المنشورات

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه … ثمال اليتامى عصمة للأرامل

أبيض: معطوف على سيّد المنصوب بالمصدر قبله، وهو من عطف الصفات التي موصوفها واحد، هكذا أعربه الزركشي في نكته على البخاريّ المسمّى بالتنقيح لألفاظ
الجامع الصحيح، قال: لا يجوز غير هذا، وتبعه ابن حجر في فتح الباري، وكذلك الدمامينيّ في تعليق المصابيح على الجامع الصحيح، وفي حاشيته على مغني اللبيب أيضا. وزعم ابن هشام في المغني: أن أبيض مجرور بربّ مقدرة وأنّها للتقليل.
والصواب الأوّل: فإن المعنى ليس على التنكير، بل الموصوف بهذا الوصف واحد معلوم، والأبيض هنا: بمعنى الكريم. قال السّمين في عمدة الحافظ: عبّر عن الكرم بالبياض، فيقال: له عندي يد بيضاء، أي: معروف، وأورد هذا البيت، والبياض أشرف الألوان، وهو أصلها؛ إذ هو قابل لجميعها، وقد كنى به عن السّرور والبشر، وبالسّواد عن الغمّ، ولما كان البياض أفضل الألوان قالوا: البياض أفضل، والسواد أهول، والحمرة أجمل، والصفرة أشكل.
ويستسقى: بالبناء للمفعول؛ والجملة صفة أبيض. والثّمال: العماد والملجأ والمطعم والمغني والكافي. والعصمة: ما يعتصم به ويتمسّك. قال الزركشيّ: يجوز فيهما النصب والرفع. والأرامل: جمع أرملة، وهي التي لا زوج لها؛ لافتقارها إلى من ينفق عليها، وأصله من أرمل الرجل: إذا نفد زاده وافتقر، فهو مرمل. وجاء أرمل على غير قياس، قال الأزهريّ: لا يقال للمرأة أرملة إلّا إذا كانت فقيرة، فإن كانت موسرة، فليست بأرملة، والجمع أرامل، حتى قيل رجل أرمل إذا لم يكن له زوج، قال ابن الأنباري:
وهو قليل؛ لأنه لا يذهب بفقد امرأته، لأنها لم تكن قيّمة عليه، وقال ابن السكيت:
الأرامل: المساكين، رجالا كانوا أو نساء.
قال السهيلي في الروض الأنف: «فإن قيل: كيف قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قطّ استسقي به، إنّما كانت استسقاءاته عليه الصلاة والسّلام بالمدينة في سفر وحضر، وفيها شوهد ما كان من سرعة إجابة الله له؟ فالجواب: أن أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطّلب ما دلّه على ما قال». انتهى.
وردّه بعضهم بأن قضيّة الاستسقاء متكرّرة؛ إذ واقعة أبي طالب كان الاستسقاء به عند الكعبة، وواقعة عبد المطّلب كان أوّلها أنهم أمروا باستلام الركن، ثم بصعودهم جبل أبي قبيس؛ ليدعو عبد المطلب ومعه النبي صلّى الله عليه وسلّم ويؤمّن القوم، فسقوا به.
قال ابن هشام في السيرة: «حدثني من أثق به قال: أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكوا ذلك إليه، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من
المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم حوالينا ولا علينا»! فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه». فقال له بعض أصحابه (وهو علي رضي الله عنه):
كأنك أردت يا رسول الله قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه .. البيت.
قال: «أجل»!. انتهى.
وبتصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم كون هذا البيت لأبي طالب - وعليه اتفق أهل السير - سقط ما أورده الدّميري في شرح المنهاج في باب الاستسقاء عن الطبراني وابن سعد: أن عبد المطّلب استسقى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فسقوا؛ ولذلك يقول عبد المطلب فيه يمدحه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه .. البيت.
قال ابن حجر الهيثمي في شرح الهمزيّة: «وسبب غلط الدّميريّ في نسبة هذا البيت لعبد المطلب: أن رقيقة (براء مضمومة وقافين) بنت أبي صيفيّ بن هاشم، وهي التي سمعت الهاتف في النوم أو في اليقظة - لما تتابعت على قريش سنون أهلكتهم - يصرخ:
يا معشر قريش، إن هذا النبيّ المبعوث قد أظلّتكم أيامه، فحيّهلا بالحيا والخصب، ثم أمرهم بأن يستسقوا به. وذكر كيفيّة يطول ذكرها. فلما ذكرت الرواية في القصّة أنشأت تمدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأبيات آخرها:
مبارك الأمر يستسقى الغمام به … ما في الأنام له عدل ولا خطر
فإنّ الدّميري لما رأى هذا البيت في رواية قصّة عبد المطلب التي رواها الطبراني - وهو يشبه بيت أبي طالب؛ إذ في كلّ استسقاء الغمام به - توهّم أن بيت أبي طالب لعبد المطلب. وإنما هو لرقيقة المذكورة. والحكم عليه بأنه عين المنسوب لأبي طالب ليس كذلك، بل شتّان ما بينهما. فتأمّل هذا المحلّ فإنه مهمّ. وقد اغترّ بكلام الدّميريّ من لا خبرة له بالسير». انتهى.




مصادر و المراجع :

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید