المنشورات

العلوم الأدبية

رأس هذه العلوم عند الأندلسيين النحو والشعر، ولا بد في كليهما من الحظ الصالح من اللغة والرواية؛ قال ابن سعد المغربي، وقد نقل كلامه صاحب "نفح الطيب": النحو عندهم في نهاية من علو الطبقة؛ حتى إنهم في هذا العصر "القرن السابع" فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنًا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء.... وعلم الأدب المنثور -من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات- أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.... وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرًا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها "ص103 ج1: نفح الطيب".
وقد سلف لنا كلام [في] أسباب براعتهم في الشعر، أما سبب ما ذكره ابن سعيد من حالهم في النحو وتميزهم به مع انحرافهم في اللغة العامة عن الأوضاع العربية، فهو على ما نرى أن أولئك القوم كانت لهم فطرة عجيبة في قوة الذاكرة والحفظ، ولو كانت الأندلس مكان العراق وفي جهة من البادية ما ضاع حرف من اللغة ولحفلت الكتب بفنون الأدب العربي، وذلك دأبهم قديمًا وحديثًا، مما يرجح معه أن تلك الذاكرة أثر من جمال الطبيعة في أنفسهم، ومن أجل ذلك قل أن تجد في علمائهم صاحب علم واحد أو علمين، بل فيهم من يعد في الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والشعراء والكتاب والمؤرخين واللغويين والنحاة والأدباء، وقد يتميز في ذلك كله على اختلاف الفنون أو في أكثره، وقد ذكرنا بعضهم فيما سلف، وسنشير إلى آخرين. وإذا كان من مفاخر العراقيين أن الأصمعي يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، وهم يعدونه أذكى العرب وأجمعهم، فقد كان من الأندلسيين في المائة الثالثة سعيد بن الفرج مولى بني أمية المعروف بالرشاشي يحفظ مثل هذا العدد للعرب خاصة، وكان يضرب به المثل في الفصاحة على كثرة ما يتقعر في كلامه "ص256: بغية الوعاة"، وأعجب من إنشاد حماد الراوية بين يدي الوليد ليلة كاملة "وقد مر ذلك في بحث الرواية والرواة" ما ذكروا من أن أبا المتوكل الهيثم الأشبيلي حافظ الأندلسي في عصره، وكان في المائة السادسة، حضر ليلة عند أحد رؤساء أشبيلية فجرى ذكر حفظ، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم أن تختبروني أجبتكم، فقالوا له:
بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق. فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن "أرق على أرق ومثلي يأرق" وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما خرج عن قافية القاف "ص233 ج2: نفح الطيب".
وكان من حفاظهم أبو الخطاب بن دحية المتوفى سنة 633هـ، بلغ من حفظه للغة أن صار حوشيها مستعملًا عنده غالبًا، ولا يحفظ الإنسان حوشي اللغة إلا وذلك زكاة محفوظ من مستعملها؛ ولأبي الخطاب هذا رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات، على أنه يرسلها عفو الساعة وفيض البديهة، ولما ارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، جمعوا له علماء الحديث فذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها، فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية "ص369 ج1: نفح الطيب".
ولو شئنا أن نطيل في حفظ الأندلسيين لأتينا بالكثير من الأدباء واللغويين والنحاة، ولكنا نذكر من ذلك شيئًا مما نحن بسبيله ولا نظير له في غير الأندلس، وذلك عنايتهم بكتاب سيبويه في النحو البصري، وهو أحد الكتب الثلاثة التي يقال إنه لا يعرف كتاب ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غيرها، وهي: كتاب سيبويه في علم النحو العربي، وكتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، وكتاب أرسطاطاليس في علم صناعة المنطق. "ص69: القفطي".
كتاب سيبويه عندهم:
لا نعرف أول من أدخل هذا الكتاب الأندلس، وقد عرفت أول من أدخل كتاب الكسائي، وهو جودي بن عثمان العبسي الذي كان يؤدب أولاد الخلفاء بالعربية، وقد رحل إلى المشرق وأخذ عن الرياشي والفراء والكسائي وأدخل كتابه إلى الأندلس "توفي سنة 198هـ"؛ ولكن أقدم من وقفنا عليه ممن حفظوا كتاب سيبويه، هو حمدون النحوي المتوفى بعد المائتين، ولعله أول من عرف به ثم كان من أشهر حفاظه في القرن الثالث الأفشين القرطبي المتوفى سنة 309هـ، وقد أخذه بمصر عن أبي جعفر الدينوري رواية، ولكن الهمم لم تنصرف إلى استظهاره إلا في القرن الخامس كأنهم جعلوا ذلك منافسة، وقد ذكروا أن عبد الملك بن سراج إمام أهل قرطبة المتوفى سنة 489هـ عكف عليه ثمانية عشر عامًا لا يعرف سواه "ص312: بغية الوعاة" ومن ذلك العهد ابتدءوا يقررونه ويشرحونه ويملون عليه التعاليق، ومن شراحه أبو بكر الخشني الجياني المتوفى سنة 544هـ، وكان الناس يرحلون إليه لتقدمه في الكتاب، وهو من مفاخر الأندلسيين "ص105: البغية"؛ ولابن الطراوة النحوي الذي سيأتي ذكره في علماء القرن السادس كتاب سماه "المقدمات على كتاب سيبويه"، وشرحه ابن خروف المتوفى سنة 609هـ وقد أملى إبراهيم بن عيسى المعروف بابن المناصف المتوفى سنة 627هـ على قول سيبويه هذا باب علم الكلم من العربية، وهو في بضعة أسطر عشرين كراسًا "ص184: البغية" وكذلك كان لابن الحاج إملاء عليه، وكان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء، وابن عصفور توفي سنة 669هـ، وكثر حفاظ هذا الكتاب في القرن السادس، فكان فيه غير من ذكرناهم: محمد بن عبد المنعم، يسرده بلفظه، وهو أحفظ أهل زمانه؛ وجابر بن محمد الحضرمي الذي كان زعيم وقته بإقرائه والتقدم فيه؛ وخلف بن يوسف الذي كان يحفظ مع هذا الكتاب كتبًا أخرى كـ"أدب الكاتب" و"المقتضب" و"الكامل" للمبرد وغيرها؛ وأبو عامل بن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن الجد الذي قال فيه ابن ملكون: من قرأ كتاب سيبويه على ابن الجد فما عليه أن لا يقرأه على سيبويه؛ وفي هذا العصر كان أحمد بن عبد النور النحوي المتوفى سنة 702هـ لا يقرأ الكتاب فكانوا يقولون لا يعرف شيئًا! "ص142: البغية" وزادوا على ذلك في القرن السابع حتى انتهت الرياسة إلى أبي الحسن الأشبيلي المعروف بابن الصائغ المتوفى سنة 680هـ وقد شرحه وكان له في مشكلاته عجائب. قال في "بغية الوعاة": وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه فما أراه سبقه إلى ذلك أحد. وكان يعاصره إمام الأدب الأصبحي المتوفى سنة 776هـ، وله شرح على هذا الكتاب؛ ثم كان في القرن الثامن جماعة أشهرهم أبو حيان، -وسيأتي ذكره- وله تعاليق مهمة على هذا الكتاب وتجريد لأحكامه واختصار فيه للطلبة المبتدئين.
علماء العربية والأدب:
بقي أن نذكر أسماء المشاهير من علماء العربية بالأندلس غير من ذكرناهم وقد أبقينا لهذا الموضع أسماء الشعراء وأئمة الأدب؛ لأننا إنما نتفادى من الإطالة بسرد الطائفة الواحدة، ولا نعتمد إلا أن يكون وفاء البحث في جملة أجزائه لا في بعضها، وهي طريقتنا التي نجري عليها في هذا الكتاب:
كان في القرن الثاني حمدون النحوي بعد المائتين -وقد سبق ذكره- وكان هو والمهدي متعاصرين ولهما زعامة النحو واللغة، إلا أن المهدي امتاز باللغة وامتاز حمدون بالنحو ... فكان [فيه] الغاية التي لا بعدها، وقد أخذ عن علماء ذلك العصر ابن وضاح والخشني ومطرف بن قيس.
واشتهر في القرن الخشني القرطبي، وهو نحوي لغوي شاعر لقي بالمشرق السجستاني والرياشي والزيادي، وأدخل الأندلس كثيرًا من اللغة والشعر الجاهلي، وتوفي سنة 286هـ عن ثمانين سنة.
وكان يعاصره محمد بن عبد الله القرطبي وهو الذي أخذ عنه أهل الأندلس الأشعار المشروحة.
ومحمد بن عبد السلام بن ثعلبة؛ وقد أدخل الأندلس أيضًا كثيرًا من كتب اللغة والشعر الجاهلي.
وجابر بن غيث اللبلي النحوي الشاعر الأديب المتوفى سنة 299هـ.
ومحمد بن أصبغ المتوفى سنة 306هـ وهو مولى الوليد بن عبد الملك.
وهشام بن الوليد النحوي العروضي الأديب، وهو مؤدب أولاد الناصر توفي سنة 317هـ.
ومحمد بن يحيى المعروف بالرياحي مؤدب المغيرة بن الناصر، وهو إمام في العربية والأدب، فقيه شاعر.
وأحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم، حافظ للعربية والغريب، متقدم في النقد، شاعر منفرد، شرح أكثر دواوين العرب، توفي سنة 318هـ.
وقاسم بن أصبغ "247-340هـ" وهو فرد في النحو والغريب والشعر، وكانت إليه الرحلة بالأندلس كما كانت بالمشرق يومئذ لأبي سعيد بن الأعرابي.
[ثم] أبو عبد الله المعروف بابن خنيس، وكان كاتبًا بليغًا عالمًا باللغة والغريب والأخبار والتاريخ توفي سنة 343هـ. 

ومحمد بن أصبغ المتفنن في العلو من النحو واللغة والحساب والفرائض والشعر وغيرها، وتوفي سنة344هـ.
[وممن] نبغ في القرن الرابع محمد بن أبان المتوفى سنة 354هـ، وكان فردًا في اللغة والعربية والأخبار والتواريخ؛ فكان مكينًا عند المستنصر.
وابن القوطية القرطبي إمام اللغة والعربية في زمنه، [توفي] سنة 367هـ.
وأبو بكر القرطبي المعروف بابن العريف النحوي، قيل إنه صنع لولد المنصور بن أبي عامر مسألة فيها من العربية 27209 أوجه، وتوفي سنة 367هـ.
والحسين بن الوليد من مؤدبي أولاد المنصور أيضًا، وهو شاعر أستاذ في الأدب إمام في العربية.
وأبو بكر الزبيدي الأشبيلي واحد عصره في النحو واللغة، وقد أدب ولد المستنصر، توفي سنة 379هـ.
وأحمد بن أبان بن سعيد صاحب شرطة قرطبة، الإمام في العربية واللغة صنف كتاب "السماء والعالم" في اللغة، مائة مجلد، وقد رأينا هذا الاسم في كتب أرسطاطاليس التي ذكرها ابن القفطي، وقال: هو أربع مقالات في الطبيعة نقله ابن البطريق "ص30" وتوفي ابن أبان سنة 382هـ.
ومحمد بن عاصم النحوي من كبار الأدباء، توفي سنة 382هـ.
وقد أوردنا فيما سبق أسماء أكثر علماء القرن الخامس، ولكنا نذكر منهم هنا محمد بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وهو من أحفظ أهل زمانه للنحو واللغة، لا سيما كتب أبي زيد والأصمعي وتمام بن غالب بقية شيوح اللغة الضابطين لحروفها الحاذقين بمقاييسها، وكان إمامًا فيها ثقة في إيرادها توفي سنة 433هـ.
وابن سيده صاحب كتاب "المخصص" وغيره، وهو فرد في اللغة والنحو متوفر على علوم الحكمة، توفي سنة 459هـ.
وغانم بن وليد المالقي المتوفى سنة 470هـ وكان أهل الأندلس يعدون أئمة الأدب في ذلك الوقت ثلاثة: أبو مروان بن سراج بقرطبة، والأعلم الشنتمري بأشبيلية، وغانم هذا بمالقة، لكن زاد غانم عليهما بالفقه والحديث والطب والكلام، أما أبو مروان فهو الشاعر النحو الإمام في الأدب، توفي سنة 489هـ، وكان الأعلم عالم اللغة والعربية والشعر، وقد توفي سنة 476هـ.
وممن ختمت بهم هذه المائة سراج بن عبد الملك بن سراج النحوي، وكان يجتمع إليه أربعون وخمسون من مهرة النحاة، كابن أبي فرس، وابن الأبرش، وكلهم إليه مفتقرون، لوقوفه على مواد النحو وأشعار العرب ولغاتها وأخبارها، وقد توفي سنة 508هـ.
المائة السادسة:
ثم كان [من] مشاهير القرن السادس محمد بن عبد المنعم أبو عبد الله السبتي من صدور الحفاظ لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، آية تتلى ومثالًا يضرب، وقد امتاز عن سائرهم بأنه كان يعرب أبدًا كلامه.
وأبو محمد اللوشي البارع في الأدب والنحو واللغة والكتابة والشعر والخطابة، وقد أخذ أدباء عصرهم عن الثلاثة الذين مر ذكرهم، وتوفي سنة 518هـ.
وأبو محمد البطليوسي المتبحر في اللغات والآداب، وله يد في العلوم القديمة، وهو شارح "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وكتابه "الاقتضاب" مشهور، توفي سنة 531هـ، وقد رأينا في "بغية الوعاة" للسيوطي في ترجمة أبي العباس ابن بلال اللغوي المتوفى سنة 460هـ أن ابن خلصة النحوي نسب إليه شرح "أدب الكاتب" المسمى "الاقتضاب"، وذكر أن ابن السيد البطليوسي أغار عليه وانتحله "ص175" وهذا عجيب، والله أعلم بحقيقته.
وجعفر بن محمد بن مكي، وكان عالمًا باللغات والآداب، ذاكرًا لهما، معتنيًا بما قبله منهما، ضابطًا لذلك، وعني بهما العناية التامة، وجمع من ذلك كتبًا كثيرة كان له بها اليد الطولى الباسطة في علم اللسان.
وأبو الحسين بن الطراوة، نحوي ماهر وأديب بارع، يقرض الشعر وينشئ الرسائل البليغة، وله آراء في النحو تفرد بها وخالف فيها جمهور النحاة، وعلى الجملة كان مبرزًا في علوم اللسان كلها، وتوفي سنة 528هـ عن سن عالية.
ومحمد بن يوسف المعروف بابن الاشتراكواني، المتوفى سنة 538هـ، كان لغويا أديبًا شاعرًا معتمدًا في الأدب فردًا في وقته، وهو صاحب "المقامات اللزومية" الشهيرة -وسيأتي ذكرها في موضعها- وقد اعتمد عليه أبو العباس بن مضاء في تفسير "كامل" المبرد لرسوخه في اللغة العربية.
والوزير ابن أبي الخصال "سنة 465-540هـ" وكان على براعته في الفقه وصناعة الحديث والمعرفة برجاله والتقييد لغريبه، فردًا في اللغة والأدب والنسب والتاريخ، إمامًا متفقًا عليه، متحاكمًا إليه في الكتابة والشعر، لم يكن في عصره مثله، حتى قال بعضهم إنه كان آخر رجال الأندلس علمًا وفهمًا وذكاء وتفننًا في العلوم.
ومحمد بن أحمد أبو عامر الوزير الكاتب، كان لغويا أديبا شاعرًا عارفًا بالتاريخ والأخبار، وهو من المؤلفين في ذلك كله، وكان موجودا بعد سنة 550هـ.
وأبو العباس الجراوي المالقي المتوفى سنة 561هـ، وكان على بلاغته في الشعر والكتابة من كبار النحاة والأدباء بالأندلس، درس هذين الفنين كثيرًا وأدب في آخر أيامه لبني عبد المؤمن بمراكش.
وأبو بكر بن قبلال الأديب اللغوي الكاتب الشاعر النحوي الطبيب توفي سنة 573هـ.
وأبو بكر الأشبيلي المعروف بالخدب أستاذ ابن خروف قريبًا من سنة 580هـ، وكان من حذاق النحويين وأئمة المتأخرين، يرحل إليه في العربية، واشتهر بكتاب سيبويه وطرره المدونة عليه. والخدب: الرجل الطويل. 

ومحمد بن جعفر المرسي الأديب الكاتب النحوي الذي كان إليه المرجع في إيضاح مبهم الكتب وفتح أقفالها، توفي سنة 587هـ.
وداود بن يزيد الغرناطي المتوفى سنة 573هـ، كان يقرئ العربية واللغة والأدب، وهو عالي المرتبة في ذلك رفع الطبقة، قيل: فيه إنه كان آخر النحاة بغرناطة.
وعبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي، المتفنن في ضروب الآداب واللغات، الحافظ لأيام العرب وفرسانها، الكاتب البارع الشاعر البليغ، واشتهر بعمل المقامات خصوصًا اللزومية منها -وسيأتي ذكره في بحث الصناعات اللفظية- توفي سنة 591.
وقاضي الجماعة أبو العباس الجياني القرطبي، كان من أصحاب الآراء في العربية وخالف فيها جمهور أهلها، وكان رحلة في الرواية وعقلًا في الدراية، عارفًا بالأصول والكلام والطب والحساب والهندسة، شاعر بارع كاتب بليغ، وتوفي سنة 592هـ.
وأحمد القرطبي المشهور بالوزغي، المبرز في العربية والأدب، شاعر راوية مكثر، وتوفي سنة 610هـ.
وأبو الحسن بن خروف، إمام العربية في زمنه، وهو أحد [الذين] ملئت كتب العربية بأسمائهم، وتوفي سنة 609هـ وهو على التحقيق خاتمة هذا العصر.
المائة السابعة:
كان في أول هذه المائة، أبو بكر الإشبيلي المعروف بابن طلحة، وهو شاعر أديب إمام في العربية والكلام، توفي سنة 618هـ.
وأبو العباس الشريشي صاحب الشروح الثلاثة على مقامات الحريري، وقد طبع منها الشرح الكبير، وهو أديب مبرز في العربية ذاكر للآداب، كاتب بليغ فاضل ثقة، توفي سنة 619هـ.
وأبو العباس الأشبيلي المعروف بابن الحاج، وكان متحققًا بالعربية حافظًا للغات مقدمًا في العروض، وقد برع في لسان العرب حتى لم يبق فيه من يفوقه أو يدانيه، وهو الذي كان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتابه سيبويه ما شاء! كأنه يرى نفسه خلفًا من سيبويه، وقد مات سنة 647هـ.
وأبو يحيى محمد بن رضوان الوادي آشي، وكان مضطلعًا بالعربية والفقه والنسب، إمامًا في ذلك، مشاركًا في علوم أخرى من الحساب والهيئة والهندسة وغيرها، توفي سنة 657هـ.
وأبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين -ويخطئ النحاة المتأخرون كثيرًا في ضبط هذا اللقب إذ يلفظونه بضم اللام- وقد ضبطه السيوطي وقال إن معناه "بلغة الأندلس: الأبيض الأشقر" وإلى أبي علي هذا انتهت إمامة العربية بالمشرق والمغرب، فكان آخر أئمة هذا الشأن، وكان مع ذلك نقادًا للشعر بصيرًا بمعانيه، وقد أقرأ نحو ستين سنة، حتى لم يتأدب بالأندلس أحد في وقته إلا وأسند إليه مباشرة أو بواسطة، وتوفي سنة 645هـ وكان مولده سنة 562هـ. 

وأبو المطرف المخزومي البلنسي وهو خزانة من خزائن العلوم، كان إمامًا في الفقه عالمًا بالمعقولات والنحو واللغة والأدب والطب، متبحرًا في التاريخ والأخبار، بصيرًا بالحديث، راوية مكثرًا حجة، ناظمًا ناثرًا، يعدونه ثاني بديع الزمان في الكتابة، وتوفي سنة 659هـ.
وعبد الله بن أبي عامر الكاتب الشاعر الأديب النحوي اللغوي الفقيه المشارك في العلوم، وقد توفي سنة 666هـ.
وابن الدباغ الأشبيلي؛ وهو على انفراده في ذلك العصر يحفظ مذهب مالك؛ كان عالمًا بالنحو واللغة كاتبًا شاعرًا مؤرخًا، توفي سنة 668هـ.
وأبو الحسن بن عصفور، وهو وإن كان لم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو إلا أنه كان فيه كوكب سمائه وحامل لوائه، ولا يزال اسمه خالدًا في كتب هذا الفن، توفي سنة 669هـ.
وكان خاتمة أدباء هذا العصر حازم بن محمد القرطبي، شيخ البلاغة والأدب، وأوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض والبيان، لم يجمع أحد من علم اللسان ما جمع، ولا أحكم من معاقد البيان ما أحكم، وكانت له يد في العقليات؛ وذكروا أنه روى عن جماعة يقاربون ألفًا، بين أديب وعالم وحكيم، وقد حوى جملة التاريخ في هذه المائة؛ لأنه ولد سنة 608هـ وتوفي سنة 684هـ.
نكت الأندلسيين:
وكان في هذه المائة الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الشاعر الأديب، ولم نقف على سنة وفاته، وقد عني أتم العناية بفرع لطيف من العلم هو أدب التاريخ؛ فكان يحفظ نكت الأندلسيين قديمًا وحديثًا إلى زمنه، ذاكرا لفكاهاتهم؛ وهم أكثر الناس دعابة وأملحهم نادرة، خرجوا في ذلك صنائع إقليمهم فكأنهم أزهار طبيعتها الحساسة، تقابل أزهار الطبيعة الساكنة.
المائة الثامنة:
وهي بقية مجد الأندلس؛ لأن القرن التساع كان حشرجة ونزعًا، وهذه المائة شحيحة بالأئمة عقيمة بالأفراد، وقد أخذنا من فحولها ثلاثة غير من ذكرناهم من قبل في أدبائها، وهم:
محمد بن علي بن هانئ اللخمي، كان أديبًا إمامًا في العربية لا يشق غباره في استحضار الحجج، وهو صاحب كتاب "الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة"، وتوفي سنة 733هـ.
وأثير الدين أبو حيان الأندلسي الغرناطي نحوي عصره، ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه، وكان الإمام المطلق في النحو والتصريف، خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض، وتوفي سنة 745هـ.
ومحمد بن علي المعروف بابن الفخار كان سيبويه عصره، وعده لسان الدين في "الإحاطة" آخر الطبقة من أهل هذا الفن، وقال فيه: إنه متبحر الحفظ يتفجر بالعربية تفجر البحر، قد خالطت لحمه ودمه، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذ عنه حجة ... وقل في الأندلس من لم يأخذ عنه من الطلبة، وتوفي سنة 754هـ.
كلمة في تراجم هذا البحث:
وبعد؛ فإنا لم نورد هذه الأسماء؛ لأنها أسماء فقط؛ إذ ليس كتابنا هذا من سجلات الإحصاء، وإنما أوردناها على أنها معاني ذلك التاريخ، يظهر منها سير الفنون والعلوم إلى كمالها، فإن قيمة العصر بمن يمتازون من أهله، وعلى حسب كثرتهم وقلتهم يكون وزن اعتباره ومنزلته في المقارنة بينه وبين سائر العصور، وإنما الدولة أمة، والأمة على مقدار الرءوس التي تعمل لها، وهذه الرءوس على مقدار العقول التي تضبطها، وتلك العقول على مقدار الأرواح التي تتميز بالاستئثار والزعامة في أصول الحضارة وفروعها، وما هذه الأرواح الكبيرة إلا أرواح النابغين.
من أجل ذلك أسقطنا من هذه الترجمة التي سقناها في هذا البحث كثيرين ممن لم يتحققوا بالفنون، واقتصرنا على الأئمة والأقطاب، وما منهم إلا من تكتب في ترجمته الأسطر الكثيرة على تحري الإيجاز ومعاناة الاختصار، هذا إذا لم تبسط تلك الترجمة بسطًا يتناول حالة النشأة العلمية وكهولتها في كل مترجم، وذلك بدرس المذاهب والآراء، وإيراد الشواهد عليها من مواد العلوم المختلفة، وهو منزع بعيد الشقة يحتاج إلى مصابرة ومطاولة، ويخرج إلى أن يكون كتابًا برأسه.
ونحن إنما عنينا بما جئنا به هذا البحث خاصة؛ لأن أكثر العلماء والأدباء أهملوا الأندلسيين وخلطوا مشاهيرهم بغيرهم، غير مميزين بين عصر وعصر، ولا مفرقين بين طبقة وطبقة؛ واقتصروا مع ذلك على أفراد منهم لا تكافئ جملتهم حضارة تلك الأمة، ولا يستدل بها على شيء من ذلك المجد فأردنا أن نثير تلك الدفائن؛ ونفتح من كنوز التاريخ تلك الخزائن؛ وجملة من ذكرناهم تكشف أشعتهم عن ذلك النور الذي غطته ظلمات التاريخ من الجو العربي فألقت عليه سحابة من النسيان، وتركته قطعة مظلمة كأنه من مهملات الزمان. 













مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید