المنشورات

طرفة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان، نسبه المفضل إلى معد بن عدنان، ويقولون إنه أشعر الشعراء بعد امرئ القيس، وإنما نظروا إلى مرتبة قصيدته في الطوال على الترتيب المشهور؛ وإلا فامرؤ القيس مختلف في تقديمه عندهم، وقد أورد صاحب "الجمهرة" قصيدة طرفة آخر السبع، فقدمهم عليه جميعًا، وهو على رأي المفضل من أن أصحاب السبع هم: امرؤ القيس، وزهير والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة؛ ولما كانت مثل هذه الأقوال المتضاربة لا تعدو الآراء المرتجلة التي لا ثبت لها، فقد اخترنا إهمالها؛ لأن الرأي لا يزال يعارضه مثله إلى أن ينقطع عند البرهان.
كان طرفة ابن أخت الشاعر المتلمس، وابن أخي الشاعر المعروف بالمرقش الأصغر، فالتقى إليه الشعر من طرفيه؛ وكان في حسب من قومه، جريئًا على هجائهم وهجاء غيرهم، ولا يعرف من تاريخ نشأته إلا القليل مما لا يتهيأ به الحكم على مبلغ تأثير نشأته في شعره، غير أن جملة ما يؤخذ من ذلك أنه كان أبيا معتدا بنفسه، مدلا على قومه، واثقًا بمنزلته منهم، جريئًا بمقدار ما تدفع هذه الثقة، مترفعًا إلا عن الملوك، يرجوهم ويهجوهم؛ فهو يذهب إليهم بنفسه ولكنه يمثل لديهم وكأن في برديه حاشيتي قومه. ولا يعلل ذلك إلا بأنه كان غرا لم تسلم به السن بعد إلى مذهب عن نزق الحداثة وسكرة الشباب؛ لأنه مات وله خمس وعشرون سنة بدليل قول أخته الخرنق في رثائه:
عددنا له خمسًا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدًا ضخما
فجعنا به لما استتم تمامه ... على خير حال ولا وليدًا ولا قحما
القحم: المتناهي في السن. ويروى: ستا وعشرين حجة. وقال بعضهم: إنما بلغ عمره نيفًا وعشرين سنة، فلا يبعد أن تكون ثم رواية: إحدى وعشرين حجة، وعلى أي هذه الأقوال فقد خب هذا الشاعر وركض بسنيه القليلة في مثل الأعمار الطوال، وكان منصبا على اللهو، يعاقر الخمر ويتلف بها ماله, فأورثته جنون الكبرياء وقتلته بلسانه الذي انتضى منه سيف الهجاء, روى الجاحظ "البيان: الجزء الأول": قيل لامرئ القيس بن حجر: ما أطيب عيش الدنيا؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، بالشحم مكروبة! وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية تمزجها ساقية؛ من صوب غادية! وقيل مثل ذلك لطرفة فقال: مطعم شهي. ومركب وطي!. 

وفي سبب قتله أقوال متقاربة؛ أمثلها ما رواه يعقوب بن السكيت في شرح ديوانه؛ قال1: إن طرفة هجا عمرو بن هند "ص415 ج1: خزانة الأدب" بأبياته التي أولها:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور2
لم يسمعها عمرو بن هند؛ حتى خرج يومًا إلى الصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه حتى أصاب طريدته؛ فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبًا، وفيهم ابن عم طرفة، فقال لهم: أوقدوا، فأوقدوا نارًا وشوى، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه، إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقا فأبصر كشحه وكان من أحسن أهل زمانه جسمًا، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر فهجاه طرفة بأبيات فقال له عمرو بن هند، وكان سمع تلك الأبيات: يا عبد عمرو، لقد أبصر طرفة حسن كشحك، ثم تمثل فقال:
ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحًا إذا قام أهضما
فغضب عبد عمرو مما قاله وأنف فقال: لقد قال للملك أقبح من هذا! قال عمرو: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو وأبى أن يسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه بها ... فسكت عمرو بن هند على ما قرر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه فأضرب عنه -وبلغ ذلك طرفة- وطلب غرته والاستمكان منه، حتى أمن طرفة ولم يخفه على نفسه، فظن أنه قد رضي عنه، وقد كان المتلمس -وهو جرير بن عبد المسيح- هجا عمرو بن هند، وكان قد غضب عليه، فقدم المتلمس وطرفة على عمرو بن هند يتعرضان لفضله، فكتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر.... وقال لهما انطلقا إليه فاقبضا جوائزكما، فخرجا، فزعموا أنهما لما هبطا النجف قال المتلمس: يا طرفة، إنك غلام غر حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمنًا أن يكون قد أمر فينا بشر، فهلم ننظر في كتابنا، فإن يكن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن يكن أمر فينا بغير ذلك لم نهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وحرص المتلمس على طرفة فأبى [ثم كان من أمرهما أن قتل طرفة، قتله عامل عمرو بن هند على البحرين*] ويقال إنه لما قرأ العامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها. فقال: اسقني خمرًا، فإذا ثملت فافصد أكحلي، ففعل حتى مات، وذكر ذلك البحتري بقوله:
وكذاك طرفة حين أوجس خيفة ... في الرأس، هان عليه فصد الأكحل
قال المرتضى في أماليه "ص131 ج1": ويقال إن صاحب هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورًا صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك، بعض الشر أهون من بعض
وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة المتلمس في النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان.
وقالوا: إن طرفة نطق بهذين البيتين "أبا منذر...." لما أيقن بالموت، وقد عدوه بهما فيمن شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف، لقدرته وسكون جأشه وقوة غريزته، كهدبة بن الخشرم ومرة بن محكان السعدي "ص129 ج1: العمدة".
ويقال إن ذلك كان سنة 552 بعد الميلاد، وقيل: سنة 564. 












مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید