المنشورات
خشونة الشعر الجاهلي:
ليس الذي نجده نحن في شعر الجاهلية من جفاء المعنى وخشونة اللفظ [وعثرة] بعض الأساليب, مما كانوا يجدونه هم أو يأخذونه على أنفسهم، فإن الألفاظ صورة معنوية من الاجتماع، وإن الزمن يفعل في إحالة هذه الألفاظ عن مدلولاتها ما تفعل أطوار العمر في معاني النشأة فالشباب فالكهولة؛ إذ لا يكون ما يسرك وأنت طفل مثلًا بالذي يسرك وأنت شاب نفس ذلك السرور الأول في معناه وموقعه.
ولما كانت ألفاظ اللغة لا تؤدي أكثر من الصور، ومعان منتزعة من حياة أهل تلك اللغة المبنية على مصطلحات ومواصفات مألوفة بينهم، كان تبدل هذه الحياة بما يصور الاجتماع من الأسباب الكثيرة ذاهبًا بحقائق تلك الألفاظ، إذ يعطيها صورًا ومعاني معدومة أو معلومة علمًا تاريخيا لا سبيل معه إلى تحقيق الوصف بالمشاهدة أو بالعادة والألفة ونحو ذلك؛ فمن ثم تتنزل الألفاظ منزلة الغريب، ويغرق بعضها في الغرابة إذا انعدمت صورته الذهنية من الاجتماع، فيجري مجرى الألفاظ المماتة.
والعرب يذكرون في أشعارهم أسماء كثير من الحشرات ومن صفات الدواب وأشهرها الخيل والإبل على جهتي المدح والذم، وكثير مما يعد من مألوف اجتماعهم، وكل ذلك عندنا منكر قد لا يعرفه منا علماء الحيوان وأهل البيطرة، ثم هم لا يرون فيه ما نراه نحن وما رآه أهل الدول من بعدهم، وذلك شأن كل الأمم على السواء فيما يختلفون فيه جميعًا وما تختلف فيه أطوار الأمة الواحدة من الاجتماع، فتلك الخشونة في شعر الجاهلية بأسبابها هي جماع خصائصه المميزة له عن سائر أطوار الشعر العربي، وقد مر شيء من تفصيل ذلك في تاريخ الأنواع التي بوبنا لها.
وقد يتعاطى الشعراء من البلدتين وأهل الحضارة تقليد أهل البادية في بعض خصائص شعرهم فيخطئون، قال العجاج في الكميت والطرماح......... "ج4 ص18: الأغاني".
وضحك أبو كلدة الأعرابي حين أنشد شعر ابن النطاح الذي يقول فيه:
والذئب يلعب بالنعام الشارد
قال: وكيف يلعب بالنعام.... إلخ "ج2 ص109: الحيوان"؛ وكذلك عابوا على أبي نواس وهو المقدم في المحدثين صفته لعين الأسد بالجحوظ في قوله:
كأن عينه إذا التهبت ... بارزة الجفن عين مخنوق
ولعله لم يكن رآه فقام عنده أن هذا أشنع وأشبه [بشناعة] وجه الأسد وهم يصفون عنه بالغئور كقول أبي زهير:
وعينان كالوقبين في ملء صخرة ... ترى فيهما كالجمرتين تسعر
وكان الأصمعي يخطئ قومًا من المخضرمين والمحدثين في تعسفهم مثل هذه الطرقات المجهولة مما لا يعرفونه عيانًا ولا يخالطون صفته بالحقيقة التي تعرفها المشاهدة. وقد أسلفنا أن العرب كانوا علماء في أشعارهم، فسبيل هذه الأشعار عندنا سبيل كل علم يحتاج إلى درس وتلقين، وإلى الأخذ عن أهله أو القوام عليه. قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب.
وعلى ما رواه من تلك الأشعار بنى أكثر ما في كتابه "الحيوان" وإن كان قد ترك فيه تفسير شواهد كثيرة مما لا يعرفه إلا الرواة، للتحرز من خوف التطويل كما قال1:
وحتى ذكر في الجزء السادس من هذا الكتاب أنه لم يجعل لما تسكن الملح والعذوبة والأنهار والأودية والمناقع من السمك وما يعيش معه بابًا مجردًا؛ لأنه لم يجد في أكثره شعرًا يجمع الشاهد ويوثق منه بحسن الوصف "ص6 ج6". ومما نبه عليه في ذلك الكتاب مما يعد فيما نحن بسبيله، أن شعراء العرب قد تواضعوا في صفتهم قتال الكلاب وبقر الوحش على أنه إذا كان الشعر مرثية وموعظة، جعلوا الكلاب هي التي تقتل البقر، وإذا كان الشعر مديحًا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا، أن تكون الكلاب هي المقتولة، ليس على أن ذلك حكاية عن قصته بعينها، ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها؛ وأما في أكثر من ذلك فإنها تكون هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة. نبه على ذلك الجاحظ "ص8 ج2: الحيوان".
ثم إن شعر العرب إنما بقي من بعدهم للحاجة إلى ألفاظه لا إلى معانيه، إذ هو مادة الشاهد والمثل في العلوم الدينية واللسانية، وكان الرواة لا يطلبون منه أكثر من ذلك، كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات، فهم من أجل هذا يروونه على ما هو لا يبالون وافقت ألفاظه المعاني المألوفة في عصورهم أو خالفت، فتلك في جانب بعيد من الغرض الذي يستهدفونه؛ وهذا معنى قول ابن فارس: قد يكون شاعر أشعر وشعر أحلى وأظرف، فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا، وبكل يحتج وإلى كل يحتاج "ص235 ج2: المزهر".
هذا سبب ما تجده من خشونة الشعر الجاهلي.
أما السبب في أن العرب لم ينظروا في تصفية معانيهم ونحت ألفاظهم الشعرية حتى تخرج رقيقة تتهالك ونحيفة لا تتمالك، فذلك راجع إلى فطرة الاستقلال وحالة البداوة، فإن شئت قلت إن ألفاظهم إنما تقطر من سيوفهم أو تسيل من رماحهم أو تجدب في رمالهم أو تخصب في أوديتهم أو تدب في حشراتهم أو تسعى مع دوابهم أو تعذب في أمطارهم أو تأنس في غدرانهم، ولكنك لا تستطيع أن تقول إنها تتردد ألحاظًا مذعورة أو تتمثل وهي معبودة، أو تتهالك رقة دينية ونحو ذلك مما لا يلائم نشاط البداوة ولا يكون إلا وهنًا من هرم الحضارة وتماوت الحياة الاستقلالية بما يفشو في أطرافها من جراثيم الانقراض، وأظهر ما تجد ذلك في الشعر العبراني؛ فإن الذلة والمسكنة والرعدة الدينية أخص مميزاته.
مصادر و المراجع :
١- تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
18 ديسمبر 2024
تعليقات (0)