لقد كانت دراسة بلاد الصين عملاً من الأعمال المجيدة التي تمت في عصر الاستنارة (1) وقد قال فيهم ديدرو: "أولئك قوم يفوقون كل من عداهم من الأسيويين في قدم عهدهم، وفي فنونهم، وعقليتهم، وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوربية وأعظمها استنارة". وقال فلتير Voltaire: " لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر في القوانين، أو العادات، أو اللغة، أو في أزياء الأهلين ... وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم ". وهذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى بلاد الصين قد حققته دراستنا لتلك البلاد عن كثب، والذين خبروا تلك البلاد وعرفوها حق المعرفة قد بلغ اعجابهم بها غايته. انظر إلى ما قاله الكونت كيسرلنج Count Keyserling في خاتمة كتاب له يعد من أغزر الكتب علما وأعظمها نفعا وأبرعها تصويراً: "لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية. وكانت فيها صور مألوفة عادية ... وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله ... وإن عظمة الصين لتتملكني وتؤثر قيّ كل يوم أكثر من الذي قبله ... وإن عظماء تلك البلاد لأرقى ثقافة من عظماء بلادنا ... وإن أولئك السادة (1) لهم طراز سام من البشر ... وسموهم هذا هو الذي يأخذ بلبي ... إن تحية الصيني المثقف لتبلغ حد الكمال!. وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شئون الحياة ... ولعل الرجل الصيني أعمق رجال العالم على بكرة أبيهم".
والصينيون لا يهتمون كثيراً بإنكار هذه الأقوال، وقد ظلوا حتى هذا القرن) ماعدا نفراً قليلاً في الوقت الحاضر (مجمعين على أن أهل أوربا وأمريكا برابرة همج. وكان من عادة الصينيين قبل سنة 1860 أن يترجموا لفظ " أجنبي " في وثائقهم الرسمية باللفظ المقابل لهمجي أو بربري، وكان لا بد للبرابرة أن يشترطوا على الصينيين في معاهدة رسمية إصلاح هذه الترجمة (2). والصينيون كمعظم شعوب الارض "يرون أنهم أعظم الامم مدنية وأرقهم طباعاً". ولعلهم محقون في زعمهم هذا رغم ما في بلادهم من فساد وفوضى من الناحية السياسية، ورغم تأخرهم في العلوم، وكدحهم في المصانع، ومدنهم الكريهة الرائحة، وحقولهم الملأى بالاقذار، وفيضان أنهارهم، وما ينتاب بلادهم من القحط، ورغم جمودهم وقسوتهم وفقرهم وخرافاتهم، وقلة عنايتهم بتربية ابنائهم، وحروبهم المدمرة، ومذابحهم وهزائمهم المذلة. ذلك أن ما وراء هذا المظهر المظلم الذي يبدو الآن لعين الغريب عن بلادهم مدنية من أقدم المدنيات القائمة في العالم وأغناها: فمن ورائه تقاليد قديمة في الشعر، يرجع عهدها إلى عام 1700 ق. م، وسجل حافل بالفلسفة الواقعية المثالية العميقة غير المعجزة الدرك، ومن ورائه براعة في صناعة الخزف والنقش لا مثيل لها من نوعها، واتقان مع يسر لجميع الفنون الصغرى لا يضارعهم فيه الا اليابانيون، وأخلاق قويمة قوية لم نر لها نظيراً عند شعوب العالم في أي وقت من الأوقات، ونظام اجتماعي ضم عدداً من الخلائق أكثر مما ضمه أي نظام آخر عرف في التارخ كله ودام أحقابا لم يدمها غيره من النظم، ظل قائما حتى قضت عليه الثورة ويكاد ان يكون هو المثل الاعلى للنظم الحكومية التي يدعو اليها الفلاسفة؛ ومجتمع كان راقيا متمدنا حين كانت بلاد اليونان مسكن البرابرة؛ شهد قيام بابل وآشور؛ وبلاد الفرس واليهود، وأثينة ورومة والبندقية وأسبانيا، ثم شهد سقوطها كلها، وقد يبقى بعد أن تعود بلاد البلقان التي نسميها أوربا إلى ما كانت عليه من جهالة وهمجية. ترى أي سر عجيب أبقى هذا النظام الحكومي تلك القرون الطوال، وحرك هذه اليد الفنية الصناع، وأوحى إلى نفوس اولئك القوم ذينك العمق والاتزان؟
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)