المنشورات
شعر امرئ القيس:
لم نعد ما عددناه من أسباب شهرة هذا الشاعر وهو قليل مجمل، إلا توطئة لما يأتي من انتقاد كلامه، فإنه عند المتأخرين أفق لا يحس إلا بالنظر، ورجل كأنما كانت شهرته قدرًا من القدر، يأخذون ذلك بالتسليم، ويقولون هو أمر كان من قديم؛ مع أن أدباء الصدر الأول قد تكلموا في خطئه في العروض والنحو والمعاني، وعابوا عليه كثيرا من شعره وخطئوه في وجوه من التصرف، ولا يزال ديوانه يدعو إلى ذلك؛ لأنه هو هو اليوم وقبل اليوم، غير أن أولئك المتأخرين أصبحوا يرون هذا الديوان كدار الآثار: لا يطمع الحي ببعض الإجلال لميت من أمواتها.
كل ما يتناوله امرؤ القيس في شعره من المعاني، لا يتجاوز الغزل، والاستهتار بالنساء، ووصف الصيد والخمر والطيب والخيل والنوق وحمر الوحش والطلول والجبال والبرق والمطر؛ أما افتخاره في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
وهو يخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف؛ حتى كأن شعره صور على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يكن يقصد إلى الشعر قصدًا إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكون مرة نجمًا في السحاب ومرة حجرًا في التراب؛ والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقات التراب؛ ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أردأ شيء.
وغزل هذا الشاعر ساقط كله؛ لأن استهتاره وتبذله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في التعريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلًا مما يفتن فيه، فيجيء حسنه من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فإنه نزع فيه إلى الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها موضعًا؛ وكذلك قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
وهذا البيت من مخترعاته، فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، قال صاحب "العمدة": وهو أول الناس اختراعًا وأكثرهم توليدًا "ص175 ج1: العمدة" فلا يبغي من شعره إلا الوصف. ومداره على الاستعارة والتشبيه، وسنأخذ بطرف من الكلام فيهما، ثم نفصل به إلى القول في معانيه ومبلغ انطباق ألفاظه عليها، لنتبين موقع نظره في مطارح الكلام، ومذهب فؤاده من أسرار الصناعة؛ ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن الأدباء قد وضعوا أشعارًا من البديع ونحلوها امرأ القيس، يقصدون من ذلك إلى الغض من شأن الذين اخترعوا تلك الأنواع؛ حتى يوهموا أنهم سبقوا إليها؛ أو إقامة الشاهد على بعض ما يتباغضون فيه من مبتذل الشعر.
ومن النوع الأول ما أورده ابن رشيق "ص55 ج2: العمدة" بعد أن أورد بيتين لأبي نواس فقال: وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:
لمن طلل دارس آية ... أضر به سالف الأحرس
تنكره العين من جانب ... ويعرفه شغف الأنفس
وليس فيما دونوه لامرئ القيس؛ والتوليد فيه بين.
ومن الثاني ما أورده ابن رشيق أيضًا "ص25 ج2: العمدة" عند الكلام على التقطيع والتقسيم من باب الترصيع، كقول المتنبي:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاذ فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل
ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا.
استعاراته:
قالوا إن الاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتدارًا ودالة، وليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم؛ وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فهم إنما استعاروا مجازًا واتساعًا، ومرجع ذلك إلى شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو بحسن المعرض الذي يبرز فيه، تبسطًا في اللغة، واسترسالًا في طرق التعبير، فعلى هذا تكاد تكون الاستعارة البيان كله، وليس من غرضنا أن نشرح أقسامها، أو نلم بما قالوه في تحقيقها، وإنما نتكلم عليها في شعر امرئ القيس خاصة، فهي التي ميزت شعره، وقلدت في جيد الزمان دره، وأكسبته شهرة أنه أول من أفلح في شق هذه الصدفة حتى زعم ابن وكيع "ص106 ج1: العمدة" أن أول استعارة وقعت في الكلام قوله:
ويل كموج البحر أخرى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارة، بحيث لا تتفق اتفاقًا ولا تجيء عفوًا إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعًا يدل على قوة غير قوة الفطرة، وهي في شعر امرئ القيس أكثر منها في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماء، وأعذب رواء، وحسب ذلك أن يكون دليلًا على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان.
فاستعار لليل سدولًا يرخيها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها وكلكلا ينوء به. وقد تنازعهما الأدباء، حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتابًا في البيان خاليًا منهما، وقد ذكر الآمدي في "الموازنة" البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن.
وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر من سريرة الكون؛ فذلك شبه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، ذهب بذلك الحسن كله، إذ أفاد أن الغرض من التشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه؛ لأن إرخاء السدول إنما يدل على السكون والحجاب، لا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن، وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه.
وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل، ولست أراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يردف أعجازه ثم ينوء بكلكله. فالوصف حقيقة ممثلة وتصوير ناطق، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعار أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عده من التشبيه المضمر الأداة؛ لأنه به أليق.
ومن تصرفه بالاستعارة في شعره قوله:
وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر
هر: هي المعروفة بابنة العامري وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، والرباب، وهند، وفرتنا، ولميس؛ وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصادته فيما تصيد، قالوا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف!.
فقد ألزموه الاستعارة كما ترى حتى قارنوا بينها وبين استعارة زهير في قوله: "ص183 ج1: العمدة".
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
ولكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من مثله؟ والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى الذي قصد إليه؛ فإن هرا كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيئ أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتنادر عليه، وإذا خرج البيت على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سببًا لكناية من أبلغ الكنايات.
ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته في هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد؛ ولقد حاول المولدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة، وذلك كقول ابن الرومي في الحديث:
شرك العقول وعقلة المستوفز
وقول المتنبي في صفة الجواد:
أجل الظليم وربقة السرحان
ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:
يا فارسًا، ما أبو أوفى إذا اشتغلت ... كلتا اليدين كرورًا غير وقاف
"عبر الفوارس" معروف بشكته ... كاف إذا لم يكن من كربة كاف
فالكلمة هي "عبر الفوارس" يريد بها أن الفوارس ترى منه ما يبكي أعينهم ويستعبرها "ص255: سرح العيون".
وهذا وأمثاله مما يدل على فطنة الشاعر وحدة فؤاده، وأن له من قوة الفطرة ما يقوم مقام الصنعة؛ وتلك صفات يدل عليها كثير من كلامه، غير أن امرأ القيس إنما كان مبتدئًا فيما ابتدع، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ البديع كله من شعره، وليس هذا بضائره ونحن الآن في الكلام عن استعاراته؛ ومن الاستعارة نوع اتفق علماء البديع أنها المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في البلاغة رتبة، وهي الاستعارة المرشحة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء، رشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة؛ وهذا النوع لا تصيب منه في شعر امرئ القيس مثالًا واحدًا؛ والذي بقي من استعاراته إنما هو في سبيل ما قدمناه، وهو قليل تدل جملته على قلب يعي وفؤاد يصنع، وشعر في زمنه شاعر؛ ولا نستطيع أن نوازن بين مذاهبه في الاستعارة ومذاهب المولدين، فلو سمع هذا الشاعر القرآن وكان أمويا أو عباسيا لكان ابن المعتز ثان اثنين في الاستعارة والتشبيه.
وقد أخرجوا من كلامه كلمات جرت أمثالًا، ورواها الميداني والضبي وغيرهما "انظر شعراء النصرانية ج1 ص68".
تشبيهاته:
قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمنا آثاره في ذلك المذهب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل؛ ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، ربما أغني في بعضه المثال الواحد؛ إذ كان امرؤ القيس مبتدئًا في شيء ومبتدعًا في شيء وجهده في جميع ذلك أن تحصي له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض. ثم هو إنما كان شاعرًا من شعراء الفطرة، يعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش؛ فينطلق كلاهما على نفس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة، فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي [يعرق] فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكان للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتًا واحدًا لو جمع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس.
أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويرًا غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فقد جاء به -كما ترى- حتى جعله تحقيقًا، وفيه أيضًا تشبيهه أربعة بأربعة، وقد زعم الفرزدق أنه أكمل بيت قالته العرب، أو قال: أجمع بيت "ص21 ج2: العمدة" وهو أول من فتح هذا الباب "ص199 ج1: العمدة".
وقد يجيء بعضها مخدجًا غير تام الأجزاء، وتبلغ ببعضها المبالغة إلى الاعتساف والشطط، كقوله في صفة الفرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
الخيفانة: الجرادة التي انسلخت من لونها الأول الأسود أو الأصفر وصارت إلى الحمرة، فشبه فرسه بها لخفتها، وشبه ناصيتها بسعف النخلة، قالوا: وهذا الوصف غير مصيب؛ لأن الشعر إذا غطى العين كان عيبًا، وهو الغمم، والحسن منها أن تكون الناصية كأنها حبشة، أي: قصيرة مجتمعة "ص13 ديوان امرئ القيس" وفي هذه القصيدة وهو مما نحن فيه:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
يريد أن لها متنين كساعدي النمر البارك، في الغلظ واكتناز اللحم؛ والمستحب عندهم تعريق المتن وتعريق الوجه، كما قال طفيل وهو أحد نعات الخيل المجيدين:
معرقة الألحى تلوح متونها
أي: معرقة الوجوه ويكاد يستبين العصب من قلة اللحم، وكذلك المتون؛ وقد وصف امرؤ القيس الخيل في هذه القصيدة وصف سمسار يزين فرسًا في السوق لا وصف فارس، ولولا تصعلكه لجاء من ذلك بما لا يلحق له الشعراء غبارًا، وهذا شيء تعرفه بمقارنة معانيه في الخيل بمعاني غيره من فرسانها. ومن قبل ما نحن فيه قوله في الغزل:
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ... ـف يصرعه بالكثيب البهر
يصف تفتر الحسناء في مشيتها بمشية المنزوف دمه أو عقله بالسكر إذا صعد كثيبًا فانقطع نفسه من الإعياء والكلال، فانظر هذه المبالغة الباردة وهذا التشبيه القبيح، وما عسى أن تكون تلك الحسناء إلا في الدرجة الثالثة من السل.
ولهذا الشاعر طريقة في التشبيه جاء منها بأبيات معدودة، وهي تناسب التتبيع الذي سنتكلم عنه؛ لأنه كان أول من اخترعه، وهذه الطريقة هي أن يريد من الوصف ما يلزم من حقيقته الممثلة في الذهن، وقد اتفق له من ذلك ما يعد غاية في الحسن، كقوله في وصف سالفة الفرس:
وسالفة كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوي السعر
فلقد أراد من وصف عنق الفرس بأنها شجرة متوقدة من شجر الكندر ما يستتبعه هذا الوصف من لون النار، وهي الشقرة، فكأنه أراد أن يقول إن فرسه شقراء، فاحتال لذلك بهذا التشبيه البديع، وقد أخذ هذا التشبيه أوس بن حجر فقال:
حتى يلف نخيلهم وبيوتهم ... لهب كناصية الحصان الأشقر
وبيته معدود عند أهل البديع من عجيب ما وقع في باب التتبيع "ص217 ج1: العمدة"؛ لأنهم يقولون إنه أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة.
وبمقدار ما أحسن [امرؤ القيس] في هذا القول أساء في قوله:
كأن على لباتها جمر مصطل ... أصاف غضا جزلًا وكف بأجزال
وهبت له ريح بمختلف الصوى ... ضبا وشمال في منازل قفال
وهي على طريقته تلك؛ فإنه أراد أن يصف توقد الحلى وصفاءه على لبات تلك الحسناء، فخلص إلى ذلك من طريق الشياطين والزبانية.... إذ لم يكفه أن جعله على صدرها كالجمر، بل خصه بجمر المصطلى؛ لأنه لا يزال يذكيه ويقلبه فهو يتوقد ويظهر جمرة جمرة، ثم كأنه استقل هذا الشعراء، وقد رووا أن بشار بن برد قال: ما قر بي قرار بعد أن سمعت بيت امرئ القيس حتى صنعت:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه
فقد اتبع الطريقة نفسها؛ وقالوا في بيته إنه لم يقع بعد بيت امرئ القيس في الترتيب أحسن منه؛ ولكن البيت الأول يفضله بأنه أورد التشبيه في حالتين مختلفتين، إذ قلوب الطير واحدة، ولكن التشبيه إنما وقع على حالتيها من الطراءة واليبوسة، وقد غفل عن ذلك بشار؛ وبالجملة فإن امرأ القيس وسط بين شعراء التشبيه؛ وإن كان قد أكثر منه واحتذى فيه فعل أبي دؤاد والمهلهل وغيرهما، إلا أن له طرقًا في هذا التشبيه هي من مبتكراته، وهي كل ما في يدنا من الأدلة على براعته وحسن تصرفه ورجحانه على غيره من متميزي الشعراء. وقد عدل المولدون عن تشبيهات الجاهلية إلى ما هو أليق بأزمانهم وأدنى شبهًا منها، ولكنهم مع ذلك لا يزال في مجموع أشعارهم موضع لبعض أبيات امرئ القيس، كقوله: سموت إليها..... وغيره، على أن أكثر شعراء الجاهلية قد خرجوا من هذا الباب، ولم يرض المولدون أن يقفوا عليه ولا وقفة الحجاب!
تتمة الانتقاد:
بقي علينا -بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته- أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه الناقد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها هنا, قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله "ص6: الديوان":
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
أي: واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من أبدع ما يجيء؛ لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته.
وقد رأينا هذا الشاعر يبالغ في استقصاء جزئيات المعاني مبالغة هي طبع فيه، وهي عند التي هيأت له مثل هذا الاحتراس، وقد مر في ذلك ما وصف توقد الحلى، ومثله في كلامه كثير وسيمر بك شيء من بديعه، وكذلك قالوا في التتبيع، وهو من أنواع الإشارة وذلك أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه. قال ابن رشيق "ص215 ج1: العمدة": وأول من أشار إلى شيء من ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله "يضحى فتيت المسك" تتبيع، وقوله: "نئوم الضحى" تتبيع ثان، وقوله: "لم تنتطق عن تفضل" تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المئونة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.
وقال [ابن رشيق] أيضًا في باب التمثيل الذي هو من ضروب الاستعارة -وذلك أن تمثل شيئًا بشيء فيه إشارة إليه- إن امرأ القيس أول من ابتكره ولم يأت أملح من قوله فيه:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر، يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه لسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له الاستعارة والتمثيل1.
وقال في الإيغال: وهو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها: وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالًا في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه خفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقوله: "لم يثقب" إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به، حب الفنا لم يحطم
فأوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر في فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن؛ فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة وكان خالص الحمرة؛ وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل
فأوغل بقوله: "الوجل" بعد أن قال الوحي؛ وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين؛ وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره، وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيها مطمعًا بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده.
أما ما جاء في شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتبهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلو، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي: لا منار له فيهتدي به؛ والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع المؤتلف والمختلف، وغيرها, فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء به، على أنهم في أكثر ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معروف قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع في ذلك شيء فهو مبتكره، ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن؛ وبعضه لا يعدلون به شيئًا، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب، أنه لم يتخلص أحد تخلص امرئ القيس، ولا سلم سلامه في هذا الباب إذ يقول:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
ليالي سليمى إذ تريك منضدًا ... وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
ولكن بعض تلك الأنواع اتبع فيها امرؤ القيس غيره، كما احتذى في الغلو على قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيت قالته العرب؛ لأن بين حجر -وهي قصبة اليمامة- وبين مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وفاضلوا بين البيتين فقالوا إن مهلهلًا أشد غلوا من امرئ القيس؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقدن بالصفاح نار الحباحب
قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنور صاحبة النار إفراطًا، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضًا:
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
إذ ليس خارجًا عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض؛ فالغلو فيه ضعيف؛ وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه؛ والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصير بصنعة الكلام؛ [وأن] فضله إنما هو في طريقة إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ وتصريف الأسلوب؛ وانظر إلى قوله:
كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقد اعترض في هذين البيتين وقيل: خالف وأفسد ولو جمع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكر في بيت، والنساء والخمر في بيت، لكان أصوب، وإنما غفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع المعنيين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان، وكذلك لو فعل في البيت الثاني لكان ذكره اللذة زائدًا في المعنى؛ لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، وإنما وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهية، وقد أتبعه المتنبي في قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
وذكر الواحدي في شرحهما اعتراض سيف الدولة عليه وعلى امرئ القيس وتخلص المتنبي لنفسه وله، غير أن ترتيب امرئ القيس أبدع وفيه من الفائدة ما ليس في بيتي أبي الطيب.
بقي أن نذكر بعض المآخذ التي أصبناها في شعر هذا الشاعر، فمن ذلك أنه له استعانة ضعيفة بالحروف والكلمات، كقوله:
ألا رب يوم منهن صالح
وأن له تكرارًا قبيحًا في الألفاظ والمعاني يجيء بها على وجه واحد في مواضع مختلفة من غير أن يتصرف في ذلك بما يخفي قبح هذا التكرار وينفي عنه الظنة.
ومنها دخوله في وجوه المناقضة والإحالة في بعض الكلام، وذلك مما يدل على أنه يرسله إرسالًا كما اتفق، لا يبتغي به إلا لذة المنطق، وإلا مواتاة ما في نفسه من الميل إلى القول؛ وبهذا كان ختام قصائده مقتضبًا، وقلما قطع الشعر على كلمة بديعة إلا في القليل كختام قصيدته السينية:
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وعبد المشيب طول عمر ملبسا
فكأن الشعر يقترح عليه اقتراحًا متى فرغ من المعنى الذي يريده سكت دون أن ينظر إلى موضع السكوت وأن الإصابة فيه كأحسن الكلام.
ومنها استعمال الكلام المؤنث في شعره، كقوله: لك الويلات إنك مرجلي، ونحوه، دون أن يوطئ لذلك بما يحسن التضمين ويخرج الكلمة المؤنثة مخرجًا لا يكفي فيه أن يكون حلقيا فقط.
أما ما وقع له غير ذلك من اضطراب بعض القوافي وثقل الألفاظ مما يكد لسان الناطق المتحفظ، فذلك متجاوز عنه بعذر البداوة، والغريب عندنا مألوف عند أهله.
مصادر و المراجع :
١- تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
18 ديسمبر 2024
تعليقات (0)