المنشورات

تواهق رجلاها يديه ورأسه … له نشز فوق الحقيبة رادف

البيت آخر بيت قصيدة لأوس بن حجر. تغزّل في أولها، ثم تحدّث عن ناقته، ويشبهها بحمار وحشي كمن له صياد عند الماء، فأرسل عليه سهما لم يصب مقتلا منه، فهرب الحمار مع أتانه مسرعا. والمواهقة: المسايرة، وهي المباراة. ونشز: أي:
ارتفاع. والحقيبة: كناية عن الكفل.
وقوله: رادف: أي: كما يردف الرجل حقيبته، والصورة الفنيّة التي رسمها تقول: إنّ الحمار يقدّم أتانه بين يديه، ثم يسير خلفها، يعني: أن يديه تعملان كعمل رجلي الأتان، ورأسه فوق عجز الأتان، كالقتب الذي يكون على ظهر البعير.
قلت: وفي تقديم الحمار أتانه، نكته حضارية. فالناس اليوم يقدمون النساء، في الدخول والخروج، ويعدون ذلك مظهرا حضاريا مقتبسا من أوربة، ولكن الحمار سبقهم إلى هذه البدعة، وهؤلاء الذين يقدمون النساء، يتقدمونهم
هربا إذا نزل الخطب، وبهذا كان حمار أوس بن حجر، أغير على أنثاه من أهل المدنية اليوم؛ ذلك أنه لم يشأ أن يهرب وحده من سهام الصيّاد، ولكنه ساق أتانه أمامه اه.
ورواية البيت في شعر أوس: «تواهق رجلاها يديه»، بنصب «يديه» مفعول به ل «تواهق». والمعنى يوجب أن تكون اليدان مضافة إلى ضمير مذكر، وهو ضمير الحمار؛ ذلك أن المواهقة هي المسايرة، وهي المواعدة.
ولكن رواية سيبويه «تواهق رجلاها يداها» برفعهما، على أن اليدين مضافة إلى ضمير المؤنث، وهي ضمير الأتان.
والشاهد: أنه رفع «يداها» بإضمار فعل، ولم يجعلهما مفعولا، فكأنه قال بعد قوله:
«تواهق رجلاها» تواهقهما يداها، محمول على المعنى؛ لأنه إذا واهقت الرجلان اليدين،
فقد واهقت اليدان الرجلين. وقال النحاس: رفع الرجلين واليدين؛ لأن كلّ واحد منهما قد واهق الآخر، فهما الفاعلان. ولكن سيبويه جعل المواهقة بين رجلي ويدي الأتان، والمواهقة في البيت بين رجليها، ويدي الحمار؛ لأن يديه، تواهق رجليها، وكأنه يضع قدميه، حيث كانت رجلاها؛ ليساير الحمار أتانه. وقد نقله ابن منظور في اللسان كما رواه سيبويه، ولكنه جاء هكذا: «تواهق رجلاها يداه»، فجعل المواهقة بين الحمار والأتان.
وقد اعتذر خدام كتاب سيبويه له، فنقل البغدادي عن ابن خلف قوله: احتج سيبويه بما سمع من إنشاد بعض العرب بالرفع فيهما، وإذا أنشد العربي الذي يحتج بشعره وكلامه بيتا متقدما على ضرب ولفظ غير الضرب المشهور، فقول العربي الراوي حجة، كما أن قول الشاعر الذي قال الشعر في الأصل حجة. قلت: وهذا الاعتذار، يقدمونه عند كل رواية لسيبويه، تخالف المشهور من شعر الشاعر، وهو اعتذار غير مقبول، ولا يضير سيبويه أن نقول إنه أخطأ، أو سها، أو وهم، وإنما نعتذر له بقول القائل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها … كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه
[اللسان «وهق» وشرح أبيات المغني ج 1/ 171، وكتاب سيبويه ج 1/ 145، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ص 131].




مصادر و المراجع :

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید