المنشورات

قراصنة البحر في نشوتهم

وصول الأوربيين - الفتح البريطاني - ثورة
سيبوي - حسنات الحكم البريطاني وسيئاته
كانت تلك المدنية قد ماتت بالفعل من عدة وجوه، حين كشف "كلايف" و"هيستنجر" كنوز الهند؛ فحكم "أورنجزيب" الطويل الذي مزق أوصال البلاد، وما تبعه من فوضى وحروب داخلية، ترك الهند ثمرة دانية القطوف لمن أراد أن يغزوها من جديد؛ قد كان هذا "قضاءها المحتوم" ولم يكن أمام القدر إزاءها سوى أن يختار الدولة الأوربية من بين الدول العصرية الأساليب، لتكون أداة لذلك الغزو؛ فحاول الفرنسيون غزوها وأصيبوا بالفشل، وضاعت الهند من أيديهم كما ضاعت كندا، في موقعتي "رسباخ" و "ووترلو" ثم حاول الإنجليز ذلك وانتهت محاولتهم بالنجاح.
لقد كان "فاسكو دا جاما" أرسى فلكه عام 1498م في مياه "كلكتا" بعد مرحلة دامت أحد عشر شهراً بدأت من لشبونة؛ فأحسن لقاء حاكم ملبار الهندي وسلّمه رسالة ودية من ملك البرتغال: "لقد زار مملكتي فاسكو دا جاما، وهو شريف من أشراف أسرتكم، فسررت بزيارته سروراً عظيماً؛ وإن في مملكتي لوفرة من القرفة والقرنفل والفلفل والأحجار الكريمة، وما أريده من بلادكم هو الذهب والفضة والمرجان والنسيج القرمزي"، فكان جواب صاحب الجلالة المسيحية مطالبة الهند مستعمرة برتغالية لأسباب لم يكن في مقدور الراجا أن يفهمها لجهله؛ فلكي يوضح له الأمر، أرسلت البرتغال أسطولا إلى الهند مزودا بتعليمات لنشر المسيحية وإثارة الحروب؛ وبعدئذ جاء الهولنديون في القرن السابع عشر، وطردوا البرتغاليين؛ ثم جاء الفرنسيون والإنجليز في القرن الثامن عشر، وطردوا الهولنديين، ونشبت بين الفريقين معارك حامية الوطيس لتقرر أي الفريقين يتولّى إدخال المدنية إلى الهند وفرض الضرائب على أهلها
وكانت "شركة الهند الشرقية" قد تأسست في لندن عام 1600م لتشتري منتجات الهند وجزر الهند الشرقية بأثمان بخسة وتبيعها بأثمان مرتفعة في أوروبا (1) وقد أعلنت الشركة عام 1686م عزمها على "إقامة مستعمرة إنجليزية واسعة في الهند، بحيث تكون متينة الدعائم فتدوم إلى الأبد" (3)، وأنشأت مراكز تجارية في مدراس وكلكتا وبومباي، وحصنتها، وجاءت إليها بجنود وخاضت معارك القتال، ورشت وارتشت، ومارست غير ذلك من مهام الحكومة؛ ولم يتردد "كلايف" في قبول " الهدايا" التي بلغت قيمتها أحياناً مائة وسبعين ألفا من الريالات، قدمها له الحكام الهنود المعتمدون على نيران مدافعه، كما ظفر منهم - بالإضافة إلى تلك "الهدايا" - بجزية سنوية تعادل مائة وأربعين ألفا من الريالات؛ وعين الأمير جعفر حاكما على البنغال لقاء مبلغ يعادل ستة ملايين ريال؛ وراح يضرب كل أمير وطني بالآخر، ويضم أملاكهم إلى حظيرة "شركة الهند الشرقية" شيئا فشيئا؛ وأدمن في أكل الأفيون، واتهمه البرلمان وبرأه، وأزهق روحه بيده سنة 1774م (4)؛ وأما "وارن هيستنجز" - وهو شجاع علامة قدير - فقد جمع من الأمراء الوطنيين مبلغا كبيرا قدره ربع مليون ريال ضريبة عليهم دفعوها في خزانة الشركة؛ وقبل الرشاوي لقاء وعد بألا يفرض ضريبة أكثر مما فرضه، ثم عاد ففرض ضريبة، واستولى للشركة على الأراضي التي لم تستطع دفعها، واحتل "أوز" بجيشه، ثم باعها لأحد الأمراء بمليونين ونصف مليون من الريالات (5)؛ وتسابق الهازم والمهزوم في الرشوة؛ وفرضت على أجزاء الهند التي خضعت لسلطان الشركة ضريبة أراض بلغت خمسين في كل مائة وحدة من وحدات الإنتاج، بالإضافة إلى فروض أخرى كانت من الكثرة والقسوة بحيث فرّ ثلثا السكان، وباع آخرون أبنائهم ليسدوا ما كانوا يطالبون به من ضرائب متصاعدة (6)؛ ويقول ماكولي: "جمعت في كلكتا أموال طائلة في وقت قصير، ودفع بثلاثين مليونا من الأنفس البشرية إلى أقصى حدود الشقاء؛ نعم قد تعودوا من قبل أن يعيشوا في جو من الطغيان لم يبلغ بهم كل هذا المدى" (7).
فما جاءت سنة 1857م حتى كانت جرائم الشركة قد أفقرت الجزء الشمالي الشرقي من الهند إفقارا أوغر صدور الأهالي فشقوا عصى الطاعة في ثورة يائسة؛ عندئذ تدخلت الحكومة البريطانية، وقمعت "العصيان" وتولّت هي الحكم في الأراضي التي سيطرت عليها، واعتبرتها مستعمرة للتاج، ودفعت عن ذلك تعويضا سخيا للشركة، وأضافت ثمن الشراء هذا إلى الدين العام في الهند (8)؛ لقد كان هذا فتحا للبلاد صريحا غاشما، وقد لا يجوز لنا أن نحكم عليه بمعيار "الوصايا الخلقية" التي يحفظها الناس في غرب السويس، إذ ربما كان الأجدر أن نفهم الموقف على أساس "دارون" و"نيتشه": فشعب عجز عن حكم نفسه أو عجز عن استغلال موارده الطبيعية، لابد من وقوعه فريسة لأمم تعاني مما يستثيرها من دوافع الجشع وبسط النفوذ.
وعاد هذا الفتح ببعض المزايا على الهند؛ فرجال أمثال "بنتنك" و"كاننج" و"منرو" و "إلفنستون" و "ماكولي" أدخلوا في إدارة الأجزاء البريطانية من الهند شيئا من سخاء الحرية التي سادت إنجلترا عام 1832؛ فقد استطاع "لورد وليم بنتنك" بمساعدة المصلحين من أهل البلاد، وبحافز منهم، أمثال "رام موهون روي"، استطاع أن يلغي عادة دفن الزوجة حيّة مع زوجها الميت وأن يحرّم ما كانت تقوم به طائفة من خنق الأغنياء إرضاء للإلهة "كالي"؛ ولئن حارب الإنجليز مائة وإحدى عشرة حرباً في الهند، مستخدمين فيها أموال الهند ورجالها (9) ليتمموا فتح الهند، فقد تمكنوا بعدئذ من نشر السلام على ربوع شبه الجزيرة كلها، ومدوا الطرق الحديدية، وأقاموا المصانع والمدارس، وفتحوا الجامعات في كلكتا ومدراس وبومباي ولاهور والله آباد، ونقلوا من إنجلترا علومها وفنونها الصناعية إلى الهند، وألهبت الشرق بروح الغرب الديمقراطية، ولعبوا دوراً هاماً في إطلاع العالم على ما شهدته الهند في ماضيها من ثروة ثقافية غزيرة؛ وكان ثمن هذه الخيرات كلها طغياناً مالياً مكن لطائفة من الحكام المتتابعين أن يبتزوا ثروة الهند عاما بعد عام قبل عودتهم إلى بلادهم الشمالية التي تثير في الإنسان عوامل الفاعلية والنشاط؛ وكان ثمن هذه الخيرات طغيانا اقتصاديا قضى على الصناعات الهندية، وقذف بملايين صناعها الفنيين إلى الأرض يزرعونها فلا تكفيهم طعاماً؛ وكان ثمن هذه الخيرات كذلك طغيانا سياسيا كان من أثره - وقد جاء بعد طغيان "أورنجزيب" الضيق الأفق بزمن قصير - أن يميت روح الشعب الهندي قرنا كاملا.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید