المنشورات

ولي دونكم أهلون سيد عملّس … وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

من لامية الشنفرى الموسومة بلامية العرب. والخطاب إلى بني قومه. وبدأها بقوله:
أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم … فإني إلى قوم سواكم لأميل
ومعنى «أقيموا صدور مطيكم»: يقال: أقام صدر مطيته، إذا جدّ في السير، وكذلك إذا جدّ في أيّ أمر كان. يؤذن قومه بالرحيل، وأن غفلتهم عنه، توجب مفارقتهم. وبني أمي: منادى، وأضاف الأبناء إلى الأم؛ لأنها أشدّ شفقة، كما قيل في قوله تعالى حكاية عن هارون: يَا بْنَ أُمَّ. [طه: 94]، وأميل: بمعنى مائل. وبعد المطلع إلى البيت الشاهد قوله:
فقد حمّت الحاجات والليل مقمر … وشدّت لطيّات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى … وفيها لمن خاف القلى متحوّل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ … سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
ولي دونكم ...
فهو يعلم أهله بالرحيل؛ لأنهم لم يؤدوا واجبهم نحوه، ولم يحفظوا له حقّه في المودّة، ويقرر أن في الأرض متسعا للعيش. وفي الأرض أهل يأنس بهم غير أهله ويريد بهم:
وحوش الصحراء. وقوله: ولي دونكم، «دون» بمعنى «غير». ولي: خبر مقدم، وأهلون:
مبتدأ مؤخر، ودون: ظرف، كان صفة ل (أهلون)، فلما تقدم صار حالا منه. وسيد:
خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سيد، والسّيد: بكسر السين، مشترك بين الأسد والذئب، ومراده هنا: الذئب؛ ولهذا عينه بالوصف فقال: عملّس، وهو القوي على السير السريع.
وأرقط: ما فيه نقط بياض وسواد، مشترك بين حيوانات، منها النمر والحية، وأراد النمر.
ولهذا وصفه بزهلول، وهو الأملس. والعرفاء: مؤنث الأعرف، ويقال للضبع: عرفاء؛ لكثرة شعر رقبتها، وجيأل: بدل من عرفاء، وهو اسم للضبع، معرفة بلا «ألف» و «لام».
يقول: اتخذت هذه الوحوش أهلا بدلا منكم؛ لأنها تحميني من الأعداء، ولا تخذلني في حال الضيق، وهذا تعريض بعشيرته في أنهم لا حماية لهم كهذه الحيوانات، ولا غيرة لهم على من جاورهم، وأكّد هذا المعنى في البيت التالي بقوله:
هم الأهل لا مستودع السّرّ ذائع … لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل
قلت: وقد لخّص أحدهم ما قاله الشنفرى في البيت:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى … وصوّت رعيان فكدت أطير
قال أبو أحمد: وقصيدة الشنفرى، عجيبة في نسجها، فأنت تقرأ مطلعها وأبياتا بعده فتجدها تسيل عذوبة ورقة وسهولة، وتتدفق عاطفتها، فتأخذ بمجامع القلب المجرّب، فإذا أو غلت في قراءتها، صدمتك بخشونتها وغرابة ألفاظها، وهذه الظاهرة فيها قولان:
الأول: وفيه نحسن الظنّ، وننسب القصيدة إلى صاحبها؛ ذلك أن مطلع القصيدة يعبر الشاعر فيه عن نفسه المتألمة، فهو شعر ذاتي، يقدم لك قطعة من قلب الانسان.
والإنسان إذا تألم، عبّر صادقا، وكان شعره يمثل عاطفته. والعواطف لا يفترق فيها الناس، يستوي فيها الحضري، والبدوي، والمتوحش؛ لأن العواطف أودعها الله في كلّ إنسان. وأما خشونة القسم الثاني من القصيدة، فسببه أنه يصف البيئة البدوية الخشنة بصحرائها، وحيوانها. فهو يصف ما تراه عينه، ويقع ماثلا على الأرض دون أن يمتزج به.
والثاني: ربما كانت المقدمة مصنوعة؛ لأنها أشبه بشعر العصر العباسي، وبقية القصيدة هو الصحيح. وربما كان العكس. ومما شجعني على القول الأخير، أن القالي قال في أماليه: «إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها ... هي من المقدمات في الحسن
والفصاحة والطول. [ج 1/ 156] فقال: (المنسوبة)، ولم يضف القصيدة إلى الشنفرى، والله أعلم بالحقيقة.
والشاهد في البيت: (أهلون)، فقد جمع «أهل» في البيت، جمعا سالما، وإن كان «أهل» في البيت، غير علم لمذكر عاقل، ولا صفة له، لكنه جمعه هذا الجمع؛ لتنزيله هذه الوحوش الثلاثة منزلة الأهل الحقيقي. [شرح المفصل ج 5/ 31، والخزانة ج 8/ 55، وج 3/ 340].




مصادر و المراجع :

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید