جبري أبيقوري - الدفاع عن الشر
وكانت عقيدة أخرى، تختلف عن العقيدة السابقة كل الاختلاف، قد أخذت تنتشر وتشتد الدعوة إليها بين الصينيين، فقد قام رجل يدعى يانج- جو لا نعرف عنه شيئاً إلا ما قاله عنه شانئوه (159) وجهر بهذه الدعوة المتناقضة، وهي أن الحياة ملأى بالآلام وأن اللذة هدفها الأعلى، وكان ينكر وجود الله، كما ينكر البعث، ويقول إن الخلائق ليست إلا دمى لا حول لها ولا طول، تحركها القوى الطبيعية العمياء التي أوجدتها، والتي وهبتها أسلافها دون أن يكون لها في ذلك خيار، ورسمت لها أخلاقها، فلا تستطيع أن تتحول عنها أو أن تبدلها غيرَها (160).
فأما الحكيم العاقل فيرضى بما قسم له دون أن يشكوا أو يتذمر، ولكن لا يغتر بشيء من سخافات كنفوشيوس ومودي، وما يقولانه عن الفضيلة الفطرية والحب العالمي، والسمعة الطيبة. ومن أقواله أن المبادئ الخلقية شراك ينصبه الماكرون للسذج البسطاء، وأن الحب العالمي وهمُ يتوهمه الأطفال الذين لا يعرفون كنه البغضاء العالمية التي هي سُنَّة الحياة، وأن حسن الأحدوثة ألعوبة لا يستطيع الحمقى الذين ضحوا من أجلها أن يستمتعوا بعد وفاتهم بها، وأن الأخيار يقاسون في الحياة ما يقاسيه الأشرار، بل إنه ليبدو أن الأشرار أكثر استمتاعاً بالحياة من الأخيار (161). وأن أحكم الحكماء الأقدمين ليسوا هم رجال الأخلاق والحاكمين كما يقول كنفوشيوس بل هم عبدة الشهوات، الذين كان من حظهم أن استبقوا المشترعين والفلاسفة، فاستمتعوا بكل لذة دفعتهم إليها غرائزهم. نعم إن الأشرار قد يخلّفون وراءهم سمعة غير طيبة، ولكن ذلك أمر لا يقلق عظامهم. ثم يدعونا يانج- جو إلى أن نفكر في مصير الأخيار والأشرار، فيقول (1): إن الناس كلهم مجمعون على أن شون، ويو، وجو- جونج، وكنفوشيوس كانوا خير الناس وأحقهم بالإعجاب، وأن جياه، وجو، شرهم جميعاً.
ولكن شون قد اضطر إلى حرث الأرض في جنوب نهر هو، والى صنع آنية الفخار بجوار بحيرة لاي، ولم يكن في وسعه أن يستريح من عناء العمل لحظة قصيرة، بل إنه لم يكن يستطيع أن يجد شيئاً من الطعام الشهي والملابس المدفئة، ولم يكن في قلب أبويه شيء من الحب له، كما لم يكن يجد من أخوته وأخواته شيئاً من العطف عليه ... فلما نزل له "ياو" آخر الأمر عن المُلك، كان قد تقدمت به السن، وانحطت قواه العقلية؛ وظهر أن ابنه شانج جو إنسان ناقص العقل عديم الكفاية؛ فلم يجد بداً من أن ينزل عن الملُك إلى يو. ومات بعدئذ ميتة محزنة. ولم يكن بين البشر كلهم إنسان قضى حياته كلها بائساً منغصاً، كما قضى هو حياته ...
"وكان يو قد صرف كل جهوده في فلح الأرض، وولد له طفل ولكنه لم يستطيع أن يربيه؛ فكان يمر على باب داره ولا يدخلها، وانحنى جسمه وانضمر وغلظ جلد يديه وقدميه وتحجر. فلما أن نزل له شون آخر الأمر عن العرش عاش في بيت وطئ حقير، وإن كان يلبس ميدعة وقلنسوة ظريفتين. ثم مات ميتة محزنة، ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش معيشة نكدة حزينة كما عاش يو ...
"وكان كنفوشيوس يفهم أساليب الملوك والحكام الأقدمين، ويستجيب إلى دعوات أمراء عصره. ثم قطعت الشجرة التي يستظل بها في سونج، وأزيلت آثار أقدامه من ويه، وحل به الضنك في شانج وجو، وحوصر في شان وتشي؛ ... وأذله يانج هو وأهانه، ومات ميتة محزنة. ولم يكن بين بنى الإنسان كلهم من عاش عيشة مضطربة صاخبة كما عاش كنفوشيوس.
"ولم يستمتع هؤلاء الحكماء الأربعة بالسرور يوماً واحداً من أيام حياتهم، وذاعت شهرتهم بعد موتهم ذيوعاً سوف يدوم عشرات الآلاف من الأجيال، ولكن هذه الشهرة هي الشيء الذي لا يختاره قط من يعنى بالحقائق ويهتم بها. هل يحتفلون بذكراهم؟ هذا مالا يعرفونه. وهل يكافئونهم على أعمالهم؟ وهذا أيضاً لا يعرفونه وليست شهرتهم خيراً لهم مما هي لجذع شجرة أو مَدَرة.
أما (جياه) فقد ورث ثروة طائلة تجمعت مدى قرون طويلة؛ ونال شرف الجلوس على العرش الملكي؛ وأوتي من الحكمة ما يكفيه لأن يتحدى كل من هم دونه مقاماً؛ ومن القوة ما يكفي لأن يزعزع به أركان العالم كله. وكان يستمتع بكل ما تستطيع العين والأذن أن تستمتعا به من ضروب الملذات؛ ولم يحجم قط عن فعل كل ما سولت له نفسه أن يفعله. ومات ميتة هنيئة؛ ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش عيشة مترفة فاسدة كما عاش هو. وورث جو (شِنْ) ثروة طائلة تجمعت في مدى قرون طويلة، ونال شرف الجلوس على العرش الملكي، وكان له من القوة ما يستطيع به أن يفعل كل ما يريد؛ ... وأباح لنفسه في قصوره فعل كل ما يشتهيه، وأطلق لشهواته العنان خلال الليالي الطوال؛ ولم يكدر صفو سعادته قط بالتفكير في آداب اللياقة أو العدالة، حتى قضى نحبه كأبهج ما يقضى الناس نحبهم. ولم يكن في الآدميين كلهم من كانت حياته داعرة فاجرة كما كانت حياة جو.
وقد استمتع هذان الرجلان السافلان في حياتهما بما شاءا من الملذات وأطلقا لشهواتهم العنان، واشتهر بعد وفاتهما بأنهما كانا من أشد الناس حمقاً واستبداداً، ولكنهما استمتعا باللذة وهي حقيقة لا تستطيع أن تهبها حسن الأحدوثة. فإذا لامهم الناس فإنهم لا يعرفون، وإذا اثنوا عليهم ظلوا بهذا الثناء جاهلين، وسمعتهم (السيئة) لا تهمهم أكثر مما تهم جذع شجرة أو مَدَرة (162).
ألا ما أعظم الفرق بين هذه الفلسفة وبين فلسفة كنفوشيوس وهنا أيضاً نظن أن الزمان وهو رجعي كالرجعيين من الآدميين قد أبقى لنا آراء أجل المفكرين الصينيين وأعظمهم، ثم عدا على الباقين كلهم تقريباً فطواهم في غمرة الأرواح المنسية. ولعل الزمان محق في فعله هذا، ذلك أن الإنسانية نفسها ما كانت لتعمر طويلاً لو كان فيها كثيرون ممن يفكرون كما يفكر يان جو. وكل ما تستطيع أن ترد به عليه هو أن المجتمع لا يمكن أن يقوم إذا لم يتعاون الفرد مع زملائه أخذاً وعطاءاً؛ وإذا لم يتحملهم ويصبر على أذاهم، ويتقيد بما في المجتمع، من قيود أخلاقية، وإن الفرد الكامل العقل لا يمكن أن يوجد في غير مجتمع، وأن حياتنا نفسها إنما تعتمد على ما فيها من قيود. ومن المؤرخين من يرى في انتشار هذه الفلسفة الأنانية بعض الأسباب التي أدت إلى ما أصاب المجتمع الصيني من انحلال في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد (163). فلا عجب والحالة هذه أن يرفع منشيس، جنسن ( Dr. Johnson) زمانه، عقيرته بالاحتجاج الشديد وبالتشهير بأبيقورية ينج جو وبمثالية مودي فقال:
"إن أقوال ينج جو ومودي تملأ العالم؛ وإذا سمعت الناس يتحدثون وجدتهم قد اعتنقوا آراء هذا أو آراء ذاك. فأما المبدأ الذي يدعو إليه ينج فهو هذا. "كل إنسان وشأنه" وهو مبدأ لا يعترف بمطالب الملك. أما مبدأ مو فهو هذا: "أحب الناس جميعا بقدر واحد"- وهو مبدأ لا يعترف بما يحق للأب من حب خاص. ومن لا يعترف بحق الملك ولا بحق الأب كان في منزلة الحيوان الأعجم. فإذا لم يوضع لمبادئهما حد، وإذا لم تسد مبادئ كنفوشيوس، فإنهما سيخدعان الناس بحديثهما المقلوب، ويسدان في وجوههم طريق الخير والصلاح.
"ولقد أزعجتني تلك الأشياء وأمرضت قلبي، فوقفت أدافع عن عقائد الحكماء والأقدمين، وأعارض ينج ومو، وأطارد أقوالهما المنحطة، حتى يتوارى هؤلاء المتحدثون الفاسدون فلا يجرءوا على الظهور. ولن يغير الحكماء من أقوالي هذه إذا ما عادوا إلى الظهور" (164).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)