المنشورات

الملاحن

هي من اللحن الذي هو التعريض والإيماء، تقول: لحنت له لحنًا إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على غيره؛ لأنك تميله بالتورية أو التعمية عن الواضح المفهوم، وملاحنة الرجلين مفاطنة أحدهما للآخر باستخراج فحوى قوله وما في نيته وضميره، وهو يشبه في اللغات الأوروبية ما يسمونه بالكتابة الخفية أو الكتابة السرية، وهو فن عندهم قديم، غير أن العرب لم يعرفوه إلا في القول والإشارة، فكانوا يتكلمون في ذلك بما يؤخذ على الرمز كما سيجيء فضلًا عن أن في لغتهم ألفاظًا تحتمل هذا النوع لدلالة اللفظ على معنيين، كأن تقول ما رأيته، أي: ما ضربت رئته، وما كلمته أي: ما جرحته، وهكذا؛ وقد ورد بعضها في القرآن، كالضحك بمعنى الحيض؛ وألف ابن دريد في هذه الألفاظ كتابًا سماه "الملاحن"، قال فيه: هذا كتاب ألفناه ليفزع إليه المجبر المضطهد على اليمين المكره عليها، فيعارض بما رسمناه ويضمر خلاف ما يظهر ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم.
وللفقهاء كلف بهذه الألفاظ، إذ تفتح لهم أبوابًا كثيرة مما يعرفونه بالحيل الشرعية، ولهم فيها ألغاز ومطارحات لا محل لبسطها هنا، وأهل اللغة يسمونها: فتيا فنية العرب، أو طبيب العرب، أو مساجع العرب، وعليها بنى الحريري المقامة الثانية والثلاثين.
ومما ورد عن العرب من لحن القول ما رواه القالي في "أماليه" عن ابن الأعرابي قال: أسرت طيئ رجلًا شابا من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا به عطية لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيئ لا أزيدكم على ما أعطيكم! ثم انصرف. فقال الأب للعم: لقد ألقيت إلى ابني كليمة لئن كان فيه خير لينجون، فما لبث أن نجا واضطرد قطعة من إبلهم فكان أباه قال له: الزم الفرقدين على جبلي طيئ فإنهما طالعان عليهما، وهما -أي: هو وعمه- لا يغيبان عنه.
ويروون من مثل هذا أخبارًا معدودة لا تدل على شيوعه فيهم ولا تواطؤهم عليه مما يقرب أن يكون به شبه علم عندهم كما فعل المتأخرون في اشتقاق المعمى منه, على ما ستعرفه.
وأما مثل الإشارة من ذلك فما حكاه المدائني من أن رجلًا مر بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطبًا من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها وذهب.
فنظر الأحوص والقوم في أمره فعي به، فقال: أرسلوا في قيس بن زهير1، فجاء، فقال له الأحوص: ألم تخبرني أنه لا يرد عليك أمر إلا عرفت مأتاه ما لم تر نواصي الخيل؟ قال: فما الخبر؟ 

فأعملوه، فقال: وضح الصبح لذي عينين، "فصار مثلًا يضرب في وضوح الشيء" ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا ينذركم فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنه قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فإنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فإنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوًا أو حامضًا، فاستعد الأحوص. وورد الجيش كما ذكر قيس!
هذا عند العرب في جاهليتها، وأما بعد الإسلام فكان مثل هذا قليلًا، كالذي روي من أن معاوية بن أبي سفيان مازح الأحنف بن قيس، فما رؤي مازحان أوقر منهما، فقال له: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر1:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
"انظر ص100 ج1: الكامل للمبرد؛ في حب بني تميم للطعام" والملفف في البجاد وطب اللبن؛ وأراد الأحنف أن قريشًا كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان. وكان معاوية قرشيا والأحنف تميميا.
ومثل هذا ما أورده الجاحظ في كتاب "البيان" "ص214 ج1": دخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن زيد الهلالي وهو عامل على أرمينية وقد بات في موضع غدير قريب منه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها! قال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلت برقعًا لها فهي في ابتغائه! أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
[ثم] فشت صنعة المعمى فتلاحنوا بالإشارة والتصحيف وغيرهما, كما ذكر.
ودخل أبو القاسم القطان على الوزير الزينبي يهنيه بالوزارة، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص؛ فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ، إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته. 

ولما فشت صنعة المعمى تلاحنوا ببعض أنواعها، ومن ذلك ما ذكره المقري صاحب "نفح الطيب" في الملاحنة بالتصحيف، من أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها وتكلمت بغير حياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس، والجيارين الذين يصنعون الجير بأشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال: يابن عمار، الجيارين! ففطن إلى مراده وقال في الحال: يا مولاي، والجباسين! فتحير الحاضرون في ذلك، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية! وذلك أن المعتمد صحف "الحيا: زين" بقوله الجيارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان عندها حياء لازدانت؛ فقال له: والجباسين، يريد به على التصحيف "والخنا: شين" أي: هي وإن كانت جميلة لكن الخنا شانها.
والغاية التي لا يلحق شأوها ما حكاه بعض أهل البديع في مبحث التصحيف عن بعض ملوك المغرب أنه طلب بنت أحد وزرائه فأبى ذلك، فأحضره الملك في ديوانه فقال له: أندلسي، يعني "أبذل شيء" فقال الوزير: أندلسي! يعني "أبذل بيتي"، فقال الملك: أندلسي، يعني "أبذل شيء" أي: إن البيت أحقر شيء. فقال الوزير: أندلسي، يعني "أبذل بنتي" فقال الملك: أندلسي، يعني "أبدل نيتي" أي: أرجع عن نيتي لعزلك وظلمك!.
ويقال إنها حكاية مخترعة. ذكر ذلك الصفي في ديوانه. ولكن اللحن الكتابي قليل في المروي عنهم، وهو على غير قاعدة ولا تواطؤ بين المتلاحنين، ولذلك لم يعد أن يكون كالملفوظ به، [ومنه] ما روي عن الصاحب أن أديبًا رفع إليه كتابًا يطلب عملًا وفي آخره: إن رأى مولانا فعل إن شاء الله!
فرد إليه الكتاب، وتواتر الخبر بحصول التوقيع فيه، ولكن الرجل أقبل عليه يراجعه فلم ير فيه توقيعًا حتى عرضه على أبي العباس الضبي فتفقد أحرفه حتى ظفر بألف وقع بها الصاحب عند قوله: "فعل إن شاء الله" فكانت بعد التوقيع "أفعل ... " ونحو ذلك: إن الملأ يأتمرون بك.
وقد بسطنا جانبًا من الكلام في هذا توطئة للبحث في الألغاز والمعمى؛ لأنهما بسبيله؛ ولأن الملاحن في هذه اللغة قليلة حتى إن ما لم نذكره منها لا يزيد على ما ذكرنا فيما نعلم، وبعضه يكاد يظهر أنه مصنوع، كهذا الخبر الذي يقولون فيه إن بعض الملوك عزم على قصد عدو له، فقدم ربيئة يتجسس أحواله، فلما صار إلى أرض العدو، شعروا به فقبضوا عليه وأمروه أن يكتب لصاحبه كتابًا يذكر له أن وجد القوم ضعفاء ويطمعه فيهم ويزين له غزوهم، فكتب:
"أما بعد فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف أحوالهم وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم، وقد كنت أعهد من أخلاق الملك المهلة في الأمور والنظر في العاقبة، ولكن ليس هذا وقت النظر في العاقبة، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، وقد رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك: نصحت فدع ريبك ودع مهلك والسلام".
فلما انتهى الكتاب إلى الملك قرأه على رجاله فقويت قلوبهم وصحت عزائمهم على الخروج، ثم إن الملك خلا بخاصته من الكبراء وأهل الرأي، وقال: أريد أن تتأملوا هذا الكتاب، فإني شعرت منه بأمر، وإني غير سائر حتى أنظر في أمري. فقال بعضهم: ما الذي لحظ الملك في الكتاب؟ قال: إن فلانًا من الرجال ذوي الحصافة والرأي، وقد أنكرت ظاهر لفظه فتأملت فحواه فوجدت في باطنه خلاف ما يوهم الظاهر، وذلك في قوله: "أصبحت مستريحًا من السعي" فيريد أنه محبوس، وقوله: "استضعفتهم بالنسبة إليكم" يريد أنهم ضعفنا لكثرتهم، وقوله: "إنكم الفئة الغالبة بإذن الله" يشير إلى قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وقوله: "رأيت من أحوال القوم ما يطيب به "قلب" الملك" فإني تأملت ما بعده فوجدت أنه يريد بالقلب: العكس؛ لأن الجملة الآتية مما يوهم ذلك، فقلبت الجملة وهي قوله: "نصحت فدع ريبك ودع مهلك" فإذا مقلوبها "كلهم عدو كبير. عد فتحصن" ا. هـ. 












مصادر و المراجع :

١- تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید