المنشورات

شون - دزه، واقعي

النفس البشرية أمارة بالسوء - ضرورة القوانين
كان في فلسفة منشيس كثير من نقط الضعف، وكان يسر معاصريه أن يشهروا بهذه النقط بأعظم ما يستطيعون من قوة. أحق أن الناس أخيار بطبيعتهم؛ وأنهم لا ينحدرون إلى الشر إلا إذا فسدت النظم التي يعيشون في كنفها؟ أم الصحيح أن الطبيعة هي السبب في شرور المجتمع؟ وقد كان هذان الرأيان المتعارضان مثاراً لجدل عنيف ظل قائماً آلاف السنين بين المصلحين والمحافظين. فهل تستطيع التربية أن تنقص الجرائم، وتزيد الفضائل، وتأخذ بيد الناس إلى المثل العليا وتمكنهم من إقامة الدولة الفاضلة المثالية؟ وهل يصلح الفلاسفة لحكم الدول أو أن فلسفتهم لا تؤدي إلا إلى زيادة ما يحاولون علاجه من فوضى واضطراب؟
وكان أشد الناس نقداً لمنشيس وأصعبهم مراساً أحد الموظفين العموميين، ويلوح أنه توفي في عام 235 ق. م وهو في سن السبعين. ذلك هو شون- دزه الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الباب. وكما كان منشيس يعتقد أن الناس جميعهم أخيار بطبيعتهم، كان شون- دزه يرى أنهم جميعاً أشرار بفطرتهم، وحتى شون ويو كانا متوحشين حين ولدا (184). وقد وصلت إلينا قطعة من كتابات شون- دزه يبدو فيها أشبه الناس بالفيلسوف الإنجليزي هبز Hobbes إذ يقول:
"النفس البشرية أمارة بالسوء، وما تعمله من خير متكلف مصطنع (1). فهي قد غرس فيها من ساعة مولدها حب الكسب؛ وإذا كانت أعمال الإنسان إنما تقوم على الحب فإن هذا يؤدي إلى انتشار المنازعات والسرقات. وليس إنكار الذات والاستسلام للغير من (طبيعة) الإنسان، بل إن من طبيعته التحاسد والتباغض، ولما كانت أعمال الناس لا بد أن تتفق مع طباعهم فإنهم لا يصدر عنهم إلا العنف والأذى، ولا نرى فيهم إخلاصاً أو وفاء.
ومن طبيعة الإنسان أيضاً إشباع الأذن والعين، وهذا يؤدي إلى حب الأصوات العذبة والمناظر الجميلة. ولما كانت أعمال الناس لا أن تتفق مع هذه وتلك كان لا بد أن توجد الدعارة وسوء النظام، وأن تنعدم الاستقامة والاحتشام ومظاهرهما المختلفة المتسقة. ومن هذا يتضح أن السير وفق الطبيعة البشرية وإطاعة أحاسيسها، يؤديان حتماً إلى الخصام واللصوصية، وإلى مخالفة الواجبات التي تتفق مع الوضع الذي وجد فيه كل إنسان، وإلى الخلط بين كل المراتب والمميزات حتى تعم الهمجية. ولهذا كان لا بد من قيام سلطان المعلمين وسلطان الشرائع، والاهتداء بقواعد الاستقامة والاحتشام التي ينشأ عنها إنكار الذات والخضوع للغير ومراعاة قواعد السلوك المنظمة، مما يؤدي إلى قيام الدولة، ذات الحكومة الصالحة ... وقد أدرك الملوك الأقدمون الحكماء ما طبعت عليه النفس البشرية من شر، فوضعوا قواعد الاستقامة والآداب، وسنوا النظم والقوانين ليقوموا طبائع الناس ومشاعرهم ويصلحوهم ... حتى يسلكوا جميعاً الحكم الصالح الذي يتفق مع العقل" (185).
ووصل شون- دزه في بحوثه إلى ما وصل إليه ترجنيف وهو أن الطبيعة ليست معبداً يضم الصالحين، بل هي مصنع يجتمع فيه الصالح والطالح؛ وهي تقدم المادة الغفل، التي يعمل فيها الذكاء فيصوغها ويشكلها. وكان يظن أن أولئك الناس الأشرار بطبعهم، إذا دربوا على الخير، قد يصلحون، بل إن في وسعهم إذا أريد لهم ذلك أن يكونوا قديسين (186). 

ولما كان شون- دزه شاعراً وحكيماً معاً فقد نظم فلسفة فرنسيس بيكن في هذا الشعر الركيك:
إنكم تمجدون الطبيعة وتتفكرون فيها،

فلم لا تسخرونها وتنظمونها؟

إنكم تطيعون الطبيعة وتسبحون بحمدها،

فلم لا تسيطرون على أساليبها وتستخدمونها،

إنكم تنظرون إلى الفصول نظرة الإجلال وتنتظرونها،

فلم لا تستجيبون إليها لبذل النشاط في أوانه؟

إنكم تعتمدون على الأشياء الخارجة عنكم وتعجبون بها،

فلم لا تكشفون عن كفاياتكم؟

وتوجهونها الوجهة الصالحة؟.










مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید