المنشورات

نونا التوكيد

يراد بهما: نونان، إحداهما مشددة مبنية على الفتح، والثانية مخففة مبنية على السكون؛ كالنونين في قولهم: لا تقعدن عن إغاثة الملهوف، وبادرن بمعاونته. وهما من أحرف المعاني1، وتتصل كل واحد منهما بآخر المضارع والأمر فتخلصهما للزمن المستقبل2؛ ولا تتصل بهما إن كانا لغيره3، وكذلك لا تتصل بالفعل الماضي، ولا بأسماء الأفعال مطلقا؛ "سواء أكانت طلبية أم خبرية"4 ولا بغيرها من الأسماء والحروف؛ نحو: "لا تحملن حقدا على من ينافسك في الخير، وابذلن جهدك الحميد في سبقه، وإدراك الغاية قبله". فالنون في آخر الفعلين حرف للتوكيد، ويصح تشديدها مع الفتح، أو تخفيفها مع التسكين. وقد اجتمعا في قوله تعالى في قصة يوسف: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} . أثرهما المعنوي: لو سمعت من يقول: "لا تنفع النصيحة الأحمق. ولا يفيده التأديب" … فقد تتردد في تصديق الكلام، وبداخلك الشك في صحته. ولك العذر في هذا، لأن المتكلم لم يحسن التقدير؛ إذ كان عليه أن يدرك بخبرته وذكائه أن مثل هذا الكلام قد يقابل بالتردد والشك؛ فيعمل على أن يدفعهما، ويمنع تسربهما إلى ذهن السامع، بإحدى الوسائل الكلامية التي عرض لها البلاغون -ومنها: نون التوكيد … فلو أنه قال: لا تنفعن … ولا يفيدنه … لكان مجيء نون التوكيد، بمثابة القسم على صحة الكلام وصدقه، أو بمنزلة تكراره وإعادته بقصد تأكيد مضمونه، وصحة ما حواه، فلا يكون هناك مجال للشك والتردد عند من هو مستعد للاقتناع. ومثل هذا أن يقال لك: "أكثر من الحساد بفضلك"، "ولا تكثر من الأعداء بجهلك". أو: "تجنب شر القتلة؛ شاهد الزور"، "وهل يبرئ القاتل، وهل يقتل البريء سواه؟ " … فقد تزعم أن المتكلم يعرض عليك كل مسألة من هذه المسائل عرضا مجردا، "أي: خاليا من رغبته القوية وتشدده في مطالبتك بالتنفيذ أو بالترك، خاليا من الحرص على تأديتك ما تحدث بشأنه أو عدم تأديتك، وتصديقك به أو عدم التصديق". وقد يكون لك الحق في هذا الزعم؛ فليس في الكلام ما يبعده، فلو رغب المتكلم أن يبعد الزعم، ويشعر السامعين بتمسكه بمضمون كلامه، وتشدده في التنفيذ والتأدية، وحرصه على تصديق ما قال لزاد في الكلام ما يدل على هذه الرغبة؛ كأن يزيد "نون التوكيد"، على آخر الفعل المضارع أو الأمر؛ فإن زيادتها تفيد معنى الجملة قوة. وتكسبه تأكيدا؛ إذ تبعد عنه الاحتمال السابق، وتجعله مقصورا على الحقيقة الواضحة من الألفاظ؛ دون ما وراءها من احتمالات. فلو قيل في الأمثلة السالفة: "أكثرن … ، لا تكثرن … ، تجبن … ، يبرئن، … يقتلن … " لكان مجيء نون التوكيد برغم اختصارها البالغ بمنزلة القسم، وبمنزلة قول المتكلم: إني أؤكد كلامي، وأتشدد في أن تنفذ مضمونه في المستقبل، وأحرص على أن تصدقه. أو: بمنزلة تكرار ذلك الكلام، وإعادته لتحقيق الغرض السالف، ومن أجله سميت: بـ"نون التوكيد". والمشددة أقوى في تأدية التوكيد من المخففة. وفوق هذا فكلتاهما تخلص المضارع للزمن المستقبل، سواء أكان اتصالها به مباشرا أم غير مباشر1. ومن ثم دخولها على المضارع إذا كان للحال، أو للمضي أحيانا -كما سبق- منعا للتعارض بينهما. أما الأمر فزمنه مستقبل في الأغلب؛ فتقوي فيه الاستقبال. فإن كان لغيره خلصته للمستقبل المحض فالأثر المعنوي لهذه النون هو: توكيد المعنى على الوجه السالف، وتخليص زمن المضارع للاستقبال، وتقوية الاستقبال في فعل الأمر أو إرجاعه إليه. وقد تفيد النون -مع التوكيد- الدلالة على الإحاطة والشمول إذا كان الكلام لغير الواحد، ففي مثل: يا قومنا احذرن مكايد الأعداء … يكون المراد: يا قومنا كلكم، أو جميعكم، فردا فردا … وخلاصة كل ما تقدم: أنهما حرفان من أحرف المعاني، يلحقان بآخر المضارع وآخر الأمر، لتلخيص هذين الفعلين للزمن المستقبل، ولا يلحقان بهما ولا بغيرها من الأفعال التي لا يراد منها المستقبل الخالص، ولا أسماء الأفعال مطلقا، ولا سائر الأسماء، والحروف. وأن فائدتهما المعنوية هي: تأكيد المعنى وتقويته بأقصر لفظ، وتخليص المضارع للزمن المستقبل، وتقوية الاستقبال في الأمر، أو إرجاعه إليه، وأنهما قد يفيدان -مع التوكيد- الشمول والعموم في بعض الصور. آرثاهما اللفظية، والأحكام المترتبة على وجودها: لنوني التوكيد آثار لفظية مشتركة بينهما، تحدث من اتصال إحداهما بآخر المضارع، المتجرد للمستقبل، أو بآخر الأمر كذلك. وتمتاز الخفيفة بأحكام خاصة تنفرد بها دون الثقيلة 

 مصادر و المراجع: 

1-الجمل في النحو المؤلف: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت ١٧٠هـ) 

2-الكتاب المؤلف: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (ت ١٨٠هـ)

 3-المقتضب المؤلف: محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد (ت ٢٨٥هـ) 

4-الأصول في النحو المؤلف: أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف بابن السراج (ت ٣١٦هـ) 

5-اللامات المؤلف: عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النهاوندي الزجاجي، أبو القاسم (ت ٣٣٧هـ)

 6-التعليقة على كتاب سيبويه المؤلف: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ الأصل، أبو علي (ت ٣٧٧هـ) 

7-الإيضاح العضدي المؤلف: أبو علي الفارسيّ (٢٨٨ - ٣٧٧ هـ)

 8- علل النحو المؤلف: محمد بن عبد الله بن العباس، أبو الحسن، ابن الوراق (ت ٣٨١هـ)

 9-شرح كتاب سيبويه [جزء من الكتاب (من باب الندبة إلى نهاية باب الأفعال) حُقِّق كرسالة دكتوراه] المؤلف: أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (٢٩٦ - ٣٨٤ هـ) 

10-شرح أبيات سيبويه المؤلف: يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو محمد السيرافي (ت ٣٨٥هـ) 

11-اللمع في العربية المؤلف: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت ٣٩٢هـ) 

12-رسالة الملائكة - نشرها الميمني كملحق في آخر كتابه (أبو العلاء وما إليه) المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (ت ٤٤٩هـ) 

13-شرح المقدمة المحسبة المؤلف: طاهر بن أحمد بن بابشاذ (ت ٤٦٩ هـ)

 14-ملحة الإعراب المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (ت ٥١٦هـ) 

15-المفصل في صنعة الإعراب المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت ٥٣٨هـ) 

16-المرتجل (في شرح الجمل) المؤلف: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد ابن الخشاب (٤٩٢ - ٥٦٧ هـ) 

17- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، أبو البركات، كمال الدين الأنباري (ت ٥٧٧هـ) 

18-البديع في علم العربية المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ) 

19-المقدمة الجزولية في النحو المؤلف: عيسى بن عبد العزيز بن يَلَلْبَخْت الجزولي البربري المراكشي، أبو موسى (ت ٦٠٧هـ) 

20- توجيه اللمع المؤلف: أحمد بن الحسين بن الخباز 

21- شرح المفصل للزمخشري المؤلف: يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع (ت ٦٤٣هـ)

 22- الكافية في علم النحو المؤلف: ابن الحاجب جمال الدين بن عثمان بن عمر بن أبي بكر المصري الإسنوي المالكي (توفي: ٦٤٦ هـ) 

23-أمالي ابن الحاجب المؤلف: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي (ت ٦٤٦هـ) 

24- الخلاصة في النحو، ألفية ابن مالك المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي (ت ٦٧٢ هـ) 

25- ألفية ابن مالك المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (ت ٦٧٢هـ) 

26-شرح الكافية الشافية المؤلف: جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني 

27- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (ت ٦٧٢هـ)

 28- شرح تسهيل الفوائد المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (ت ٦٧٢هـ) 

29-شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك المؤلف: بدر الدين محمد ابن الإمام جمال الدين محمد بن مالك (ت ٦٨٦ هـ)

 30- اللمحة في شرح الملحة المؤلف: محمد بن حسن بن سِباع بن أبي بكر الجذامي، أبو عبد الله، شمس الدين، المعروف بابن الصائغ (ت ٧٢٠هـ) 

31- الكناش في فني النحو والصرف المؤلف: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (ت ٧٣٢ هـ)

 32-ارتشاف الضرب من لسان العرب المؤلف: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (ت ٧٤٥ هـ) 

33- النحو الوافي المؤلف: عباس حسن (ت ١٣٩٨هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید