المنشورات

طاشْكبُري زاده

المفسر: أحمد بن مصطفى بن خليل أبو الخير, عصام الدين طاشكبري زاده.
ولد: سنة (901 هـ) إحدى وتسعمائة.
من مشايخه: والده، ومحمد الفوجوي، ومحمد الشهير بميرم جلبي وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
• العقد المنظوم: "كان المولى مصلح الدين المزبور من العلماء الأعيان توفي وهو مدرس بإحدى المدارس الثمان بعد ما كان قاضيًا بحلب ولما خلص المرحوم من ربقة الصبا فانتظم في سلك أرباب الحجر والحجا وفرق الغث عن السمين وميز الكاسد عن الثمين، قام على أقدام الإقدام وشمر عن ساق الجد والاهتمام في تحصيل المعارف والفضائل وإتقان المقاصد والوسائل ... عرضت له عارضة الرمد فأضرت عيناه وعميت كريمتاه فكان مصداق ما ورد في الأثر إذا جاء القضاء عمي البصر، فاستعفى عن المنصب واستتاب عن سوالفه واشتغل بتبييض بعض تواليفه ... قال واحد من أعيان تلاميذه حضرت طعامه ليلة من ليالي شهر رمضان وهو مدرس بالقلندرية وكان من عادته أن يدعو طلبته في كل ليلة من ليالي شهر رمضان فقال إني منذ توليت اسحاقية اسكوب جعلت لنفسي عادة وهي أن أكتب في كل سنة نسخة من تفسير البيضاوي وأبيعها بثلاثة آلاف درهم وأنفق ذلك المبلغ على طعام الطلبة في ليالي رمضان وسمعت من الثقات أنه قال اتصلت ببعض المشايخ الصوفية وحصل لي بسببه الحمد لله تعالى بعض ما أشتاقه من نفائس السلوك وقد اتفق لي انسلاخ كلي وفارقت بدني كل المفارقة فبينا أنا على تلك الحالة إذ دخل وقت الظهر فقصدت التوضؤ للصلاة فلم أقدر على تحريك القالب واستعماله فيه حتى ذهب وقت الظهر ثم وقت العصر وأنا على تلك الحالة ثم عدت على حالتي الأولى" أ. هـ
• قلت وقد ذكر صاحب "تراجم الأعيان" السبب فيما حصل له من رمدٍ ومن بعدهِ العمى الذي انتهى إليه حاله، فقال بعد ما أثنى عليه ثناءًا طويلا: "وتولى قضاء بروسة المحروسة فاتفق أنه ضرب فيها رجلًا من عسكر السلطان، وأظنه من حاملي السلاح للسلطان، فثار الجند عليه وقصدوا قتله, فما نجا منهم إلا بعد جهدٍ جهيد, ورأى رحمه الله تعالى أن المبادرة إلى ضرب الجندي المذكور كانت من ضيق عضه بسبب أكله للتركيب المشهور المسمى يومئذ بالبرش (1)؛ لأنه 
عند انفصال حرارته يوجب للمرء ضيقًا عجيبًا إلى الغاية. فحلف يمينًا مغلظة أنه لا يأكل البرش بعد ذلك اليوم، وهذا أمرٌ مخالف للقاعدة العقلية، وما ذاك إلا أن عادة البرش توجب المداومة على أكله ويتكلف آكله كلفة كبيرة، حتى يستطيع تركه. وأغلب ما يكون ذلك بالتناقص من غير ضرر.
وأنشد له بعضهم متمثلًا:
إن تكن عازمًا على قبض روحي ... فترفق بها قليلًا قليلًا
فما طاوع على أكله بعد اليمين أبدًا، فلزم من ذلك نزول المواد الرطوبية على عينيه؛ لأن أكل البرش كان يحبس المواد عن النزول لما فيه من التجفيف. فلم يزل ذلك يتزايد إلى أن أوجب له العمى، وهو قاضٍ حينئذ بقسطنطينية المحمية، فلزم بيته مسلمًا لأمر القضا، تاركًا منصب الحكم والقضا. وعاش بعد ذلك مدة طويلة، صنف فيها كتبًا جليلة" أ. هـ
• معجم المفسرين: "مؤرخ، مشارك في كثير من العلوم تركي الأصل، مستعرب، ولد في برومة وتعلم في أنقرة والآستانة وأماسية ثم تنقل في المدن التركية مدرسًا ثم ولي القضاء بالقسطنطينية وحلب ... " أ. هـ
• قلت: لأهمية كتاب طاشكبري زاده (مفتاح السعادة)، ومع ما يحتويه من علوم أوردها صاحب الترجمة سوف نورد ما قاله محقق الكتاب وبعضًا مما قاله هو فيه. فمما قاله محقق كتاب (مفتاح السعادة) في مقدمة التحقيق: "ولقد كان المؤلف حنفي المذهب، صوفي النزعة والسلوك، منكبًا على العلم، عزوفًا عن طلب الدنيا، متواضعًا جم التواضع، يعطى كل ذي حق حقه، غير متحيز ولا متعصب. ولتكن هذه ترجمة للعلامات البارزة في حياته، أما بقية سماته وصفاته فسوف نجعلها جزءًا من معالجتنا لمفتاح السعادة، ذلك أن الكتاب يعتبر بحق مرآة للرجل انعكست عليها كل صفاته العلمية والشخصية والمزاجية، وبذلك يصعب فصلها عن الكتاب، فلنقلب -إذن- صفحات كتابه لعلنا نجد فيها حديثًا صدقًا عن المؤلِّف والمؤلف. ولن يفوتنا -بإذن الله- بعد أن نقيم الكتاب، أن نعرج على تصنيف العلوم عند العرب، فليس ثمة مناسبة أوفق من هذه لتناول هذا الموضوع البكر، وإذا لم يتسع المجال لتفصيله كل التفصيل فلعلنا نوفق إلى إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع، عملًا بالمثل القائل: ما لا يدرك كله لا يترك كله. والله الموفق للسداد" أ. هـ
قال المحقق حول مصنفه (مفتاح السعادة)، وما أتبعه فيه طاشكبري زاده من تقسيمه وأبوابه وفروعه، وما إلى ذلك من علوم وتراجم لعلماء تلك العلوم وأقوالهم، وخاصة ما يتعلق بعلماء المذهب الحنفي، فقال ما نصه: "ولما كان المؤلف حنفي المذهب فقد توسع في ترجمة أبي حنيفة حتى لقد قسم هذه الترجمة إلى مطالب. ثم ذكر الكثير من تراجم الحنفية، وقد فعل نفس الشيء  بالنسبة لأصحاب المذاهب الأربعة، إلا أنه توسع في تراجم الشافعية تبركًا بهم على حد تعبيره.
ومما يجدر ذكره أن الكتاب قد ضم تراجم لعلماء آسيا الصغرى وذكر مؤلفاتهم وهو بهذا يعطينا صورة للحياة العقلية في هذا الجزء من الدولة الإِسلامية في عهد الدولة العثمانية، والكثيرون منهم شاهدهم المؤلف بنفسه وخالطهم وترجم لهم في حياتهم وتتلمذ على البعض منهم. وتلك لعمر فالحة وفاء خليقة بأن تصدر عن مثل أحمد بن مصطفى الرجل الوفي الدين لتواضع الذي يعترف بالفضل لأصحابه. ولقد ذكرنا من قبل أنه ألف كتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية فيما بعد في سنة (965 هـ) لكي يؤدي هذا الغرض بصورة أفضل ولعله حين ألف كتاب مفتاح السعادة لم يكن قد انتوى بعد أن يؤلف الكتاب الأول وخاصة أنه ألف مفتاح السعادة قبل الشقائق بسبعة عشر منة. فتاريخ هذا الكتاب هو كما صرح به في صفحة (328) من الجزء الأول سنة (948 هـ).
وتتجلى غلبة النزعة الصوفية على المؤلف في أمرين:
أولًا: الترجمة الوافية التي عقدها للإمام الغزالي في الجزء الثاني باعتباره أحد الشافعية.
ثانيًا: أنه خصص الجزء الثالث من الكتاب كله وهو مجلد ضخم يقارب ستمائة صفحة - خصصه لعلوم التصوف، ولقد لخص في هذا الجزء تلخيصًا وافيًا كتاب إحياء علوم الدين للغزالي وإن لم يصرح بذلك: فرؤوس الموضوعات وتقسيم شعب الدوحة السابعة هي عند الغزالي، كما أن عبارات الغزالي ترد بنصها في أماكن كثيرة، حتى لقد شكك البعض نسبة تأليف هذا الجزء إلى صاحبنا؛ وأيد ذلك حينًا أن المخطوطة التي اعتمد عليها ناشرو دائرة المعارف العثماثية بحيدر آباد لم نكن تشتمل على هذا الجزء الثالث، ولذلك طبع من مخطوطة أخرى وجدوها في لندن بعد طبع الجزأين الأول والثاني بما يقارب الثلاثين سنة" أ. هـ
وبعدما ذكر المحقق ما يتصف به كتاب (مفتاح السعادة) وأهميته لكونه أحد الكتب التي ألفها قبل وفاته وهو سابق في التأليف عن كتابه (الشقانق النعمانية) لذلك ذكر المحقق تقسيمات هذا الكتاب -أي مفتاح السعادة- ونهج مؤلفه فيه، فأخذ المحقق يدرس قسمًا قسمًا أو ما يسميها طاشكبري زاده (دوحة) ومن أراد المعرفة وزيادة العلم فليراجع مقدمة الكتاب ... وبالله التوفيق.
وبعد: ننقل إليك بعض ما ذكره طاشكبري زاده في كتابه "مفتاح السعادة" ما يوضح منهجه الديني والعقائدي، مع العلم أن أغلب الحنفية، وخاصة المتأخرين منهم -كموقف طاش كبري زاده- وخصوصًا الأتراك الروم منهم، الذين اتبعوا المذهب الحنفي، كانت تتصف عقائدهم بالماتريدية، والسلوك الصوفي، وما خالط ذلك السلوك من المعتقدات المنحرفة.
ونذكر الآن منهج المترجم له الصوفي في السلوك والعبادة وما يدعو إليه:
قال في (3/ 16) حول المكاشفة: "وأما علوم المكاشفة: فمعرفة ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله وحكمته، ومعرفة معنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي والملائكة والشياطين، ومعرفة الجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى لقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، إلى غير ذلك من الأحوال، بأن يرتفع الغطاء ويتضح جلية الحق اتضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، وإنما يشغل عنه كدر قاذورات الدنيا، فهذا صقل القلب عنها يتجلى له تلك العلوم بلا شك، ويتلألأ فيه أنوار تلك الحقائق لا محالة، وهذه العلوم لا تسطر في الكتب، ولا يتحدث بها إلا عن يعرفها، فلا تحقروا عالمًا آتاه لله علمًا، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ آتاه إياه.
قال بعض العارفين: عن لم يكن له نصيب من هذا العلم -يعني علم المكاشفة- أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله، وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء عن هذا العلم، وهما: البدعة والكبر، وقيل: عن كان محبًا للدنيا ومصرًا على هوى لم يتحقق به، وقد يتحقق بسائر العلوم، وأقل عقوبة عن ينكره أن لا يرزق منه شيئًا، وهو علم الصديقين والمقربين".
وفي (3/ 24) حول قواعد العقائد: "وهي أصل الأصول ومبنى الإسلام ومقدمة جميع الأحكام، ومبناها تصحيح كلمتي الشهادة وتفصيلهما، ويرجع إلى معرفة المبدأ والمعاد.
ولما كان تفصيلها خارجًا عن طرق هذا الكتاب، وصارت كتب السلف مشحونة بها، ضربنا عن ذلك صفحًا والله الموفق.
وإجمال هذا الكلام أن هذا الركن من الإِسلام على أربعة أركان، كل ركان عشرة أصول.
الركن الأول: معرفة الله عَزَّ وَجَلَّ، ومداره على عشرة أصول؛ وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه، وأنه ليس بحوهر ولا جسم ولا عرض، وأنه ليس مختصًا بحهة.
الركن الثاني: في صفاته، وهي أيضًا عشرة أصول، وهي: العلم بكونه حيًّا عالمًا قادرًا مريدًا سميعًا بصيرًا متكلمًا، متنزهًا عن حلول الحوادث، وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة.
الركن الثالث: في أفعال الله تعالى ومداره أيضًا على عشرة أصول؛ وهي: أن أفعاله مخلوقة له تعالى، وأنها مكتسبة للعباد، وأنها مرادة لله تعالى، وأنه متفضل بالخلق، وأنه له تعالى تكليف ما لا يطاق، وله إيهام البري، ولا يجب عليه رعاية الأصلح، وأنه لا واجب إلا بالشرع، وأن بعثة الأنبياء جائزة، وأن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتة لا مؤيدة بالمعجزات.
الركن الرابع: في السمعيات ومداره أيضًا على عشرة أصول؛ وهي: إثبات الحشر وعذاب القبر وسؤال منكر ونكير والميزان والصراط وخلق الجنة والنار وأحكام الإمامة.
وإذا عرفت هذا الإجمال فاطلب تفاصيلها من كتب القوم. والغرض بيان عقيدة أهل السنة، وأنهم بأي عقيدة يمتازون عما عداهم من أهل البدع والأهواء. نسأل الله كمال اليقين والثبات في الدين، لنا ولكافة المسلمين، والله تعالى يسددنا بتوفيقه، ويهدينا إلى الحق وتحقيقه، بمنه وسعة جوده" أ. هـ 

• قلت: ومن الركن الأول والثاني يتضح للقارئ الكريم أنه قد تكلم في صفات الله عز وجل التي تكلم بها الأشعرية والماتريدية، على الرغم أن هذين المذهبين لم يختلفا في تلك الصفات السبعة (العلم، والإرادة، والبقاء .. ) الخ في تأويلها إلا في أمور دقيقة يطول الكلام فيها، ولكن من حدد القول في صفات الله تعالى وخاصة تلك الصفات السبعة التي أولها الأشعرية والماتريدية، يكون قد سلك مسلكهم إلا إذا كان في تبيين الخطأ والانحراف في صفات الله تعالى، كما فعل شيخ الإِسلام ابن تيمية ومن بعده تلميذه ابن القيم، ومجدد الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا.
ثم تحدث عن زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في (3/ 93): "يقف عند رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين القبر والأسطوانة اليوم، وليستقبل القبلة، وليحمد الله ويمجده، وليكثر من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول اللهم إنك قلت وقولك الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} اللهم إنا قد سمعنا قولك وأطعنا أمرك، وقصدنا نبيك مستشفعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا، تائبين من زللنا معترفن بخطايانا وتقصيرنا، فتب اللهم علينا وشفع نبيك هذا فينا، وارفعنا بمنزلته عندك وحقه عليك، اللهم اغفر للمهاجرين والأنصار، واغفر لأخواننا الذين سبقونا بالإيمان. اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك ولا من حرمك يا أرحم الراحمين.
ثم ليأت الروضة ويصلي فيها، ويكثر من الدعاء ما استطاع، وليدع عند المنبر، ويستحب أن يضع يده على الرمانة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده عليها عند الخطبة.
ويستحب أن يزور يوم الخميس قبور الشهداء بأحد، فيصلي الغداة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يخرج ويعود إلى المسجد لصلاة الظهر، فلا يفوته فريضة جماعة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزور قبر عُثمَان وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وفيه أيضًا قبر علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمَّد، ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها وعنهم، ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبر صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كله بالبقيع".
وأما قوله في السماع والوجد والغناء فذكر الإباحة فيه، وما يمكن فعله على درجات وإليك نصه (3/ 285): "اعلم: أن أمر الحرمة لا يعرف بمجرد العقل بل بالسمع، إما بالنص وهو ما أظهره - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو فعله، أو بالقياس، فإن لم يوجد فيه نص لم يوجد فيه قياس بطل القول بتحريمه وبقي كسائر المباحات.
ثم نقول: وقد دل النص والقياس جميعًا على إباحته، أما القياس فهو: أن السماع سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك القلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب. ثم هو إما موزون أو غيره، ثم الموزون إما مفهوم أو غيره.
فهذه درجات:
الدرجة الأولى: الصوت الطيب من حيث هو طيب، فلا يحرم بل حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو: أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وهي إما مستلذة كصوت البلابل، أو مستكرهة كنهيق الحمار، فكما لا حرمة في مستلذات سائر الحواس فكذا فيه، كالألوان الخضر في البصر والأطعمة الحلوة في الذائقة. وأما النص فقوله مع بلادة طيبة يتأثر بالحداء حتى تستخف معه الأحمال الثقيلة وتمد أعناقها إلى جانب الصوت، ويترك الماء والعلف بين يديه مع شدة جوعه وعطشه، وربما تتلف نفسها في شدة السير. وقد نقل أن الطيور كانت تقف على رأس داود لاستماع صوته.
ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب, لم يجز أن يحكم مطلقًا بإباحته وحرمته بل يختلف ذلك باختلاف أحوال القلب، قال أبو سليمان السماع: لا يجعل في القلب ما ليس فيه لكن يحرك ما هو فيه.
وإذا عرفت هذا، فاعلم: أن مواضع الغناء لا تخلو عن سبعة.
الأول: غناء الحجيج بالطبل والشاهين في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية، وهو يهيج الشوق إلى حج البيت الحرام، وانشعاله إن كان ثمة شوق حاصل، والحج محمود، والشوق وما يبعثه من الطريق المباح محمود لا محالة، ومن هذا القبيل الأشعار التي ينشدها الواعظ للترغيب والترهيب.
الثاني: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وذلك أيضًا مباح، لكن يخالف ألحان الحاج؛ لأن لك للترغيب والتشويق وهذا للتشجيع واستحقار النفس والمال, والأشعار المشجعة مثل قول المتنبي:
فإن لا تمت تحت السيوف مكرمًا ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم
وقوله:
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة النفس اللئيم
وأمثال ذلك. فهذا أيضًا مباح في وقت يباح فيه الغزو، ومندوب إليه في وقت استجابة.
الثالث: الجزيات في اللقاء بالعدو، والغرض منه تشجيع النفس والأنصار، وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة، وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب وإن أوقع في النفس. وذلك إما مباح أو مندوب إليه محسب إباحة القتال أو ندبه، ومحظور إذا كان في قتال المسلمين وأهل الذمة، وكل قتال محظور لأن الداعي إلى المحظور محظور، وذلك منقول عن شجعان الصحابة كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما. ولذلك يمنع من الضرب بالشاهين في معترك الغزاة؛ لأنه مجلل عقدة الشجاعة لكون صوته مرفقا محزنا، فمن فعله القوى ليفتر عن القتال المندوب فهو عاص، وعن القتال الحرام فهو مطيع.
الرابع: أصوات النياحة ونغماتها المهيجة للحزن والبكاء، فذلك مذموم إن كان على الأموات للنهي عن التأسف على ما فات، وأما الحزن على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه والتباكي والتحازن عليه, -كما فعله داود عليه السلام- فمحمود، حتى كانت الجنائز تحمل من مجلس نياحته - عليه السلام -، ولهذا لم يحرم البكاء والتباكي على الذنوب من الوعاظ وأرباب التذكير.
الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيدًا له وتهييجًا له، وهو مباح إن كان السرور مباحًا: كالغناء في أيام العيد والعرس وقدوم الغائب وولادة الولد والوليمة والعقيقة وعند الختان وحفظ القرآن، إذ كان ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه، ويدل على جوازه إنشادهم بالدف والألحان عند قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا، ما دعا لله داع
وقوله - صلى الله عليه وسلم - عند منع أبي بكر جاريتين تدففان وتضربان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد.
وكذا نظر عائشة إلى الحبشة يلعبون في المسجد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها يسترها بردائه وغير ذلك، فهذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف واللعب في أوقات السرور كلها قياسًا على يوم العيد مما يجوز الفرح به شرعًا. ومنه: الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم على طعام أو كلام، فهو أيضًا مظنة السماع.
السادس: سماع العشاق تحريكًا للشوق وتهييجًا للعشق وتسلية للنفس، فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذة، وإن كان مع بالمعرفة لا يعرف غير الله، إذ ليس في الوجود تحقيقًا إلا الله وأفعاله، فكانت محبته مقصورة على الله غير مجاوزة إلى سواه، فكان اسم العشق على حب غيره مجازًا محضًا لا حقيقة له.
نعم إن الناقص القريب في نقصانه من البهيمة قد لا يدرك لفظة العشق إلا طلب الوصال، الذي هو عبارة عندهم عن تماس ظواهر الأجسام وقضاء شهوة الوقاع، فمثل هذا الحمار ينبغي أن لا يستعمل معه لفظ العشق والوصال والأنس، إذ الأفهام الفاسدة السقيمة لا تدرك من الألفاظ إلا ما يلائم طباعها، فاستعمل معه ما يوافق طبعه من لفظ الكمال والتلذذ كمعرفته وأمثال ذلك".
وقال في السماع المحرم (3/ 292): "في مواضع حرمة السماع وأنها خمس عوارض.
الأولى: السماع من المحرم النظر إليها والأمرد، فيحرم السماع لا لنفسها بل لمجاورها.
والثانية: في الآلة، بأن تكون من شعائر الشرب أو المخنثين: كالمزامير والأوتار وطبل الكوبة، وما عدا ذلك يبقى على الإباحة: كالدف وإن كان معه الجلاجل، وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.
الثالثة: في نظم الصوت وهو الشعر؛ فإن كان من الخنا والفحش واللذة والهجو فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك القائل، وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها. وأما هجاء الكفار وأهل البدعة فذلك جائز، وقد فعله حسان في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما التشبيب وهو: النشيد بوصف الخدود والقدود والأصداع وسائر أوصاف النساء ففيه نظر، والصحيح جوازه إن لم ينزله على معينة ونزله على من تحل له من زوجته وجاريته، ومن نزله على أجنبية فهو عاص بهذا التنزيل، ومن هذا حاله ينبغي أن لا يحضر مجلس السماع.
وأما الذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلًا ظلمة الكفر، وبنضارة الخد نور الإيمان, ويذكر الوصال لقاء الله ويذكر الفراق الحجاب عن الله في زمرة المرددين، ويذكر الرقيب المشوش قروح الوصال عوائق الدنيا وآفاتها المشوشة لدوام الأنس بالله، ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة، بل تسبق المعاني الغالبة على القلب إلى فهمه مع اللفظ، حتى إن ما فهمه ربما لا يوافق مراد الشاعر.
الرابعة: المستمع، أن يكون شابًّا تكون الشهوة غالبة عليه، فالسماع حرام عليه، وإن لم يكن فيه حب شخص معين.
الخامسة: أن يكون المستمع من العوام، ولم يغلب عليه حب الله فيكون السماع له محبوبًا، ولا غلبت عليه الشهوة فيكون محظورًا، ولكنه أبيح كسائر اللذات المباحة، إلا أنه بالمداومة يصير لهوًا ترد شهادته، وبالإصرار يصير كبيرة، ونظير ذلك اللعب بالشطرنج عند الشافعية؛ لأن مداومته مكروهة كراهة شديده وإن كان أصله مباحًا، إذ كم من مباح يصير إكثاره حرامًا، كالخبز المباح إكثاره حرام بأن يجاوز حد الشبع.
وأما ما ورد من الأخبار والآثار الدالة على حرمة الغناء: فأما لعوارض محرمة كما ذكرناه، أو يحمل على الهرب عن تمتع الدنيا، أو يحمل على حرمة الأوتار، أو على سماعه عند اشتغاله بما هو أولى منه من ذكر الله تعالى، وذكر صفاته وأفعاله وأمثال ذلك.
وأكثر استعمال السلف الغناء في أصوات القيان من الجواري الحسان، ولذلك قال الجنيد: الغناء رقية الزنا ومن أتقن ما ذكرناه من القواعد سهل عليه تأويل أمثال ذلك".
• قلت: ومن أراد التوسع في معرفة منهجه الصوفي والسلوكي فليراجع المجلد الثالث من كتاب (مفتاح السعادة) أيضًا، فإنه يذكر العبادات وبواطنها، وكيف التوصل إلى تلك البواطن والأذكار، وما يوجب فيه وما يقال منه، وغير ذلك مما يوضح المذهب الصوفي لديه وسلوكه فيه ... والله أعلم.
وقال صاحب كتاب "الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات الألهية" (1) (1/ 317 - 318): "كان مع جلالته لامامته في العلوم، صوفيًا خرافيًا، فقد شهد على نفسه بترك صلاتي الظهر والعصر لأجل شطحات التصوف التي أحاطت به، فاستمع إلى ما يقول هو عن نفسه:
اتصلت بالصوفية، وحصل لي من نفائس السلوك، وقد اتفق لي انسلاخ كلي، وفارقت بدني كل المفارقة، فبينا أنا على تلك الحالة إذ دخل وقت صلاة الظهر، فقصدتُ التوضؤ للصلاة، فلم أقدر على تحريك القالب حتى ذهب وقت صلاة الظهر والعصر، وأنا على تلك الحالة ... أ. هـ "نقلًا عن العقد المنظوم ابن لالي بالي (338) عنه".
قلت -أي صاحب كتاب الماتريدية-: هذا الانسلاخ من وسائل الانحلال، نعوذ بالله من الضلال والإضلال، انظر إلى هذا الحنفي الماتريدي كيف لعبت به صوفيته؟ ! " أ. هـ
وفاته: سنة (968 هـ) ثمان وستين وتسعمائة.
من مصنفاته: "حاشية" على الكشاف في التفسير، و"رسالة في تفسير آية الوضوء", و "صورة الإخلاص في سورة الإخلاص" و "مفتاح السعادة ومصباح السيادة".





مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید