المنشورات
مقاومة الفلسفة العربية الطبيعية في أوروبا وانتشارها
وهنا موضع هذه الكلمة؛ لأن الأوروبيين لم يعرفوا الفلسفة العربية إلا من طريق الأندلس أولًا، وسنأتي على أمر النقل والترجمة إليهم من فصل آخر من هذا البحث.
أول ما دخل إلى أوروبا من الفلسفة العربية كتب ابن سينا وبعض كتب الفارابي والكندي ثم دخلت كتب الغزالي وابن رشد، وكانت فلسفة أوروبا يومئذ بعض تعاليم لاهوتية مستخرجة من كتب مختلفة لأصحاب المذاهب اللاتينية؛ فلما دخلت إليها فلسفة العرب في القرن الثاني عشر وما بعده لم تلبث أن انتشرت في المدارس والمجتمعات وأقبل عليها الناس، فرأى المجمع الأكليريكي الذي عقد في باريس سنة 1209م أنها ستذهب بالتقاليد الدينية المعروفة التي لا قرار لها على مذاهب العلم الطبيعي فحكم على المشتغلين بها يومئذ من الأوروبيين وهم أموري ودفيدوي دينان وتلامذتهما، وفي سنة 1215م حرم الأكليروس تعالم أرسطو وخصوصًا تلاخيص ابن سينا، وفي سنة 1231م حرم البابا غريغوريوس التاسع كل من يشتغل بفلسفة العرب.
كانوا يرمون بذلك إلى محو هذه الفلسفة ولكنهم لفتوا إليها الغافلين ونبهوا إلى هذه الشكوك من يسمونهم أهل اليقين، فاضطر علماء اللاهوت بعد ذلك إلى درسها، ليتخذوا من الداء دواء وليضربوا العلم في أرق مقاتله؛ فقام منهم غيليوم دوفرن وحمل على فلسفة ابن سينا ثم خفف من حملته قليلًا وانعطف برفق ظنه قاتلًا إلى فلسفة ابن رشد، وقد كان يثني عليه بعض الثناء؛ وبعده قام اللاهوتي ألبير الكبير، وهو من المعجبين بابن سينا والمزدرين لابن رشد، وله ردود كثيرة على الفلسفة العربية، ثم قام بعدهما ألد أولئك الأعداء، وهو القديس توما الشهير أعظم حكماء الكنيسة الغربية وأكبر فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة, ولكن كل أولئك لم يقووا على نقض الفلسفة العربية، فإنهم إنما كانوا يروون بالألسنة على القلوب، والحجج اللسانية قد تحرج القلب في مبادئه التي يصبو إليها ولكنها لا تصرفه عن هذه المبادئ ما دامت قوتها لفظية؛ ومن أجل ذلك حاول بعد هؤلاء ريمون مارتيني أن يضرب اليقين بالشك ويدخل إلى تلك القلوب من بعض جوانبها، فجعل ينشر كتب الغزالي للرد على فلسفة ابن سينا وابن رشد، ثم تتابع جيل دي ليسين وبرنار دي تريليا وهرفه نديليك ودانت الشاعر الإيطالي المشهور صاحب "رواية الجحيم" وجبل دي روم، وهو الذي بلغ في ذلك قريبًا من القديس توما، وجاء بعدهم الأرعن الأخرق ريمون لول الذي صرف عمره خصوصًا من سنة 1310م إلى سنة 1312م في التجوال بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوى ونابولي وبيزه، محرضًا الناس على ازدراء العرب ونبذ فلسفتهم، حتى إنه لما اجتمع مجمع فيينا سنة 1311م رفع إلى الباب اكليمنضس الخامس كتابة يقترح فيها إنشاء مجتمع يخول من السلطة ما يساعد على إسقاط الإسلام وإقامة كليات لدرس اللغة العربية وحرم المسيحيين الذي ينتصرون لفلسفة ابن رشد وطرح كتبه من المدارس الأوروبية!
وفي هذا القرن الرابع عشر كانت كتب ابن رشد قد انتشرت في أوروبا، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى غطت عندهم عى ابن سينا وأخملت من شهرته بعد أن كان هو المتميز في القرن الثالث عشر، ثم أصبحت تلك الفلسفة في القرن الخامس عشر وهي روح العلم الطبيعي في أوروبا، وذلك بعد أن صارت من الدروس الحافلة في كلية بادو المشهورة بإيطاليا التي استتبعت حركة الفلسفة الأوروبية يومئذ، وأول ناشري تعاليم ابن رشد فيها بطرس دانوا الذي لم يجد ديوان التفتيش سبيلًا إلى عقابه إلا بحرق عظامه من بعده.
وقد شرح أساتذة هذه الكلية فلسفة الحكيم القرطبي، ونبغ فيها منهم كثيرون أكسبوها الاحترام وعلو الرأي؛ ولا جرم أنهم بذلك قد رفعوا أنفسهم أيضًا.
ولما أراد ليوس الحادي عشر ملك فرنسا، إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473م، طلب من أساتذة المدارس تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه استثبت فائدة هذا الشرح وأيقن بصحته.
مصادر و المراجع :
١- تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
18 ديسمبر 2024
تعليقات (0)