المنشورات
مذاهب طرفة بن عبيد في الشعر
ليس فيما وقع إلينا من شعر الجاهلية ما ينطق بأن صاحبه شاعر قبيلة بمجموع هذا المعنى، غير شعر طرفة؛ فهو إذا فخر رأيته يتكلم بلسان ملك قد ضمن طاعة قومه واستمسك بميثاقهم؛ وما [كان] أحق امرئ القيس بمثل هذا الفخر فيقيم به جهة من شعره قد تركها وهي تريد أن تنقض.
وقد وصف طرفة النوق وصفًا شعريا، ولكنه قصر في صفة الخيل وجاءت في كلمه متفرقات من الحكم والأمثال، وهي أبدع ما في شعره، ثم هو قد ضرب في الهجاء بالسهم الصائب ورجم فيه بالشهاب الثاقب، ولكنه قليل المديح نازل الطبقة فيه؛ ولم يؤثر له من ذلك إلا ما يرد على قومه، وهو مدحه لقتادة بن سلمة الحنفي حين أصاب قومه سنة فأتوه فبذل لهم؛ وثم أبيات قالوا إنه مدح فيها سعد بن مالك حين أطرد فصار في غير قومه وقد ذكرهم فيها بقوله:
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورًا ... سوى حيه إلا كآخر هالك
ولعل مديحها منحول إذ يقول فيه:
رأيت "سعودًا" من شعوب كثيرة ... فلم ترعيني مثل سعد بن مالك
وليس مثل هذا مما يقوله طرفة:
ويمتاز هذا الرجل بالمبالغة والإغراق، فكأنه ينظر إلى دقائق الوصف بعين من البلور ... وذلك كقوله في وصف الناقة:
كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العسيب بمسرد1
فطورًا به خلف الزميل وتارة ... على حشف كالشن ذاو مجدد2
لها فخذان عولي النحض فيهما ... كأنهما بابا منيف ممرد3
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد4
لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد1
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد2
فقد أراد أن يصف ذنب الناقة بكثرة الهلب، وهو الشعر الكثير، فشبهه بجناحي النسر، وجعل فخذيها كبابي الصرع الممرد، وشبه تباعد ما بين مرفقيها وزورها بكناس الظبي حول الشجر، ثم شبه الناقة في ارتفاعها بقنطرة الرومي الذي جعله يقسم على قنطرته لتحاطن بالبناء ولتشادن بالقرمد، ولعمري ليس هذا القسم بأكثر من اللغو. وقد مر في مثل هذه التشبيهات حتى وصل إلى عيني الناقة فجعلهما، من حجاجيهما في مثل غارين من الجبل، ولوأنه مد في عنق هذه الناقة فشبهه بأطول من خراطيم السحاب.
وإنما تحسن المبالغة إذا لم يكن التشبيه منكشفًا هذا الانكشاف فيكون في إحدى جهاته سبب الأسباب التي يصح أن تتعلق عليه المبالغة، وسيأتيك هذا في موضعه مفصلًا.
ومن نوع قسم الرومي في شعر طرفة قوله متغزلًا يصف الأقحوان:
وتبسم عن ألمى كأن منورًا ... تخلل حر الرمل دعص له ندي3
سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد4
فحاصل البيتين أنه يشبه ثغر التي يتغزل فيها بالأقحوان الندي، ويقول إنها قد ذرت الإثمد على لثاتها "وسائر العرب يفعلن ذلك في الشفاه واللثات ليكون أشد للمعان الأسنان" غير أن تخلل الدعص الندى من الأقحوان المنور لحر الرمل، والوصول من ذلك كله إلى تشبيه الثغر بالرفيف واللمعان لا يعد فلاحًا في الغزل وأولى به أن يكون فلاحة.
والصنعة في شعر طرفة قليلة إلا أنها جيدة، وأرى شعر هذا الرجل كالشباب: حقيقة جماله في القوة والمتانة؛ فإن اتفق معه شيء من ظواهر الجمال كان ذلك بمجموعه كمالًا، فمن مشهور استعاراته قوله:
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وهي غاية من غايات هذا الجواد: فإن البيت يصور الجمال والقوة والكبرياء، ويكاد يريك الناس مطرقين قد تعلقت أعينهم بهداب تلك الأزر. ومن هذه القصيدة بيت دائر في كتب اللغة والأدب، وهو قوله:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا نرى الآدب فينا ينتقر
غير أن حياة هذا البيت تاريخية لا شعرية؛ لأنه إنما سار وبقي للاستشهاد بألفاظه؛ ومن كلماته الجميلة قوله: "وعامت بضبعيها". إذ يصف الناقة بأنها تمد يديها كهيئة السابح، وقوله: "طراد الغرام" في صفة قومه بالبذل والسفه، وقوله في صفة الحرب يذكر قومه:
لا ترى إلا أخا رجل ... آخذًا قرنا فملتزمه
فهذه الكلمة "أخا رجل" في موضعها من أبلغ الكلم، بل هي من جوامعها؛ لأنها تدل على كثرة قومه وإقدامهم، وتوزعهم في الحرب توزع الآجال واستغراقهم أعداءهم، إلى نحو ذلك؛ ومن هذه القصيدة الحكمة السائرة:
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
ومما أختاره له في الحماسة قوله:
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
وأن لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لدليل
ولا يزال الكتاب لعهدنا يكتبون "علم ليس بالظن" وهم يظنون أنها معربة ... وقد جاءت في شعر إسلامي من شعر المائة الأولى: وأعلم غير الظن، وهي أبلغ وأوجز.
مصادر و المراجع :
١- تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
18 ديسمبر 2024
تعليقات (0)