المنشورات

الفلاسفة قبل كنفوشيوس

"كتاب التغيرات" - "اليانج والين" - عصر
الاستنارة الصينية - ننج شي سقراط الصين
يمتاز هذا العصر بفلسفته. وليس يعيب الجنس البشري أن تشوفه كان في كل عصر من العصور يسبق حكمته، وأن مثله العليا كانت تخطو بأسرع من خطى مسلكه. وها هو ذا يو- دزه في عام 1250 ق. م ينطق بتلك العبارة القصيرة التي تعد من جوامع الكلم، والتي طالما رددها الناس من قبله، ولكنها لم تبل جدتها بعد؛ اذ لا يزال الناس في حاجة إلى من يذكرهم بأن كل مجد مآله كرب وشقاء:
"من يطرح المجد ولا يعبأ به ينج من الاحزان" (30). 

ألا ما اسعد الانسان الذي لا تاريخ له! وقد ظلت بلاد الصين من ذلك العهد القديم إلى يومنا هذا تخرج فلاسفة.
فكما ان الهند أرقى بلاد العلم في الاديان، وعلم ما وراء الطبيعة، فكذلك الصين أرقاها في الفلسفة الانسانية غير الدينية، اذ لا يكاد يوجد في الادب الصيني كله كتاب ذو شأن في علم ما وراء الطبيعة غير تلك الوثيقة العجيبة التي يبدأ بها تاريخ التفكير الصيني المدون، وهي الوثيقة المعروفة بإسم إي- جنج، أو "كتاب التغيرات". وتقول الرواية المأثورة إن هذا الكتاب قد كتبه ون وانج، أحد مؤسسي أسرة جو في سجنه، وان أبسط مبادئه مستمدة من فوشي الذي عاش قبله بزمن طويل. وهم يقولون لنا ان هذا الامبراطور الاسطوري قد اخترع "الجوات" الثماني أو التثاليث الرمزية التي ترى علوم ما وراء الطبيعة عند الصينيين أنها تنطبق على قوانين الطبيعة وعناصرها. وهم يقولون أن كل واحد من هذه التثاليث يتألف من ثلاثة خطوط بعضها متصل ويمثل عنصر الذكورة أو اليانج وبعضها متقطع ويمثل عنصر الأنوثة أو الين.
وكذلك يمثل اليانج في هذه الثنائية الرمزية العنصر الايجابي الفعال، المنتج، السماوي عنصر الضوء والحرارة والحياة؛ على حين أن الين يمثل العنصر السلبي المنفعل، الأرضي، عنصر الظلمة والبرودة والموت وقد خلد ون يانج ذكره، وأتعب عقول آلاف الملايين من الصينيين بمضاعفة عدد الشرط في الخطوط المتصلة والمتقطعة، فرفع بذلك عدد تباديلها وتوافيقها إلى أربعة وستين كل منها يقابل قانونا من قوانين الطبيعة، ويحتوي على جميع العلوم والتاريخ. والحكمة جميعا تكمن في هذه الأربع والستين شَيْبَنْجَة- أو الآراء الممثلة تمثيلا رمزيا في التثليثات السالفة الذكر. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون وهما عنصرا الذكورة والأنوثة أي اليانج والين. 

وكان الصينيون يتخذون كتاب التغيرات كتابا يدرسون فيه طرق التنبؤ بالغيب، ويعدونه أعظم تراثهم الأدبي، ويقولون أن كل من فهم ما فيه من توافيق يدرك جميع القوانين الطبيعية. وقد نشر كنفوشيوس هذا الكتاب بنفسه، وجمله بما علق عليه من الحواشي، وكان يفضله على كل ما عداه من كتب الصينيين، ويتمنى أن يخلو لنفسه خمسين عاما يقضيها في دراسته.
ولا يتفق هذا السفر العجيب مع روح الفلسفة الصينية، وهي الروح الايجابية العملية، وان كان يلائم غموض النفس الصينية ونحن نجد في الصين فلاسفة في أبعد الازمان التي وصل إلينا تاريخها، ولكن كل ما حفظه التاريخ لهم قبل أيام لو- دزه، لا يعدو أن يكون قطعة مبتورة من هنا وهناك، أو مجرد أسم من الاسماء، وقد شهد القرنان السادس والخامس في بلاد الصين، كما شهدا في الهند وفارس وبلاد اليهود واليونان، عاصفة قوية من العبقرية الفلسفية والأدبية، بدأت كما بدأت في بلاد اليونان بعصر من "الاستنارة" العقلية.
ولقد سبق هذه الاستنارة عهد من الحروب والفوضى فتح أمام المواهب غير ذات الانساب العريقة مسالك للرقي، وحفز أهل المدن على أن يطلبوا لأنفسهم معلمين يثقفون أذهانهم بالفنون العقلية. وسرعان ما كشف معلمو الشعب ما في علوم الدين من ابهام وغموض، وما في الأداة الحكومية من نقص، وعرفوا أن المقاييس الاخلاقية مقاييس نسبية، وشرعوا يبحثون عن المثل العليا والكمال المطلق. وقد أعدم الكثيرون من هؤلاء الباحثين على يد ولاة الامور الذين وجدوا أن قتلهم أسهل من محاججتهم. وتقول احدى الروايات الصينية ان كنفوشيوس نفسه، وهو وزير الجريمة في مقاطعة لو، حكم بالاعدام على موظف صيني متمرد بحجة أنه "كان في وسعه أن يجمع حوله طائفة كبيرة من الرجال؛ وأن آراءه كانت تجد بسهولة من يستجيب لها من العامة، وأن تجعل العناد صفة خليقة بالإكبار والإجلال؛ وأن سفسطته كان فيها من المعارضة والمعاندة ما يمكنها من الوقوف في وجه الأحكام الحقة المعترف بها من الناس". ويصدق زوما- تشين هذه القصة ولكن بعض المؤرخين الصينيين يرفضونها؛ ونحن نرجو ألا تكون صحيحة.
وأشهر هؤلاء المتمردين العقليين هو تنج شي الذي أعدمه دوق جنج في شباب كنفوشيوس، ويقول كتاب ليه- دزه: ان تنج هذا كان "يعلم النظريات القائلة ان الحق والباطل أمران نسبيان، ويؤيد هذه الآراء بحجج لا آخر لها". واتهمه أعداؤه بأنه لم يكن يستنكف أن يثبت اليوم رأيا ويثبت عكسه في غد، إذا ما نال على عمله هذا ما يرتضيه من الاجر؛ وكان يعرض خدماته على من لهم قضايا في المحاكم، ولا يرى ما يعوقه عن تقديمها لمن يطلبها من الناس. ويروي عنه أحد أعدائه من المؤرخين الصينيين هذه القصة الطريفة:
غرق رجل موسر من الولاية التي كان يقيم فيها تنج في نهر واي، وأخرج رجل جثته من الماء، وطلب إلى أسرة القتيل مبلغا كبيرا من المال نظير إخراجها من النهر. وذهبت أسرة القتيل إلى تنج تستشيره في الأمر، فأجابها السفسطائي بقوله: "تريثوا فلن تؤدي المال المطلوب أسرة غير أسرتكم"، وعملت أسرة القتيل بهذه النصيحة. وقلق الرجل الذي كانت الجثة في حوزته فجاء هو أيضا إلى تنجشي يستنصحه. فنصحه السفسطائي بما نصح به أهل القتيل إذ قال له: "تريث؛ فإنهم لن يحصلوا على الجثة إلاّ منك".
ووضع تنج شي قانونا للعقوبات تبين أنه أرقى مما تطبقه حكومة جنج. ولما ضاق رئيس الوزراء ذرعا بالنشرات التي كان تنج يحمل فيها على سياسته حرم إلصاقها في الأماكن العامة، فما كان من تنج الا أن عمد إلى توزيعها على الناس بنفسه، فلما حرم الوزير توزيع النشرات أخذ تنج يهربها إلى القراء مخبوءة بين أشياء أخرى، فلما أعيت الحكومة الحيل أمرت بقطع رأسه (36). 











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید