المنشورات

شعر زهير بن ابي سلمى

قد تقدم أن زهيرًا أشهر من عرف من العرب باستثبات اللفظ وتخير الكلمة وتنقيح العبارة؛ فلا جرم كان أحصفهم شعرًا، وأفصحهم لفظًا؛ ولا يزال قد رمي في شعره بالحكمة الرائعة، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المنسق النبيل، وقد سلس له النظام، وأطاعه عصي الكلام، فلا تتبين في ألفاظه ذلة الاستكراه، ولا هوان الاعتساف، بل تراه من الروعة والفخامة وحسن الاستواء كأنما كانت تهدر في قلبه لا في شدقه، ولكأني أرى أبياته موازين، فلا تكاد اللفظة تميل في الكفة حتى تقع أختها في الكفة الأخرى فتساويا، ومن أجل ذلك قل المنحول في شعره؛ لأنه ديباجة غير ممزقة، ونسيج غير مخرق، ولا يأخذه نظر الناقد حتى بنفيه، وقد نحلوه أبياتًا يقال إنها لصرمة الأنصاري يقول في أولها: 

ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
"ص582: شعراء النصرانية"
فنفاها الأصمعي؛ لأنها لا تشبه كلامه؛ إذ كانت ألفاظ زهير طريقة بينة، وكان شعره نفسًا لا فتور فيه ولا تلبث، وحسبه بمثل هذا الدليل, إذا كان الدخيل في القوم لا يستدل بغير انقطاع نسبه على أنه دخيل.
ويظهر لمن تدبر شعر زهير أنه ضعيف الابتكار والاختراع، لا يعارض في ذلك الفحول المعدودين كامرئ القيس وغيره، ولكن ألفاظه وصنعته غطت على هذا النقص؛ فقلما ينكشف إلا لمن عارض وتتبع؛ وقد تراه يأخذ في صفة من الصفات كنعت الناقة أو حمر الوحش أو طراد الصيد، فلا يزال ينحتها من ألفاظه حتى تتمثل كأنها دمية مصور [إن لم تكن فيها حياة فإن الحسن في تمثالها حي] .
وترى الرأي يغلب شعر هذا الرجل، فكأنه شعر سيد لا شعر شاعر، وأكثر ما يظهر ذلك من أبياته الهمزية التي يقال إنه هجا بها آل بيت من كلب من بني عليم بن حبان وذلك حيث يقول فيها "ص552: شعراء النصرانية":
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فإن قالوا النساء مخبآت ... فحق لكل محصنة هداء
وإما أن يقول بنو مصاد ... إليكم، إننا قوم براء
وإما أن يقولوا قد وفينا ... بذمتنا فعادتنا الوفاء
وإما أن يقولوا قد أبينا ... فشر مواطن الحسب الإباء
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
وبهذا البيت الأخير سمي زهير قاضي الشعر. أما قوله: وما أدري ... إلخ فهو الذي اختاره علماء البلاغة مثالًا في باب التشكك، وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وله في النفس حلاوة وحسن موقع، بخلاف ما للغلو والإغراق؛ لأنه يدل على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما؛ فقد أظهر زهير أنه لم يعلم أهم رجال أم نساء؛ وهذا أملح من أن يقول هم نساء؛ وأقرب إلى التصديق، وأبلغ في التهكم والازدراء والتنقص "ص53 ج2: العمدة" ومن هذه القصيدة:
ولولا أن ينال أبا طريف ... إسار من مليك أو لحاء1
لقد زارت بيوت بني عليم ... من الكلمات آنية ملاء
ولعمري إن هذه الآنية الملاء لطرفة من طرف الاستعارة، وإن حسنها إنما تم بذكر البيوت في صدر الشعر. وفيها أيضًا: 

وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء
ويروى: لكل منكرة كفاء، وهي لمحة دالة أشار بها لقبح ما كان يصنع له لو لقيه، وهذا البيت عند قدامة أفضل بيت في الإشارة التي لا يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر.
ولا بأس أن ننسحب على هذا الأثر من البديع، فإن ذلك من متممات زهير، ولولاه لما كان لصنعته شأن، وقد كان يتوكأ في هذه الطريقة على من تقدمه من الفحول ويلوذ بهم، كامرئ القيس وأوس بن حجر وابي دؤاد الإيادي، كما اتبع في صفته امرأ القيس قوله:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فإنه أوغل في التشبيه إيغالًا؛ بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة، وكان خالص الحمرة، وقد اتبع بيت امرئ القيس:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي مل يثقب
وكذلك اتبع في نفي الشيء بإيجابه حيث يقول:
بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
فأثبت لها في اللفظ وصيدًا، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسد، وله في المبالغة والتتميم العجيب قوله:
من يلق يومًا على علاته هرمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقا
فإنه يريد بقوله: "على علاته" ما يكون من قلة المال والعدم، أي: فكيف به وهو على خير تلك الحال، وقد جاء له في هذه القصيدة:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
قالوا إنه أتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج وزاد ممدوحه رتبة وتقدم به خطوة على أقرانه، وهو نوع من التقسيم تأتي فيه الزيادة تدريجًا وترتيبًا، ولذلك يصعب على متعاطيه ويقل جدا حتى إنهم لم يجدوا من الشعر عديل هذا البيت "ص20 ج2: العمدة".
ذلك بعض صنعته، أما معانيه فإن أكثر ما قدم به زهير المديح، وهو الذي ألقى عن المادحين فضول الكلام، وله في ذلك أبيات لم يسبق إليها، كأبياته القافية التى يقول فيها:
من يلق يومًا على علاته هرما
ونحو ذلك:
من ضريبته التقوى، ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والرحم1
مورث المجد لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم 

وقصيدته اللامية التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
وفيها يقول:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل
كذلك أبياته التي استجمع فيها ضروب المديح من العقل والعفة والعدل والشجاعة، وهي التي يقول فيها، وهي من المديح المنصوص عليه، وقد عدوها شرفًا لمن قيلت فيهم:
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللًا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقد اختارها قدامة في نقد الشعر وشرحها على ذلك التقسيم.
ونحن لسنا في سبيل الاختيار، وإنما نسوق ما لا يزيلنا عن طريق البحث؛ ولزهير طريقة في تقريب المبالغة والبلوغ إلى الإفراط والإغراق من طريق الحقيقة، كراهية للكذب الثقيل، وبغضة لسوء التأليف الذي يجيء من ناحية الإغراب، فتراه يداور المعاني حتى يبصر لها طريقًا إلى الحقيقة، ويجد لها مخلصًا إلى الواقع كقوله:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر
وقوله أيضًا:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وعلى هذه الطريقة يحمل قول عمر: إنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، ولا ترى زهيرًا يشذ عنها في شيء، حتى لقد بلغ من معرفتهم ذلك له أنهم حملوا عليه الجواب المروي عن أوس بن حجر حين سأله رجل وقد سمعه يقول:
ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
فقال له: أنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال أوس: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسدًا فتحها قط, وذلك لتخصص زهير بتلك الطريقة والتزامه إياها.
على أن سبب هذا الالتزام قد يكون من ضعف الخيال؛ لأنه لم تستقل له طريقة فيه، ولا هو كان من المتبسطين في فنون المجاز، كما قد يكون أنفة ونزوعًا إلى مذاهب السيادة، وتورعًا عن أمثال تلك التكاذيب، وهو الأرجح عندنا لما قدمنا من أن هذا الرجل خلق سيدًا قبل أن يخلق شاعرًا؛ ولذلك قصر مديحه ولم يجعله تجارة كما جعله الأعشى، ولا انحط فيه إلى تساقط الهمة كما فعل النابغة، ولا زين باطلًا، ولا اختلق موضوعًا، بل كان مديحه تاريخًا صحيحًا.
ومن أجل هذا كان لا يحتال إلى التخلص في قصائده، بل يقتضب المديح، أو يتخلص بمثل قوله:
دع ذا وعد القول في هرم
ولو شاء ذلك تفتقت له الحيلة؛ ثم كان يتناول البسيط من معاني المديح وما لا يمدح به عادة؛ فتدفعه سلامة النية إلى إقحامه في شعر كقوله:
لعمر أبيك ما هرم بن سلمى ... بملحي إذا اللؤماء ليموا
فهذا البيت لا يرضى أحمق العرب أن يمدح به، ولكن زهيرًا يعرف أن هرمًا يرضاه، بل يعرف كيف يرضيه به، ومثله قوله في معناه:
إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
وكلمة "على علاته" هذه لا تزال تدور في الناس إلى اليوم، وكذلك كلمته في قوله:
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
يعني المنية، فقد أجراها الظرفاء على الحذف، فيقولون إلى حيث ألقت ... لمن يودعون وجهه ويستقبلون قفاه.... 












مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید