المنشورات

هل تعود الحياة إلى الميت في القبر

…الحمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد
فقد اطعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم الى سماحة الرئيس العام، ونصه (إني سمعت من علماء الاسلام أن الميت يصير حيا في القبر ويجيب عن سؤال الملائكة، ويعذب إذا بانَ منه الكفر وعدم الاستقامة في الإسلام في الحياة الدنيا، وإني كملم بمبادىء الاسلام، لم أجد في القرآن الكريم أي برهان صريح يدل على سؤال القبر وعقابه. يقول تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} (سورة الفجر، الآيات 27 - 30) حسب فهمي الضعيف أن النفس ترجع إلى ربها بعد خروجها من الجسد. ولم أفهم أن النفس تكون مع جسدها في القبر مُنعمة. وأيضا يقول الله تعالى {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (سورة غافر، الآية 11) وأفهم من هذه الآية أيضا أن الإماتة مرتان وقت النطفة وووقت خروج النفس من الجسد، كما أفهم أن الإحياء مرتان الحياة في بطن الأم ووقت البعث، ولم أفهم من الآية إشارة تدل على سؤال القبر وعذابه. يقول تعالى {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (سورة يس، الآية 52) الخ. وهذا يدل على أن الكفار نائمون. والنوم في القبر ينافي العقاب فيه. وبالنهاية أرجو ياصاحب الفضيلة أن أجد منكم جوابا شافياً، كما كانت إجاباتكم دائماً.
وقد أجابت بما يلي -
أولا أدلة الأحكام الشرعية كما تكون من الفرآن الكريم، تكون من السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريراً لعموم أمره تعالى بأخذ ما جاءنا به من نصوص الكتاب والسنة لقوله تعالى {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (سورة الحشر الآية 7) ، لأنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى إنما يشرع لنا بوحي من الله تعالى كما قال سبحانه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} . سورة النجم الآيتان (3، 4) ولأن اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عموما دليل على الإيمان بالله ومحبته سبحانه ويترتب عليه محبة الله ومغفرته لمن اتبعه، كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (سورة آل عمران الآية 31) ولأمره تعالى بطاعته صلى الله عليه وسلم وحكمه بأن طاعته طاعةٌ لله، قال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران الآيه 32) وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . (سورة النساء الآية 59) وقال {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . (سورة النساء الاية 80) . إلى غير ذلك من آيات القران التي أمرت بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه وأخذ ما ثبت عنه والعمل به، فالسنة الثابة عنه صلى الله عليه وسلم حجة تثبت بها الأحكام عقيدة وعملا، كما أن آيات القران حجة تثبت بها الأحكام صراحة واستنباطا على مقتضى قواعد اللغة العربية، وطريقه العرب في فهمهم للغتهم.
ثانيا عذاب الكافرين في قبورهم ممكن عقلا، وقد دلَّ القرآن الكريم على وقوعه، من ذلك قوله تعالى {وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (سورة غافر، الآيتان 45، 46) فهذا بيّن واضح في إثبات العذاب في القبر بالنار لأنه لا غدو ولا عشى يوم القيامة، ولقوله في ختام الآية {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فإنه يدل على عذاب أدنى قبل قيام الساعة وهو عرضهم على النار وما هو إلا عذاب القبر. وفرعون وآله ومن سواهم من الكافرين سواء في حكم الله وعدله في الجزاء، ومن ذلك أيضا قوله تعالى {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الطور الآيات 45، 47) فإنه يدل على تعذيب الكافرين عذابًا أدنى قبل قيام الساعة، وهو عام لما يصيبهم الله تعالى به في الدنيا وما يعذبهم به في قبورهم قبل أن يعثوا منها إى العذاب الأكبر. وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته من عذاب القبر، ويأمر أصحابه بذلك، وثبت أنه بعد أن صلى صلاه كسوف الشمس وخطب الناس، أمرهم أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، واستعاذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات في بقيع الغرقد، حينما كان يُلْحَد لميت من أصحابه ولو لم يكن عذاب القبر ثابتًا لم يستعذ بالله مه ولا أمر أصحابه به.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . (سورة إبراهيم، الآية 47) . يدخل فيه تثبيت المؤمن وخذلان الكافر عند سؤال كل منهما في قبره، وأن المؤمن يوفق في الإجابة وينعم في قبره، وأن الكافر يخذل ويتردد في الإجابة ويعذب في قبره. وسيجيء ذلك في حديث البراء بن عازب رضى الله عنه قريبا؛ ومن أدلة عذاب القبر أيضا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضى الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وغرز على كل قبر واحدة، وقال لعله يخفف عنهما ما لم يبسا " وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت سؤال الميت في قبره، وثبوت نعيمه فيه أو عذابه حسب عقيدته وعمله، بما لايدع مجالا للشك في ذلك. ولم يعرف عن الصحابة رضى الله عنهم في ثبوت ذلك خلاف، ولذا قال بثبوته أهل السنة والجماعة. ومما ورد في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سنته والحاكم وأبو عوانة الأسفرائيني في صحيحهما عن البراء بن عازب، رضى الله عنه قال كنا في جنازه في بقيع الغَرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله كأنَّ على رؤوسنا الطير وهو يلحد له فقال " أعوذ بالله من عذاب القبر) " ثلاث مرات، ثم قال " إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخر وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة كأنَّ على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مدَّ البصر ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه " فيقول (يا أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) قال (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين. حتى يأخذوها فيجعلوها فبي ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض. قال فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون فلا بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها الدينا، حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فيُفتح له، فيُشيِّعه من كل سماء مُقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عِليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقولان له ما دينك؟ فيقول ديني الاسلام. فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له ما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة. وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرُّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير. فيقول أنا عملك الصالح. فيقول يارب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسُوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السَّفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طَرفه عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج كنها كأنتن ريح خبيثة وُجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟ فيقول فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيُستفتح له فلا يُفتح له. ثم قرأ رسول الله صلبى الله عليه وسلم {تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . (سورة الأعراف، الآية 40) فيقول الله عزّ وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . (سورة الحج، الآية 31) . فتُعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان له ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟
فيقول هاه هاه لا أدري. فينادي منادِ من السماء أن كذب، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثيباب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوءُك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول أنا عملك الخبيث، فيقول رب لا تقم الساعة) .
ثالثاً ليس بمحالٍ في العقول أن تسأل الملائكة الأموات في قبورهم وأن يجيبهم الأموات ويأخذوا جزاء وِفاقاً بما قدموا. وليس ببعيد في عظيم قدرة الله تعالى وعجائب سننه الكونية أن ينعَّم المؤمنين في قبورهم ويعذب الكافرين فيها، فإن من أنعم النظر في الكون وضح له عموم مشيئة الله ونفاذها. وشمول قدرته تعالى وكمالها وإحكام خلقه ودقة تدبيره وإبداعه لما صوره، وسهل عليه اعتقاد ما وردت به النصوص الصحيحة في سؤال المقبورين ونعيمهم أو عذابهم. وقد ثبت فيها أن الله تعالى يعيد الروح إلى من مات بعد دفنه إعادة تجعله حيًا حياة برزخية، وسطًا بين حياته في دنياه وحياته بعد أن يبعثه الله يوم القيامة، وهذه الحياة الوسط بين الحياتين تؤهله لسماع السؤال والإجابة عنه إذا وفق وتجعله يحس بالنعيم أو العذاب. وقد تقدمت الأحاديث في ذلك ولله في تدبيره وخلقه شؤوون لا تحيط بها العقول لقصورها، ولا تحيلها بل تحكم بإمكانها. وإن كنت تَحار في تعليلها وتعجز عن الوقوف على كنهها وحقيقتها وعن معرفة مداها وغاياتها، فعلى الإنسان إذا عجز عن شيء وخفي عليه أمره أن يتهم نفسه بالقصور، ولا يتهم ربه في علمه وحكمته وقدرته.
اللجنة الدائمة 











مصادر و المراجع :

١- فتاوى إسلامية

لأصحاب الفضيلة العلماء

سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ)

فضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)

فضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (المتوفى: 1430هـ)

إضافة إلى اللجنة الدائمة، وقرارات المجمع الفقهي

المؤلف (جمع وترتيب) : محمد بن عبد العزيز بن عبد الله المسند

الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید