المنشورات

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته … إثر الأحبّة يوم البين مشكوم

البيتان لعلقمة الفحل، وهما مطلع قصيدته الميميّة في المفضليات.
وقوله: هل ما .. الخ: هل دخلت على الجملة الاسمية فإن «ما» موصولة، مبتدأ.
و «ما» الثانية، معطوفة. ومكتوم: خبر المبتدأ، و «أم» حرف استئناف، بمعنى «بل» لأنها منقطعة وفيها معنى الهمزة، وجملة «حبلها مصروم» من المبتدأ والخبر استئنافية. وإذ:
تعليلية، متعلقة بمصروم، بمعنى مقطوع. والحبل: استعارة للوصل والمحبة. ونأتك:
أصله، نأت عنك، فحذف (عن) ووصل الضمير. ونأت: بعدت. والمعنى هل تكتم الحبيبة، وتحتفظ ما علمت من ودّ هالك، وما استودعته من قولها لك: أنا على العهد، لا أحول عنك. بل انصرم حبلها منك لبعدها عنك، فإن من غاب عن العين غاب عن القلب وهذه شيمة الغواني، كما قال كثير عزّة:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها … فليس لمخضوب البنان يمين
وقوله: أم هل كبير: أم هنا منقطعة بمعنى «بل» ومجردة عن الاستفهام لدخولها على «هل» وكبير: مبتدأ، ومشكوم - بمعنى مجازى، خبره. وجملة بكى، صفة (كبير).
وعليه فإنّ دخول هل على «كبير» ليس ضرورة، كما زعم بعضهم. فالضرورة القبيحة، عند ما تدخل هل على اسم يليه فعل يكون محدّثا به، كقولك، هل زيد قام؟ والقاعدة العامة: إذا وقع بعد أدوات الاستفهام ما عدا الهمزة - اسم وفعل، فإنك تقدم الفعل على الاسم في سعة الكلام، ولا يجوز تقديم الاسم على الفعل إلا في ضرورة الشعر.
وما في البيت ليس منه، لأن (هل) هنا، داخلة على جملة اسمية نحو «هل زيد قائم».
وقوله «لم يقض عبرته» صفة ثانية ل (كبير) يريد: لم يشتف من البكاء، لأنّ في ذلك راحة. قال: «وإنّ شفائي عبرة» وقيل: معناه: لم ينفد ماء شؤونه ولم يخرج دمعه كلّه، لأنه إذا لم يخرجه كان أشدّ لأسفه واحتراق قلبه.
والشاهد في البيت الأول: أنه يجوز أن تأتي (هل) بعد «أم» وليس فيه جمع بين استفهامين، لأنّ أم مجردة عن الاستفهام، إذا وقع بعدها أداة استفهام. و «أم» المنقطعة، حرف استئناف بمعنى «بل» فقط، وليست عاطفة، كما يرى كثير من النحويين. ولكن ابن مالك يرى أنها قد تعطف المفرد كقول العرب «إنها لإبل أم شاء» فقال: هنا، لمجرد
الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما يكون ما بعد «بل». وفي المسألة خلاف.
فانظر. [كتاب سيبويه ج 1/ 487، وشرح المفصل ج 4/ 18، وج 8/ 153، والهمع ج 2/ 77، 133].
قصّة ونقدها: نقل البغدادي في خزانته عن صاحب الأغاني قال: «مرّ رجل من مزينة على باب رجل من الأنصار، وكان يتّهم بامرأته، فلما حاذى بابه تنفّس ثم تمثل:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم … أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
فعلق الأنصاريّ به، فرفعه إلى عمر بن الخطاب، فاستعداه عليه، فقال له المتمثل:
وما عليّ إذا أنشدت بيت شعر؟ فقال له عمر: مالك لم تنشده قبل أن تبلغ إلى بابه؟
ولكنك عرضت به، مع ما تعلمه من القالة فيك. ثم أمر به فضرب عشرين سوطا» قلت:
القصة فيها رائحة الوضع، للأسباب التالية.
1 - لأن أبا الفرج صاحب الأغاني كاذب ولا تحمل أخباره محمل الجدّ.
2 - والقصة مروية عن العباس بن هشام عن أبيه: وأظنه يريد العباس بن هشام ابن عروة بن الزبير. وسند هشام إلى عهد عمر بن الخطاب منقطع، لأن جدهم عروة لم يرو عن أبيه الزبير المتوفى سنة 36 هـ، فكيف يروي هشام عن عمر بن الخطاب المتوفى سنة 23 هـ.
3 - في القصة أن الرجل المنشد متهم بامرأة الأنصاري: وهذا سبب علوقه به. ولكن الإمساك بالرجل لهذا السبب يجعل الزوج يتهم زوجته ويرميها بالزنى، بغير دليل: وهنا يستحق الزوج الجلد وليس المنشد. وإذا كان الزوج مثبتا التهمة على زوجه، فكيف يبقيها عنده؟
4 - وقول عمر «مع ما تعلم من القالة فيك» كأنّه يعيد ما يقوله الناس، وهذا لا يكون من عمر بن الخطاب لأنّ إعادة ما يقوله الناس من نوع إشاعة الفاحشة في المسلمين.
وهذا منهيّ عنه، فكيف يفعله عمر.
5 - المشهور في القصص التي تروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حكمه على أهل الريب، أنه كان يغرّبهم. فلماذا اكتفى بجلد الرجل عشرين. مع وصول أقوال الناس إلى عمر.
6 - إنّ تورية الرجل بهذا البيت عن علاقته بامرأة الأنصاري المزعومة، بعيدة، ولا تناسب الحال.
7 - قوله: فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثّل لعل هذا هو الهدف من وضع القصة، وهو بيان كيفية إنشاد الشعر، فإن
المتيمّ الذي ينشد مثل هذا البيت، لا بدّ أن يملأ صدره بالهواء ثم يدخل على البيت، وهذا الاستنشاق، يناسب لفظ هل، فكأنه يقول. ها هل.
ليكون معبرا عن المعنى وحال المنشد. والله أعلم.




مصادر و المراجع :

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید