المنشورات

الطحاوي

المفسر المقرئ: أحمد بن محمّد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة بن سليمان بن حامد، أبو جعفر الأزدي الحجري المصري الطحاوي (1).
ولد: سنة (239 هـ) تسع وثلاثين ومائتين.
من مشايخه: إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الشافعي، وأحمد بن أبي عمران البغدادي وغيرهما كثير.
من تلامذته: أحمد بن القاسم بن المهدي البغدادي، وإسماعيل بن أحمد أبو سعيد الجرجاني الخلال وغيرهما خلق.
كلام العلماء فيه:
• الأنساب: "كان إمامًا ثقة ثبتًا فقيهًا عالمًا لم يخلف مثله ... وكان تلميذ أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المُزني فانتقل من مذهبه إلى مذهب أبي حنيفة رحمهم الله" أ. هـ.
• السير: "من نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم، وسعة معارفه، وقد كان ناب في القضاء عن أبي عبيد الله عقد بن عبدة (2)، قاضي مصر سنة بضع وسبعين ومئتين، وترقى حاله، فحكى أنه حضر رجل معتبر عند القاضي بن عبدة فقال: أيش روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أمه، عن أبيه؟ فقلت أنا (3): حدثنا بكار بن قتيبة، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبيدة، عن أمه، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:  "إن الله ليغار للمؤمن فليغر" (1).
• تاريخ دمشق: "كان شافعي المذهب يقرأ على المزني فقال له يومًا: والله لا جاء منك شي، فغضب أبو جعفر من ذلك وانتقل إلى أبي عمران، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم -يعني المزني- لو كان حيًّا لكفر عن يمينه" أ. هـ.
• لسان الميزان: "قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وبلغنا أن أبا جعفر لما صنف مختصره في الفقه قال: رحم الله أبا إبراهيم يعني المزني، لو كان حيًّا لكفر عن يمينه، يعني الذي حلفه، أنه لا يجيء منه شيء، وتعقب هذا بعض الأئمة بأنه لا يلزم المزني في ذلك كفارة؛ لأنه حلف عن غلبة ظنه، ويمكن أن يجاب عن أبي جعفر بأنه أورد ذلك على سبيل المبالغة، ولا شك أن يستحب الكفارة في مثل ذلك، ولو لم يقل بالوجوب، وليس يخفى مثل ذلك على أبي جعفر، لكن قرأت بخط محمَّد بن التركي المنذري، أن الطحاوي إنما قال ذلك كيما يعير المزني، فأجابه بعض الفقهاء بأن المزني لا يلزمه الحنث أصلًا لأن من ترك مذهب أصحاب الحديث وأخذ بالرأي لم يفلح، وناب أبو جعفر في القضاء عن محمد بن عبدة قاضي (مصر) بعد السبعين ومائتين، وترقت حاله بـ (مصر)، قال أبو سعيد بن يونس: كان ثقة ثبتًا فقيهًا عاقلًا لم يخلف مثله، وقال مسلمة ابن قاسم الأندلسي في كتاب (الصلة): كان ثقة، جليل القدر فقيه البدن، عالمًا باختلاف العلماء، بصيرًا بالتصنيف، وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، وكان شديد العصبية فيه، قال: وقال لي أبو بكر محمّد بن مُعَاوية بن الأحمر القرشي: دخلت (مصر) قبل الثلاثمائة وأهل مصر يرمون الطحاوي بأمر عظيم فظيع، يعني من جهة أمور القضاء، أو من جهة ما قيل: إنه أفتى به أبا الجيش من أمر الخصيان، قال: وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، لا يرى حقًّا في خلافه، وقال ابن عبد البر في كتاب (العلم): كان الطحاوي من أعلم النَّاس بسير الكوفيين وأخبارهم وفقههم، مع مشاركته في جميع مذاهب الفقهاء، قال: وسمع أبو جعفر الطحاوي منشدا ينشد [الكامل]:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
فقال أبو جعفر: وددت لو أن علي إثمهما وأن لي أجرهما وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر" أ. هـ.
• الطبقات السنية: "ذكر أبو يعلى الحنبلي، في كتاب "الإرشاد، في ترجمة المزني، أن الطحاوي

المذكور كان ابن أخت المزني وأن محمد بن أحمد الشروطِي، قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك، واخترت مذهب أبي حنيفة؟
فقال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه. انتهى
قلت: هذا هو الأليق بشأن هذا الإِمام، والأحرى به، وأنه لم ينتقل من مذهب إلى مذهب بمجرد الغضب، وهوى النفس، لأجل كلمة صدرت من أستاذه وخاله، في زمن الطلب والتعلم، بل لما استدل به على ترجيح مذهب الإمام الأعظم، وتقدمه في صحة النقل، وإيضاح المعاني بالأدلة القوية، وحسن الاستنباط من كون خاله المزني مع جلالة قدره، ووفور علمه، وغزير فهمه، كان يديم النظر في كتب أبي حنيفة، ويتعلم من طريقته، ويمشي على سننه في استخراج الدقائق من أماكنها، والجواهر من معادنها, نفعنا الله ببركة علومهم جميعًا" أ. هـ.
• الفوائد البهية: منال الجامع قد طالعت من تصانيفه معاني الآثار وقد يسمى بشرح معاني الآثار فوجدته مجمعًا للفوائد النفيسة والفوائد الشريفة ينطق بفضل مؤلفه وينادي بمهارة مصنفه قد سلك مسلك الإنصاف وتجنب عن طريق الاعتساف إلا في بعض المواضع قد عدل النظر فيها عن التحقيق وسلك مسلك الجدل والخلاف الغير الأنيق كما بسطته في تصانيفي في الفقه.
وفي غاية البيان للإتقاني أقول لا معنى لإنكارهم على أبي جعفر فإنه مؤتمن لا متهم مع غزارة علمه واجتهاده وورعه وتقدمه في معرفة المذاهب وغيرها فإن شككت في أمره فانظر شرح معاني الآثار هل ترى له نظيرًا في سائر المذاهب فضلًا عن مذهبنا هذا انتهى" أ. هـ.
• قلت: قال شعيب الأرنؤوط في مقدمة كتاب "شرح مشكل الآثار (1) " للطحاوي مبينًا أن الطحاوي إمام مجتهد ما نصه (ص 60): "في مقدمة (شرح معاني الآثار) ما يدل على أنه كان يتبع الدليل حيثما كان، ويأخذ به، فقد جاء فيها: أن بعض أصحابه من أهل العلم سأله أن يضع له كتابًا يذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد والضعفة من أهل الإِسلام أن بعضها ينقض بعضًا لقلة علمهم بناسخها من منسوخها، وما يجب به العمل منها، لما يشهد له من الكتاب الناطق والسنة المجتمع عليها، وأن يجعل لذلك أبوابًا يذكر في كل كتاب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم على بعض، وإقامة الحجة لمن صح عنده قوله منهم بما يصح به مثله من كتاب أو سنة أو إجماع أو تواتر من أقاويل الصحابة أو تابعيهم، وأنه نظر في ذلك، وبحث عنه بحثًا شديدًا، فاستخرج منه أبوابًا على النحو الذي سأل.
وقد صرح في مقدمة كتب "الشروط" (1/ 21) بأنه لا يتقيد يقول أحد إلا بدليل، فقال: وقد وضعت هذا الكتاب على الاجتهاد مني لإصابة ما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ به من الكتاب بين الناس بالعدل على ما ذكرت في صدر هذا الكتاب مما  على الكاتب بين الناس، وجعلت ذلك أصنافًا، ذكرت في كل صنف فيها اختلاف الناس في الحكم في ذلك، وفي رسم الكتاب فيه، وبينت حجة كل فريقٍ منهم، وذكرت ما صح عندي من مذاهبهم، وما رسموا به كتبهم في ذلك، والله أسأله التوفيق، فإنه لا حول ولا قوة إلا به".
ثم قال: "وما يمنعه من الاجتهاد وقد تحققت له أدواته، واكتملت له عدته، فهو حافظ، واسع الاطلاع، دقيق الفهم، متنوع الثقافة، جمع إلى معرفة الحديث ونقلته، والعلم بالروايات وعللها علمًا بالفقه والعربية، وتمكنا منها كلها، وتبحرًا فيها".
وقال أيضًا: "وأما قول ابن كمال باشا في بعض رسائله: إن الطحاوي في طبقة من يقدر على الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها, ولا يقدر على صاحب المذهب، لا في الفروع ولا في الأصول، فقد رده الإِمام اللكنوي المتوفى سنة (1304 هـ) في (الفوائد البهية) (ص 26) فقال (1): إن الإمام الطحاوي له درجة عالية، ورتبة شامخة، قد خالف بها صاحب المذهب في كثير من الأصول والفروع، ومن طالع (شرح معاني الآثار) وغيره من مصنفاته يجده يختار خلاف ما اختاره صاحب المذهب كثيرًا إذا كان ما يدل عليه قويًّا، فالحق أنه من المجتهدين المنتسبين الذين ينتسبون إلى إمام معين من المجتهدين، لكن لا يقلدونه لا في الفروع ولا في الأصول، لكونهم متصفين بالاجتهاد، وإنما انتسبوا إليه لسلوكهم طريقه في الاجتهاد، إن انحط عن ذلك، فهو من المجتهدين في المذهب القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها الإِمام ولا تنحط مرتبته عن هذه المرتبة أبدًا على رغم أنف من جعله منحطًا.
وما أحسن كلام المولى عبد العزيز المحدث الدهلوي في (بستان المحدثين) حيث قال ما مُعَرَّبه: إن مختصر الطحاوي يدل على أنه كان مجتهدًا، ولم يكن مقلدًا للمذهب الحنفي تقليدًا محضًا، فإنه اختار فيه أشياء تخالف مذهب أبي حنيفة لما لاح له من الأدلة القوية، انتهى. وبالجملة فهو في طبقة أبي يوسف ومحمد لا ينحط عن مرتبتهما في القول المسدد.
وقال شهاب الدين المرجاني المتوفى سنة (1306 هـ) كما في (حسن التقاضي) ص 109 تعليقًا على مقالة ابن كمال باشا في محمد الطحاوي والخصاف والكرخي من الطبقة الثالثة الذين لا يقدرون على مخالفة أبي حنيفة لا في الأصول ولا في الفروع: إنه ليس بشيء، فإن ما خالفوه فيه من المسائل لا يعد ولا يحصى، ولهم اختيارات في الأصول والفروع، وأقوالُ مستنبطة بالقياس والمسموع واحتجاجات بالمعقول والمنقول على ما لا يخفى على من تتبع كتب الفقه والخلافيات والأصول.
وقال صاحب الحاوي المتوفى سنة (1371 هـ) في "الإشفاق" ص (41): وهو لا شك ممن بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق وإن حافظ على انتسابه إلى أبي حنيفة".
قال شعيب تحت عنوان أقوال أهل العلم في  الإمام الطحاوي (ص 64): "وقال البدر العيني في (نخب الأفكار) فيما نقله صاحب (الحاوي) ص 13: أما الطحاوي، فإنه مجمع عليه في ثقته وديانته وأمانته، وفضيلته التامة، ويده الطولى في الحديث وعلله وناسخه ومنسوخه، ولم يخلفه في ذلك أحد، ولقد أثنى عليه السلف والخلف .. ثم أورد كثيرًا من النصوص عن الأئمة بالثناء عليه، ثم قال: ولقد أثنى عليه كل من ذكره من أهل الحديث والتاريخ كالطبراني، وأبي بكر الخطيب، وأبي عبد الله الحميدي، والحافظ ابن عساكر، وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين كالحافظ أبي الحَجَّاج المزي، والحافظ الذهبي، وعماد الدين بن كثير، وغيرهم من أصحاب التصانيف.
ولا يشك عاقل منصف أن الطحاوي أثبت في استنباط الأحكام من القرآن ومن الأحاديث النبوية، وأقعد في الفقه من غيره ممن عاصره سنًّا، أو شاركه رواية من أصحاب الصحاح والسنن, لأن هذا إنما يظهر بالنظر في كلامه وكلاعهم، ومما يدل على ذلك، ويقوى ما ادعيناه تصانيفه المفيدة الغزيرة في سائر الفنون من العلوم النقلية والعقلية، وأما في رواية الحديث ومعرفة الرجال، وكثرة الشيوخ، فهو كما ترى إمام عظيم ثبت حجة كالبخارى ومسلم وغيرهما من أصحاب الصحاح والسنن, يدل على ذلك اتساع روايته، ومشاركته فيها أئمة الحديث المشهورين كما ذكرناهم.
وتحت عنوان: كلام بعض الناس في الطحاوي ورده قال شعيب ص (66):
وبالرغم من هذه الصفات العظيمة التي أسبغها عليه أهل العلم بحق، فإنه رحمه الله لم يسلم ممن ينتقص قدره، ويصفه بقلة المعرفة، ويتهمه بما هو بريء منه.
فقد ذكر الإمام البيهقي في كتابه "معرفة السنن والآثار" (1/ 353) أن علم الحديث لم يكن من صناعة أبي جعفر، وإنما أخذ الكلمة بعد الكلمة من أهله، ثم لم يحكمها، ويتهمه بتسوية الأخبار على مذهبه، وتضعيف ما لا حيلة له فيه بما لا يضعف به، والاحتجاج بما هو ضعيف عند غيره ..
وفي هذا تجريح قاس لأبي جعفر، وطعن بعدالته، واتهام له بالجهل في صناعة الحديث وقد تولى غير واحد من أهل العلم الرد على هذا الطعن، وبيان أنه صادر عن عصبية وهوى، فقد قال الحافظ عبد القادر القرشي، المتوفى سنة (775 هـ) في "الجواهر المضية" (ص 431) بعد أن أورد كلام البيهقي: هكذا قال. وحاشا لله أن الطحاوي رحمه الله يقع في هذا، فهذا الكتاب الذي أشار إليه هو الكتاب المعروف بـ "معاني الآثار"، وقد تكلمت على أسانيده، وعزوت أحاديثه وإسناده إلى الكتب الستة، و "المصنف" لابن أبي شيبة، وكتب الحفاظ، وسميته بـ "الحاوي في بيان آثار الطحاوي"، وكان ذلك بإشارة شيخنا العلامة الحجة قاضي القضاة علاء الدين المارديني والد شيخنا العلامة قاضي القضاة جمال الدين، لما سأله بعض الأمراء عن ذلك، وقال له: عندنا كتاب الطحاوي، فإذا ذكرنا لخصمنا الحديث منه يقولون لنا: ما نسمع إلا من البخاري ومسلم. فقال له قاضي القضاة علاء الدين: والأحاديث التي في الطحاوي أكثرها في  البخاري ومسلم والسنن, وغير ذلك من كتب الحفاظ. فقال له الأمير: أسألك أن تخرجه، وتعزو أحاديثه إلى هذه الكتب. فقال له قاضي القضاة: ما أتفرغ لذلك، ولكن عندي شخص من أصحابي يفعل ذلك. وتكلم معه رحمه الله في الإحسان إلى، وأمدني الأمير بكتب كثيرة "كالأطراف" للمزي، و"تهذيب الكمال" له، وغيرهما، وشرعت فيه، وكان ابتدائي فيه في سنة أربعين، وأمدني شيخنا قاضي القضاة بكتاب لطيف فيه أسماء شيوخ الطحاوي، وقال لي: يكفيك هذا من عندي، فحصل لي النفع العظيم به، ووجدت الطحاوي قد شارك مسلمًا في بعض شيوخه كيونس بن عبد الأعلى، فوقع لي في كثير من الأحاديث أن الطحاوي يروي الحديث عن يونس بن عبد الأعلى ويسوقه، ومسلم يرويه بعينه عن يونس بن عبد الأعلى بسند الطحاوي، ووالله لم أرَ في هذا الكتاب شيئًا مما ذكره البيهقي عن الطحاوي، وقد اعتنى شيخنا قاضي القضاة علاء الدين، ووضع كتابًا عظيمًا نفيسًا على "السنن الكبير" له، وبين فيه أنواعًا مما ارتكبها من ذلك النوع الذي رمى به البيهقي الطحاوي، فيذكر حديثًا لمذهبه وسنده ضعيف فيوثقه، ويذكر حديثًا على مذهبنا وفيه ذلك الرجل الذي وثقه فيضعفه، ويقع هذا في كثير من المواضع، وبين هذين العملين مقدار ورقتين أو ثلاثة، وهذا كتابه موجود بأيدي الناس، فمن شك في هذا فلينظر فيه، وكتاب شيخنا كتاب عظيم، ولو رآه من قبله من الحفاظ لسأله تقبيل لسانه الذي تفوه بهذا، كما سأل أبو سليمان الداراني أبا داود صاحبا "السنن" أن يخرج إليه لسانه حتى يقبله، انتهى ما في "الجواهر" بحذف يسير.
وهذا الكتاب الذي أشار إليه و"الجوهر النقي في الرد على سنن البيهقي، طبع أولًا وحده في دائرة المعارف حيدر آباد الدكن، ثم طبع مع "السنن الكبرى".
2 - وذكر شيخ الإِسلام في "منهاج السنة" (4/ 194) -وهو بصدد الطعن في حديث رجوع الشمس إلى علي، الذي صححه الإِمام الطحاوي- بأنه لم يكن معرفته بالإسناد كمعرفة أهل العلم به.
وهذا الحكم من شيخ الإِسلام تعوزه الدقة، فإنه ما من حافظ من الحفاظ ينزه عما وقع فيه الإِمام الطحاوي، وهذه مؤلفاتهم بين أيدينا، فيها أحاديث توثقوا من صحتها، وانتقدت عليهم، ولم نسمع أحدًا من أهل العلم أصدر في حقهم هذا الحكم القاسي الذي انتهى إليه شيخ الإِسلام، وكيف يتهم هذا الإِمام بأنه لا معرفة له بالإسناد كمعرفة أهل العلم، وقد وصفه الأئمة المشهود لهم ببراعة النقد بأنه حافظ للحديث، عارف بطرقه، خبير بنقده سندًا ومتنًا، مدرك للخفي من علله، بارع في الترجيح والموازنة، ونحن وإن كنا نوافقه في تضعيف هذا الحديث كما هو مبين في مكانه في هذا الكتاب فإننا لا نسلم له بهذه النتيجة التي انتهى إليها، فإن من المجانبة للصواب أن يوصف العالم بالجهل في العلم الذي يتقنه ويدريه لمجرد وقوعه في الخطأ في مسألة من مسائله. قال صاحب "أماني الأحبار" وهو ممن يزكي ابن تيمية ويعجب به: ظاهر كلام العلامة ابن تيمية على أنه حكم هذا الحكم على الإِمام  أبي جعفر الطحاوي، وأخرجه من أئمة النقد، لأنه صحح حديث رد الشمس لعلي، رضي الله عنه، والإمام الطحاوي ليس بمتفرد بتصحيح هذه الرواية, وقد وافقه غير واحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، ورجحوا قوله على قول ابن تيمية ... وما ذكرنا في الفائدة العاشرة من أقوال الإمام الطحاوي في الرجال، وكلامه في نقد الأحاديث كنقد أهل العلم من كتابيه "معاني الآثار" و"مشكل الآثار" وكتب أسماء الرجال، يرد كل الرد، ويدفع كل الدفع قول ابن تيمية هذا، ويثبت صحة ما اختاره الذهبي من ذكره في الحفاظ الذين يرجع إلى أقوالهم، والسيوطي من ذكره فيمن كان بمصر من حفاظ الحديث ونقاده، وقد شهد الأئمة المتقدمون بجلالة قدره، كابن يونس، ومسلمة بن القاسم وابن عساكر، وابن عبد البر، وأضرابهم، وهؤلاء أقرب بالطحاوي من ابن تيمية، ومنهم من هو أعلم منه بحال علماء مصر، فإن صاحب البيت أدرى بما فيه، فجرح ابن تيمية بغير دليل لم يؤثر في الإِمام الطحاوي مع شهادة هؤلاء الأعلام.
وقد قال التاج السبكي في "طبقاته (1): الحذر كل الحذر أن نفهم من قاعدتهم: أن الجرح مقدم على التعديل على إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت عدالته وإمامته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهي أو غيره، لم يلتفت إلى جرحه .. -وإن فسره- في حق من غلبت طاعته على معصيته، ومادحوه على ذاميه، ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة دالة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة.
على أن ابن تيمية -كما في "الدرر الكامنة (2) " عن الذهبي: كان مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين بشرا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم، تزرع له عداوة في النفوس، وإلا لو لاطف خصومه، لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلومه، معترفون بشنوفه، مقرون بندور خطئه، وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقا وأفعالا, وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك (3).
3 - وجاء في "لسان الميزان" (1/ 276) للحافظ ابن حجر: وقال مسلمة بن القاسم بن في كتاب "الصلة": وقال لي أبو بكر محمَّد بن معاوية بن الأحمر القرشي: دخلت مصر قبل الثلاث مئة، وأهل مصر يرمون الطحاوي بأمر عظيم فظيع. ويفسر ابن حجر هذا الأمر بقوله: يعني من جهة أمور القضاء، ومن جهة ما قيل: إنه أفتى به أبا الجيش من أمر الخصيان.
قال صاحب "أماني الأحبار": ولعل كلام  الحافظ يكمل من قول ابن النديم حيث قال في "الفهرست" (ص 260): ويقال: إنه تعمل لأحمد بن طولون كتابًا فيه نكاح ملك اليمين، يرخص له في نكاح الخدم، وهذا عجيب من مثل الحافظ، فقد أسس بنيانه على رواية لم يلتفت إليها أحد غيره، ومسلمة بن قاسم هذا ضعفه الذهبي في "الميزان" ونسبه إلى المشبهة (1)، وذكر الحافظ في ترجمة مسلمة هذا: سئل القاضي محمّد بن يحيى بن مفرج عنه، فقال: لم يكن كذابًا ولكن كان ضعيف العقل. وعن عبد الله بن يوسف الأزدي -يعني ابن الفرضي- قال: كان مسلمة صاحب رأي وسر وكتاب، وحفظ عليه كلام سوء في التشبيهات، وقد ألزم مسلمة بن القاسم هذا في كتاب "الصلة" الإِمام البخاري بسرقة كتاب شيخه علي بن المديني، كما ألزم ها هنا الإِمام الطحاوي، ولكن الحافظ لم يرض بما قاله في البخاري، ورضي عنه ها هنا بما قال في الطحاوي (2)، وابن الأحمر الذي روى عنه مسلمة بن قاسم لم يوجد في كتب الرجال فلعله مجهول (3)، وأهل مصر الذين روى عنهم ابن الأحمر مجاهيل، وما ذكره عنهم من أمر فظيع جرح غير مفسر.
ثم ما ذكره شارحًا لكلامه -يعني من جهة أمور القضاء- فإن كان مراده أن ولي القضاء، فساء في أموره فلم يثبت أنه ولي القضاء حتى يصح رميه بأمور تتعلق بالجور في القضاء. وهو الذي حض القاضي أبا عبيد على محاسبة الأمناء، وناظره في ذلك، وإن كان مراده ما أشاع حساده من الأمناء، فأغروا به نائب هارون بين أبي الجيش حتى اعتقل أبا جعفر الطحاوي بسبب اعتبار الأوقاف، وأوقع وابن أبي عبيد القاضي, وأبي جعفر الطحاوي حتى تغير كل منهما للآخر، فالحق مع أبي جعفر الطحاوي نال ما نال من الحساد الذين تعسفون عليه بالعدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يجزيه على ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: أو من جهة ... الخ. فالقائل مجهول، ولا يكون الجرح عند أهل النقد هكذا، والظاهر أنه أخذ ذلك عن ابن النديم، فإنه أخذ كلامه  كله، ولكن حذف هذه الجملة من أثناء كلامه، ثم شرح قول ابن الأحمر يقول ابن النديم، وابن النديم لم يجزم على ما قال، بل ذكر بصيغة التمريض بدون التحقيق على ما هو عادة المؤرخين في الجمع بين الرطب واليابس، والصحيح والسقيم، وبمثل هذا لا يثبت جرح من تثبت إمامته وأمانته وديانته وتثبته وثقته، ومن اتفق على فضله وصدقه وزهده وورعه، وقد أعرض المتقدمون والمتأخرون عن ذكر ما ذكره الحافظ، فلم يذكروا ذلك، لا في ترجمة أبي جعفر، ولا في ترجمة أبي الجيش، فهذا دليل قوي على بطلانه، وقد ترك الحافظ ها هنا في الكلام على الإِمام الطحاوي ما ذكره في مقدمة "اللسان" 1/ 16 عن ابن عبد البر: من صحت عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت همته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي الجارح في جرحه بينة عادلة، يصح بها جرحه على طريق الشهادات، والعمل بما فيها من المشاهدة لذلك ما يوجب قبوله" أ. هـ.
من أقواله: لسان الميزان: "قال ابن زُولاق: وسمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول: سمعت أبي يقول: وذكر فضل أبي عبيد بن جُرثومَة وفقهه، فقال: كان يذاكرني بالمسائل فأجبته يومًا في مسألة فقال في: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي أوكل ما قاله أبو حنيفة أقول به؟ فقال: ما ظننتك إلا مقلدًا، فقلت له: وهل يقلد إلا عمي؟ فقال لي: أو غبي؟ قال: فطارت هذه الكلمة بـ (مصر) حتى صارت مثلًا وحفظها الناس ... " أ. هـ.
• الماتريدية: "قلت -أي شمس الدين-: هو معاصر للماتريدي، ومتقدم عليه وفاة، وهو على عقيدة المحدثين، وليس له صلة بالماتريدي والماتريدية، وإنما ذكرناه ها هنا -أي في كتاب الماتريدية- لأن الماتريدية يعتمدون على كتبه، وذكروه في الماتريدية، مع أنه حجة عليهم".
ثم قال حول كتاب الطحاوي "بيان السنة والجماعة" والمعروفة بالعقيدة الطحاوية: "والعقيدة الطحاوية شرحها سبعة من كبار الحنفية منهم الإِمام ابن أبي العز (792 هـ).
فقد ذكرها الزبيدي في قائمة المراجع الماتريدية، وجعلها الكوثري مستفيضة متواترة وعول عليها، واعترف وأقر بأن هذه عقيدة الأئمة الثلاثة أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى.
واعتمد عليها قبلهما أبو المعين النسفي (508 هـ) وأن هذه هي عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية.
قلت -أي شمس الدين-: هذه العقيدة على منهاج السلف على ملاحظات يسيرة، ولا صلة لها بالعقيدة الماتريدية، فهي حجة عليهم" أ. هـ.
وفاته: سنة (321 هـ) إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقيل (322 هـ) اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
من مصنفاته: "أحكام القرآن"، و"نوادر القرآن" في نحو ألف ورقة، و"معاني الآثار" و "العقيدة الطحاوية".



 

مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید