المنشورات

القرون الغابرة المجهولة الصين

قصة الخلق عند الصينيين - بداية الثقافة - الخمر
وعصى الأكل - الاباطرة الافاضل - ملك كافر
تسمى الصين "جنة المؤرخين"؛ ذلك أنها ظلت مئات وآلافا من السنين ذات مؤرخين رسميين يسجلون كل ما يقع فيها، وكثيرا مما لا يقع. على أننا لا نثق بأقوالهم عن العهود السابقة لعام 76 ق. م، ولكننا اذا استمعنا إلى هذه الاقوال رأيناهم يحدثوننا أحاديث مفصلة عن تاريخ الصين منذ 3000 ق. م، ورأينا أكثرهم تقى وصلاحا يصفون خلق العالم كما يفعل المطلعون على الغيب في هذه الايام. ومن أقوالهم في هذا أن "بان كو" أول الخلائق استطاع أن يشكل الأرض حوالي عام 2. 229. 000 ق. م بعد أن ظل يكدح في عمله هذا ثمانية عشر ألف عام. وتجمعت أنفاسه التي كان يخرجها في أثناء عمله فكانت رياحا وسحبا، وأضحى صوته رعدا، وصارت عروقه أنهارا، واستحال لحمه أرضا، وشعره نبتا وشجرا، وعظمه معادن، وعرقه مطرا؛ أما الحشرات التي كانت تعلق بجسمه فأصبحت آدميين. وليس لدينا من الادلة القاطعة ما ننقض به هذا العلم الكوني العجيب.
وتقول الاساطير الصينية ان الملوك الاولين حكم كل منهم ثمانية عشر ألف عام، وانهم جاهدوا أشق جهاد ليجعلوا من قمل "بان كو" خلائق متحضرين. وتقول لنا هذه الاساطير ان الناس "كانوا قبل هؤلاء الملوك السماويين كالوحوش الضارية يلبسون الجلود ويقتاتون باللحوم النيئة، ويعرفون أمهاتهم، ولكنهم لا يعرفون آباءهم"- ولا يرى استرندبرج strendberg أن هذا الوصف الاخير مقصور على الأقدمين أو على الصينيين. ثم جاء من بعد هؤلاء الامبراطور فوشي في عام 852 ق. م بالتحديد، فعلم الناس بمعاونة زوجه المستنيرة الزواج، والموسيقى والكتابة والتصوير، وصيد السمك بالشباك، وتأنيس الحيوان، واطعام دود القز للحصول منها على الحرير. وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه سن نونج، فأدخل هذا الامبراطور في البلاد الزراعة، واخترع المحراث الخشبي، وأقام الاسواق وأوجد التجارة، وأنشأ علم الطب بما عرفه من خواص النبات العلاجية، هذا ما تقوله الاساطير التي تعلي الاشخاص أكثر مما تعلي الافكار، وتعزو إلى عدد قليل من الافراد نتائج كدح الاجيال الطوال. ثم حكم امبراطور محارب قوى يدعى هوانج- دي لم يطل عهده أكثر من مائة عام، فجاء إلى الصين بالمغنطيس والعجلات، ووظف المؤرخين الرسميين، وشاد أول أبنية من الآجر في الصين؛ وأقام مرصدا لدراسة النجوم، وأصلح التقويم، وأعاد توزيع الأرض على الأهلين. وحكم "يَو" قرنا آخر، وبلغ من صلاح حكمه أن كنفوشيوس، حين كتب عنه بعد زمانه بثمانمائة وألف عام في عهد كان يبدو له بلا ريب عهدا "حديثا" فاسدا، أخذ يندب ما طرأ على الصين من ضعف وانحلال. ويحدثنا الحكيم القديم- الذي لم يستطع رغم حكمته التورع عن "الكذبة الصالحة" يضيفها إلى القصة ليجعل لها مغزى خلقيا- يحدثنا هذا الحكيم القديم أن الناس أصبحوا أفاضل أتقياء بمجرد النظر إلى "يو"، وكان أول ما قدمه "يو" من معونة للمصلحين أن وضع في خارج باب قصره طبلا يضربونه اذا أرادوا أن يدعوه لسماع شكواهم ولوحا يكتبون عليه ما يشيرون به على الحكومة ويقول كتاب التاريخ الذائع الصيت:
"أما يَوْ الصالح فيقولون عنه انه حكم جونج- جُوُو مائة عام لأنه عاش مائة عام وعشرة وستة؛ وكان رحيما خيرا كالسماء، حكيما بصيرا كالآلهة، وكان ضياؤه يبدو من بعيد كالسحابة اللامعة، فاذا اقتربت منه كان كأنه الشمس الساطعة. وكان غنيا في غير زهو، عظيما في غير ترف وكان يلبس قلنسوة صفراء، ومئزرا قاتم اللون، ويركب عربة حمراء تجرها جياد بيض. وكانت طنف أسقف بيته غير مشذبة، وألواحه غير مسحجة، ودعائمه الخشبية غير ذات أطراف مزينة.
وكان أغلب ما يقتات به الحساء أيا كان ما يصنع منه، لا يهتم باختيار الحبوب التي يصنع منها خبزه، وكان يشرب حساء العدس من صفحة مصنوعة من الطين، ويتناوله بملعقة من الخشب. ولم يكن يتحلى بالجواهر، ولم تكن ثيابه مطرزة، بل كانت بسيطة لا يختلف بعضها عن بعض. ولم يكن يعني بغير المألوف من الاشياء أو الغريب من الاحداث، ولم يكن يقيم وزنا للأشياء النادرة الغريبة، يستمع لأغاني الغزل، عربته الرسمية خالية من أسباب الزينة ... يلبس في الصيف رداء بسيطا من القطن، ويلف جسمه في الشتاء بجلود الظباء. ومع هذا كله فقد كان أغنى من حكم جونج- جوو، طوال عهدها كله، وأرجحهم عقلا، وأطولهم عمرا، وأحبهم إلى قلوب الشعب (14). 

وكان شون آخر هؤلاء "الملوك الخمسة" مثالا في البر البنوي، كما كان هو البطل الذي جاهد لحماية البلاد من فيضانات نهر هوانج- هو، والذي أصلح التقويم، وضبط الموازين والمقاييس، وكسب محبة الاجيال التي جاءت بعده من تلاميذ المدارس بتقصير طول السوط الذي كانوا يربون به. وتقول الروايات الصينية إن شون في آخر أيامه رفع معه على العرش أقدر مساعديه، وهو المهندس العظيم يو، الذي تغلب على فيضان تسعة أنهار بشق تسعة جبال واحتفار تسع بحيرات، ويقول الصينيون "لولا يو، لكنا كلنا سمكا". وتقص الأساطير المقدسة ان خمر الأرز عصر في أيامه وقدم للامبراطور، ولكن "يو" صبه على الارض وقال متنبئا: "سيأتي اليوم الذي يخسر فيه أحد الناس بسبب هذا الشيء ملكا"، ثم نفي من كشف هذا الشرب من البلاد وحرم على الناس شربه. فلما فعل هذا جعل الناس خمر الأرز شرابهم القومي، فكان ذلك درسا علموه لمن جاء بعدهم من الخلائق.
وغيّر يو المبدأ الذي كان متبعا من قبله في وراثة الملك وهو أن يعين الامبراطور قبل وفاته من يخلفه على العرش، فجعل الملك وراثيا في أسرته، وأنشأ بذلك أسرة الشيتية (أي المتحضرة)، فكان ذلك سببا في أن يتعاقب على حكم الصين العباقرة والبلهاء وذوو المواهب الوسطى. وقضى على هذه الاسرة امبراطور ذو أطوار شاذة، يدعى جية أراد أن يسلي نفسه هو وزوجته فأمر ثلاثة آلاف من الصينيين أن يموتوا ميتة هنيئة بالقفز في بحيرة من النبيذ.
وليس لدينا ما يحقق لنا صدق ما ينقله إلينا المؤرخون الصينيون الأقدمون من أخبار هذه الاسرة. وكل ما نستطيع أن نقوله أن علماء الفلك في هذه الايام قد حققوا تاريخ الكسوف الشمسي الذي ورد ذكره في السجلات القديمة فقالوا انه قد حدث في عام 2165 ق. م، ولكن الثقاة الذين يعتد بآرائهم لا يؤمنون بحساب أولئك الفلكيين (16). وقد وجدت على بعض العظام التي كشفت في هونان أسماء حكام تعزوهم الروايات الصينية إلى الاسرة الثانية أو أسرة شانج؛ ويحاول المؤرخون أن يعزوا بعض الاواني البرنزية الموغلة في القدم إلى أيام تلك الأسرة. أما فيما عدا هذا فمرجعنا الوحيد هو القصص الذي يحوي من الطرافة واللذة أكثر مما يحوي من الحقيقة. وتقول الروايات القديمة ان وو- يي أحد أباطرة أسرة شانج كان كافرا يتحدى الآلهة ويسب روح السماء، ويلعب الشطرنج مع ذلك الروح ويأمر احد افراد حاشيته بان يحرك القطع بدل الروح، فاذا أخطأ سخر منه. ثم أهدى اليه كيسا من الجلد وملأه دماً، وأخذ يسلي نفسه بأن يصوب اليه سهامه. ويؤكد لنا المؤرخون- وفيهم من الفضيلة أكثر مما في التاريخ نفسه- ان وو- يي أصابته صاعقة فأهلكته.
وكان جوسين آخر ملوك هذه الاسرة ومخترع عصى الطعام خبيثا آثما إلى حد لا يكاد يصدقه العقل، فقضى بإثمه على اسرته. ويحكى عنه أنه قال: "لقد سمعت أن لقلب الانسان سبع فتحات، وأحب أن أتثبت من صدق هذا القول في بي كان"- وزيره وكانت تاكي زوجة جو مضرب المثل في الفجور والقسوة، فكانت تعقد في بلاطها حفلات الرقص الخليع، وكان الرجال والنساء يسرحون ويمرحون عارين في حدائقها. فلما غضب الناس من هذه الفعال عمدت إلى كم أفواههم باختراع ضروب جديدة من التعذيب، فكانت ترغم المتذمرين على أن يمسكوا بأيديهم معادن محمية في النار أو يمشوا على قضبان مطلية بالشحم ممتدة فوق حفرة مملوءة بالفحم المشتعل، فإذا سقط الضحايا في الحفرة طربت الملكة حين تراهم تشوى أجسادهم في النار.
وقضت على عهد جوسين مؤامرة دبرها الثوار في داخل البلاد، وغارة من ولاية جو الغربية، ورفع المغيرون على العرش أسرة جو، وقد دام حكمها أطول من حكم أية أسرة مالكة أخرى في بلاد الصين. وكافأ الزعماء المنتصرون من أعانوهم من القواد والكبراء بأن جعلوهم حكاما يكادون أن يكونوا مستقلين في الولايات الكثيرة التي قسمت اليها الدولة الجديدة. وعلى هذا النحو بدأ عهد الاقطاع الذي كان فيما بعد شديد الخطر على حكومة البلاد، والذي كان رغم هذا باعثا على النشاط الادبي والفلسفي في بلاد الصين. وتزاوج القادمون الجدد والسكان الأولون وامتزجوا جميعا، وكان امتزاجهم هذا تمهيدا بيولوجيا لأولى حضارات الشرق الأقصى في الازمنة التاريخية.












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید