على فراغ وشباب، فأفسدته، فشب خليعًا ماجنًا يتعهر في شعره، ولم يطرده أبوه أنفة من الشعر؛ لأن الملوك كانت تأنف منه كما يروى، ولكن حياء مما فيه؛ إذ كان شعره قد تغالبت عليه الشهوات حتى كأنه صورة قلبه ثم كانت العرب تروي ذلك منسوبًا إلى ابن ملك من ملوكها، وقد كان أبوه أراد أن يشغله عن الشعر فجعله في رعاء إبله حتى يكون في أتعب عمل، فلما كان الليل بات يدور إلى متحدثه حيث كان يتحدث، فقال أبوه: ما شغبته بشيء؛ ثم أرسله في خيله، فكذلك؛ ثم جعله في الضأن، فمكث يومه فيها، حتى إذا أمسى أراحها، فلما بلغت المراح دنا أبوه يسمع فإذا هو يقول: أخزاها الله وقد أخزاها، من باعها خير ممن اشتراها! ثم سقط ليلته لا يتحرك، لما أصبح قال أبوه: اخرج بها؛ فمضى حتى بعد عن الحي وأشرف على الوادي، فحثا في وجهها التراب فارتدت. وخرج مراغمًا لأبيه، فكان يسير في العرب يستتبع صعاليكهم وذؤبانهم، ويطلب الصيد والغزل وما إلى ذلك فلم يبق في شعره فضل لشرف النفس والعفة والحفاظ، ولولا تصعلكه ومخالطته الرعاء لما جنح في التشبيه إلى مساويك الإسحل، وحب الفلفل، ونقف الحنظل، وغيرها مما هو في شعره؛ ولما جاء في ذلك بالساقط والسفساف، وقد عابه عليه المتأخرون وما أنصفوه؛ لأنه لا يكون كابن المعتز الذي إليه انتهى التشبيه في صناعة الشعر، فهو يصف ماعون بيته إذ يقول في الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فانتقاد الشاعر من هذه الجهة خطأ بيّن؛ لأن ذلك سبب طبيعي لا قبل للانتقاد به وهو أشبه شيء بعيب الطويل لطوله، والقصير لقصره، والحبل لنسعته، ونحو ذلك، مع أن في تلك مناسبات أخرى تستدعي الإعجاب وتعد في محاسن الخلق.
ولا يذهبن عنك أن الذين ينتقدون امرأ القيس وغيره بما هو من خصائص الجاهلية، إنما نشأ عندهم ذلك بعد مقابلته بنعمة الحضارة وترف العمران، ولو كانوا في الجاهلية لكانوا أجهل منه؛ ولكن في شعر كل شاعر ما يمكن أن ينتقد في كل زمن، وذلك مما يكون سبيله سبيل المعاني الطبيعية، ولا يتفاوت في الناس إلا بمميزات أخرى ترجع إلى النشأة وسلامة الذوق وخلوص الفطرة ونحوها من الصفات التي هي تأويل معن التفاوت.
ومن تدبر ما نقلوه من شعر امرئ القيس يخيل له أول وهلة أن هذه الشهرة التي رزقها ليست على مقدار شعره، ولا هي في وزن براعته، ولكنها جاءته من ذكره في الحديث الشريف، وما زين به الرواة أخباره وشعره حتى كأنما عوضه الدهر من ملك النسب ملك الأدب، ولكن ذلك إنما يعتريه إذا قرأ بعض ما نسب إليه لا جميعه؛ لأن في شعره منحولًا كثيرًا، وبعضه يلائم ديباجته فيكاد يلتحم به حتى لا يميزه إلا دقيق النظر، ولا برهان لدينا على النفي والإثبات في شعر مثل امرئ القيس ومنزلته ما هي؛ وليس من شاعر أو راوية إلا وقد أحب أن يكون له في كلامه لفظ أو معنى، ولذلك تعاوروا ألفاظه بالتغيير والتبديل، وأدخلوا في شعره ما ليس منه، وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرًا بين طويل وقطعة "ص67 ج1: العمدة" ولذا نفى الأصمعي الأبيات المروية التي يقول فيها:
ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وقال إن امرأ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. فما استطاع أن يستدل على ذلك إلا بقوله فيها:
فتوسع أهلها أقطًا وسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وري
لأن مثل هذا لا يقوله من يذكر عن نفسه أنه لا يقتصر إلا على الحصول على الملك "ص175: شرح ديوانه". وإنما يناسب مثل الحطيئة لما في شعره من الجشع والضراعة.
وقد بالغوا في الحمل عليه حتى كأنه دابة الشعر، فنسبوا له سخف القول وساقط الكلام وما يجري مجرى الهذيان؛ ورأيت في بعض نسخ ديوانه قصيدة لامية أشبه شيء بالجلجلوتية وشعر الطلاسم، منها:
فكم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم ... قطعت الفيافي والمهامه لم أملّ
وكاف وكفكاف وكفي بكفها ... وكاف كقوف الودق من كفها انهمل
وهذا المغفل الذي نحله هذه القصيدة جرى في بعضها على قياس قوله في القصيدة التي تروى له "ص119: من ديوانه":
وسن كسنيق سناء وسنم ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
ولعل هذه "الكمكمة" من قول محمد بن مناذر البصيري في معنى التكثير "ص60 ج2: العمدة". غير أن الناقد البصير يستطيع أن يتبين أسلوب امرئ القيس من قراءة قصيدتين أو ثلاث مما صح له، فيستخلص منها صفات شعره التي ميزته بالتقديم وجعلته أمير الشعراء وصاحب لوائهم؛ إذ كان أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وقبل أن نأتي على شيء من ذلك نذكر نشأته الشعرية وما استخلصناه من الأسباب الطبيعية في شهرته:
كان امرؤ القيس يروي شعر أبو دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه "ص61 ج1: العمدة" وهو فحل قديم كان أحد نعات الخيل المجيدين. قال الأصمعي: هم ثلاثة: أبو داؤد في الجاهلية، وطفيل، والجعدي. قال: والعرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وذلك أن ألفاظهما ليست بنجدية "ص38: الطبقات".
فلو أن امرأ القيس لم يكن من أهل نجد لكانوا قد أهملوا رواية شعره ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول؛ فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك؛ حتى لا يخلو أكثر شعره من هذا الوصف.
وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص؛ والشنفرى، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والتوأم اليشكري؛ وكان من حشم أبيه شاعر اسمه عمرو بن قصبة، وهو الذي ذكره في قصيدته التي قالها حين توجه إلى قيصر، وذلك في قوله:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
وكل هؤلاء لم يقع للرواة من شعرهم مقدار ما وقع في أيديهم لامرئ القيس؛ فكان ذلك سببًا من أسباب تميزه وانفراده.
وثم سبب آخر، وهو أن الذي في يد العلماء من أهل الغريب والعربية وعلماء البيان لا يجتمع منه لشاعر واحد جاهلي ما اجتمع لامرئ القيس؛ وهو عندهم طبقة متميزة لفصاحته وقدمه؛ فشعره أشبه شيء بأقدم كتاب في اللغة عند من يظفر به من المتأخرين، وكأنما كان بعضهم يجله عن الانتقاد في ألفاظه؛ فكل ما استعمله فصيح من حيثما تلقفه وكيفما جاء به، وإن كان ذلك لا شك في صحته دون فصاحته؛ فإن أهل النظر من علماء البصرة يقولون في تأويل بيته:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
إنه لما جاور في طيء علق من لغتهم، وهم يقلبون الياء ألفًا؛ يقولون في رضينا: رضانا؛ وكذلك خظاتا أصله خظيتا؛ فقلب الياء الفًا؛ وهي لغة لم يلتزمها الشاعر، ولا وجه لها إلا أن يكون ميزان لسانه قد تعطل في هذه الكلمة كما تعطل في غيرها؛ فانحدرت منه ثقيلة غثة باردة؛ والعجيب أن علماء المعاني والنحو والعروض انتقدوه جميعًا وأخذوا عليه أشياء كثيرة؛ ولكن مات الانتقاد وبقيت الألفاظ حية، حتى إن أكثر ما قالواه لا يعرف اليوم ولم يورد منه شراح ديوانه إلا القليل؛ ولعلهم فعلوا ذلك ليتكافأ الانتقاد مع شهرة الرجل، وهؤلاء أصحاب البيان ما زالوا يطأطئون من الغدائر المستشزرات في كلامه ويضربونها مثلًا في التنافر والثقل، ولكن "مستشزرات" هذه كانت قد رسخت قبلهم حتى لم يستطيعوا أن يحدروها عن منزلتها من الشهرة، وذلك من عجائب امرئ القيس، فإن له ألفاظًا وإن كانت أحجارًا، إلا أنها ثابتة من شهرته في جبل.
والعلماء بالشعر يقولون إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء؛ لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه؛ وقلما يخلو كتاب في الأدب من هذه الكلمة، وهي مع ذلك مقبولة كأنها ناموس من نواميس الطبيعة في شهرة هذا الشاعر، على أنها -كما ترى- لم تعزز ببرهان، ولم يمسكها دليل، فليس ما يمنعنا أن نمسها بالمحك فنخلص إلى حقيقتها.
أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول إلخ، فلا يكون دليله إلا تتبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه، وهو شيء لا يصدق مدعيه كائنًا من كان؛ لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي دؤاد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلًا عمن أهملهم الزمن وجلدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل: "وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة" فإن هي إلا كلمة مولد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسيب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد؛ ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيب.
وأما أن هذا الشاعر أول من قرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، أجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أن أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع فيه، وجملة ما حفظ له منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعًا.
بقي سبب آخر من أسباب شهرة امرئ القيس في العرب وبقاء شعره على ألسنتهم وهو أنهم يجدون في بعض كلامه رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم يرونه إذا أخذ في غير هذه المعاني يطبع ألفاظه على قالبها من الاستعارة والتشبيه، فإذا قابلوا ذلك بخشونة غيره وانصرافه إلى أوصاف البداوة، وجدوا في شعره كالظل الذي يفيء، والماء الذي يجري والحسن الذي يتميح، والنسيم الذي يترنح؛ فكان ولا جرم كأنما يستهويهم استهواء، وكان مجموع شعره في البدو حضارة وفي الحضر بداوة؛ وهذا مروان بن أبي حفصة الشاعر أنشده العتبي لزهير، فقال: هذا أشعر الناس، ثم أنشده للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشده لامرئ القيس فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس "ص9: الطبقات" ومروان شاعر [في صميم] الحضارة، فكيف بالعرب؟ وعندي أن هذا أعظم ما تتميز به شاعرية امرئ القيس؛ لأنه دليل الصنعة [تبرز على] الطبع، والطبع الذي يبلغ في سموه مبلغه بالصنعة؛ وهو الدليل الذي لو سقط من شعره لسقط بشعره لا محالة.
مصادر و المراجع :
١- تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
18 ديسمبر 2024
تعليقات (0)