المنشورات

أسرتا منج وجنج

سقوط المغول - أسرة منج - غزو المنشو - أسرة
جنج - ملك مستنير - شين لونج يأبى قبول الأفكار الغريبة
ولم تعرف الصين بعدئذ مثل هذا العهد الزاهر إلا بعد أربعة قرون، فسرعان ما دب الاضمحلال في أسرة يوان متأثرة بانهيار سلطان المغول في أوربا وغرب آسية وفي ذوبان المغول في جسم الشعب الصيني نفسه، إذا جاز أن نلجأ إلى هذه العبارة السهلة المتحذلقة لنعلل بها هذه الظاهرة التي تتكرر في جميع الأوقات. وهناك أسباب أخرى لا تقل عن هذين السببين قوة وخطراً؛ ذلك أن إمبراطورية كالصين متسعة الرقعة قليلة التماسك من الناحية الطبيعية تفصلها الجبال والصحراوات والبحار لا يمكن أن تخضع إلى ما شاء الله لحكومة واحدة. وقد كان المغول رجال حرب خيراً منهم رجال حكم وإدارة، ولذلك اضطر خلفاء كوبلاي خان أن يعودوا إلى نظام الامتحان وإلى الانتفاع بكفاية الصين الإدارية، ولم يحدث الفتح المغولي أثراً يذكر في عادات الصينيين وأفكارهم إلا ما عسى أن يكون قد أدخله في الأدب الصيني من الروايات والمسرحيات. وتزوج الصينيون مرة أخرى من فاتحيهم ومدنوهم وغلبوهم على أمرهم، حتى إذا كان عام 1368م تزعم أحد الكهنة البوذيين السابقين ثورة على هؤلاء الفاتحين ودخل بيكين منتصراً وأعلن نفسه أول إمبراطور من أسرة السنج (أي المتألقين). وجلس على العرش في الجيل التالي ملك قدير من ملوك هذه الأسرة، واستمتعت الصين في عهد يونج لو مرة أخرى بعهد جديد من عهود الرخاء، وعادت إلى تشجيع الفنون، بيد أن عهد الأسرة "المتألقة" انتهى مع ذلك بفترة من الفوضى والاضطراب والغزو الخارجي: وبينما كانت البلاد منقسمة إلى أحزاب متنافرة متعادية اجتاحتها جحافل جديدة من الغزاة الفاتحين واقتحمت السور العظيم وحاصرت بيكين. تلك هي جحافل المنشو.
وكان المنشو شعبا تنجوسياً ظل قروناً كثيرة يعيش في البلاد التي تعرف الآن باسم منشو كو (أي مملكة المنشو)، ومدوا فتوحهم في أول الأمر نحو الشمال حتى وصلوا إلى نهر عامور، ثم اتجهوا نحو الجنوب وهجموا على عاصمة الصينيين. وجمع آخر أباطرة المنج أسرته حوله وشرب نخبهم، وأمر زوجته أن تنتحر (1)، ثم شنق نفسه بمنطقته بعد أن كتب آخر أوامره على طية ثوبه: "نحن الفقراء في الفضيلة، ذوي الشخصية الحقيرة، قد استحققنا غضب الله العلي القدير.

"لقد غرر بي وزرائي، وإني لأستحي أن ألقى في الآخرة آبائي وأجدادي، ولهذا فإني أخلع بيدي تاجي عن رأسي، وأنتظر وشعري يغطي وجهي أن يقطع الثوار أشلائي، لا تؤذوا أحداً من أبناء شعبي" (15). ودفنه المنشو باحتفال يليق بكرامته وأسسوا أسرة الشنج (الطاهرة) التي حكمت الصين حتى عهدنا الثوري الحاضر.
وسرعان ما أصبحوا هم أيضا صينيين واستمتعت البلاد تحت حكم كانج شي بعهد من الرخاء والسلم والاستنارة لم تعرف له مثيلاً في تاريخها كله. جلس هذا الإمبراطور على العرش وهو في السابعة من عمره، فلما بلغ الثالثة عشرة أمسك بيده زمام الأمور في إمبراطورية لم تكن تشمل وقتئذ بلاد الصين وحدها بل كانت تشمل معها بلاد المغول ومنشوريا وكوريا والهند الصينية وأنام والتبت والتركستان. وما من شك في أنها كانت أكبر إمبراطوريات ذلك العهد وأكثرها ثروة وسكاناً. وحكمها كانج شي بحكمة وعدل حسدها عليهما معاصراه أورنجزيب ولويس الرابع عشر. وكان الإمبراطور نفسه رجلاً نشيطاً قوي الجسم والعقل، ينشد الصحة في الحياة العنيفة خارج القصور ويعمل في الوقت نفسه على أن يلم بعلوم تلك الأيام وفنونها. وكان يطوف في أنحاء مملكته ويصلح ما فيها من العلوم حيثما وجدها، ومن أعماله أنه عدل قانونها الجنائي. وكان يعيش عيشة بسيطة ليس فيها شيء من الإسراف أو الترف، ويقتصد في نفقات الدولة الإدارية ويفخر بالعمل على رفاهية شعبه (16). وازدهرت الآداب والعلوم في أيامه بفضل تشجيعه إياها ومناصرتها؛ وعاد فن الخزف إلى أعلى ما وصل إليه في أيام مجده السابقة. وكان متسامحاً في الأمور الدينية فأجاز كل العبادات ودرس اللغة اللاتينية على القساوسة اليسوعيين، وصبر على الأساليب الغربية التي كان يتبعها التجار الأوربيون في ثغور بلاده. ولما مات بعد حكمه الطويل الموفق (1661 - 1722) كان آخر ما نطق به هو هذه الألفاظ: "إني لأخشى أن تتعرض الصين في مئات أو آلاف السنين المقبلة إلى خطر الاصطدام مع مختلف الأمم الغربية التي تفد إلى هذه البلاد من وراء البحار" (17).
وبرزت هذه المشاكل الناشئة من ازدياد التبادل التجاري والاتصال بين الصين وأوربا مرة أخرى في عهد إمبراطور آخر قدير من أسرة المنشو هو شين لونج. وكان هذا الإمبراطور شاعراً أنشأ 000ر34 قصيدة إحداها في "الشاي" وصلت إلى مسامع فلتير فأرسل "تحياته إلى ملك الصين الفاتن" (18)، وصوره المصورون الفرنسيون وكتبوا تحت صورته باللغة الفرنسية أبياتاً من الشعر لا توفيه حقه من الثناء يقولون فيها:
"إنه يعمل جاهداً دون أن يخلد إلى الراحة للقيام بأعمال حكومته المختلفة التي يعجب الناس بها. وهذا الملك أعظم ملوك العالم وهو أيضاً أعلم الناس في إمبراطوريته بفنون الأدب".
وحكم الصين جيلين كاملين (1737 - 1796م)، ونزل عن الملك لما بلغ الثامنة والخمسين، ولكنه ظل يشرف على حكومة البلاد حتى توفي (1799م). وحدثت في آخر سني حكمه حادثة كان من شأنها أن تذكر المفكرين من الصينيين بما أنذرهم به كانج- شي، فقد أرسلت إنجلترا بعد أن أثارت غضب الإمبراطور باستيراد الأفيون إلى بلاد الصين بعثة برياسة لورد مكارنتي لتفاوض شين لونج في عقد معاهدة تجارية بين البلدين. وأخذ المبعوثون الإنجليز يشرحون للإمبراطور المزايا التي تعود عليه من تبادل التجارة مع إنكلترا وأضافوا إلى أقوالهم أن المعاهدة التي يريدون عقدها سيفترض فيها مساواة ملك بريطانيا بإمبراطور الصين. فما كان من شين لونج إلا أن أملى هذا الجواب ليرسل إلى جورج الثالث:
"إن الأشياء العجيبة البديعة لا قيمة لها في نظري؛ وليس لمصنوعات بلادكم فائدة لدي. هذا إذن هو ردي على ما تطلبون إليَّ من تعيين ممثل لكم في بلاطي وهو طلب يتعارض مع عادات أسرتي ولا يعود عليكم إلا بالمتاعب. لقد شرحت لك آرائي مفصلة وأمرت مبعوثيك أن يغادروا البلاد في سلام عائدين إلى بلادهم، وخليق بك أيها الملك أن تحترم شعوري هذا، وأن تكون في المستقبل أكثر إخلاصاً وولاء مما كنت في الماضي، حتى يكون خضوعك الدائم لعرشي من أسباب استمتاع بلادك بالسلم والرخاء في مستقبل الأيام" (19).
بهذه العبارات القوية الفخورة حاولت الصين أن تدرأ عنها شر الانقلاب الصناعي. ولكننا سنعرف في الفصول التالية كيف غزت الثورة الصناعية البلاد رغم هذا الاحتياط. ولندرس الآن قبل الكلام عن هذه الثورة العناصر الاقتصادية والسياسية والخلقية التي تتألف منها تلك الحضارة الفذة المستنيرة الجديرة بالدرس، والتي يبدو أن الثورة الصناعية ستقضي عليها القضاء الأخير.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید