المنشورات

المراغي

النحوي، اللغوي، المفسر المقرئ: أحمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم القاضي المراغي الحنفي.
ولد: سنة (1300 هـ) ثلاثمائة وألف.
من مشايخه: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد بخيت المطيع وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
• رسالة الماجستير بعنوان: "الشيخ أحمد المراغي ومنهجه في التفسير": "كان حنفيًا ولم يكن متعصبًا لمذهبه, وكان جم التواضع بسيطًا بشوشًا مرحًا. وكان رحمه الله هادئًا لين العريكة يحاول تقديم المساعدة لمن لاحظ احتياجه لها عرفه أم لم يعرفه" أ. هـ
قلت: أما عقيدته من خلال تفسيره فسنفصل فيها الكلام على مبحثين الأول: محاربته للبدع والمبحث الثاني: موقفه من الأسماء والصفات ثم بعد ذلك سنتناول الكلام على تأثره بالمنهج العقلاني الذي يبدو واضحًا عليه من خلال موقفه من حديث الآحاد ومسألة تعدد الزوجات، ونردف ذلك بما قاله المغراوي في كتابه المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات.
وإليك ما كتبه صاحب رسالة الماجستير: قال في محاربته للبدع: "مظاهر البدع التي حاربها المراغي:
1 - القبوريات وتعظيم الأموات:
المتتبع للمواضع التي ذكر فيها هذا المظهر يجد أنه الأكثر تركيزًا وتكرارًا من بين مظاهر البدع التي أثار إليها الشيخ وحذر منها، فقد وردت الإشارة إليها قريبًا من عشرين مرة.
جاء في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] قوله:
ومن هذا تعلم أن من يخاطب القبور حين الاستغاثة بهم بنحو قوله (المحسوب المنسوب) فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا، وخالف ما تظاهر من نصوص الدين التي تدل على خلاف ما يقول (1).
وفي إشارة مباشرة لمظهر اتخاذ المساجد في أضرحة الأولياء والتبرك بها، واعتبار ذلك شركًا، يرى الشيخ في تفسير الآية {قَال الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه أشد النهي وينسب إلى ابن حجر في كتابه (الزواجر) أنه من الكبائر.
ثم يورد الشيخ آثارًا تدل على صحة هذا الحكم إلى أن يقول: "فليعتبر المسلمون اليوم بهذه الأخبار التي لا مرية في صحتها, وليقلعوا عما هم عليه من اتخاذ المساجد في أضرحة الأولياء والصالحين والتبرك بها والتمسح بأعتابها، وليعلموا أن هذه وثنية مقنعة وعود على عبادة الأصنام على صور مختلفة، والعبرة بالجوهر واللب لا بالعرض الظاهر، فذلك إشراك باللهِ في ربوبيته وعبادته وقد حاربه الدين أشد المحاربة، ونعى على المشركين ما كانوا يفعلون" (2).
2 - التوسل بالصالحين:
يعتبر الشيخ المراغي التوسل بدعة منكرة في الدين، وقد جاء اهتمامه بإنكار هذا المظهر في الدرجة الثانية بعد القبوريات وتعظيم الموتى.
ومن أمثلة ذلك:
- ما جاء في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141] , قال:
"لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين وساعدهم في ذلك رؤساء الأديان، فأولوا نصوص الدين اتباعًا للهوى، ومن ثم جاء القرآن يقرر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفي الاننفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاج بذلك أهل الكتاب الذي يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة، وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة -الجزاء على العمل- ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزي بعمله، ولا ينفع أحدًا عمل غيره" (3).
- وفي تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَينَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] , قال: "وفي الآية إيماء إلى أن الناس جبلوا على الرجوع إلى الله حين الشدائد، ولكن من لا يحصى عددهم من المسلمين في هذا العصر لا يدعون حين أشد الأوقات حرجًا إلا الميتين من الأولياء والصالحين، كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقي والمتبولي وأبي سريع وغيرهم، ويتأول ذلك لهم بعض العلماء  ويسمونه توسلًا أو نحو ذلك" (1).
وينقل الشيخ عن الآلوسي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيهِ تَجْأَرُونَ .. } [النحل: 54، 53] نصًّا يقرع فيه المشركين بالله غيره في الدعاء، المستغيثين بغيره عند النبلاء (2).
3 - الذبح لغير الله تعالى:
حمل الشيخ بشدة على الذين يذبحون الضحايا للصالحين وعند أضرحة الأولياء، ولم يدع مجالا للحديث عن هذا المظهر إلا أسهب في ذمه والتحذير منه.
من ذلك:
ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] , قال: (وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى, إذ يقولون عند الذبح: باسم الله الله أكبر يا سيدي يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضي حاجة صاحبه" (3).
وجاءت عبارات الشيخ في هذا الموضوع متقاربة، فتقرأ نحو ما تقدم في تفسير قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] (4)، وفي تفسير قوله سبحانه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115] (5).
4 - العرافة والتمائم والتعويذات:
وصف الشيخ الراجمين بالغيب بأنهم دجالون من أهل الضلال، جاء ذلك في تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] قال:
"ويدخل في حكم هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدجالين كالعرافين وأصحاب المندل والدجل ومدعي الكشف والولاية" (6).
- وفي قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3] نعى الشيخ على الذين استنوا بسنة مشركي الجاهلية يستقسمون بالسّبع وغيرها ويسمون ذلك فألًا وأعجب من ذلك -كما يرى الشيخ- هو اعتبار بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال لا بينة فيه ولا سلطان (7).
- وفي موضع آخر جعل الشيخ من شيبة أصحاب القلوب الفاهمة ألا تتوجه إلى طلب ما لا تقدر عليه بغير ما يعرف البشر من الأسباب المطردة كالرقى والعزائم والتخيرات (8).
5 - الممارسة الخاطئة للعبادة:
يرى الشيخ أن الفهم الخاطئ للعبادة والممارسة المنحرفة لها مظهر من مظاهر الجهل المؤدي للتمسك بالبدعة.  

ثم قال صاحب الرسالة: "لم يدع الشيخ مجالًا يمكن الحديث فيه عن خطر البدعة إلا فعل. وإذا كانت المظاهر السابقة قد حوربت بأسمائها لأنها أشهر ما ابتدعه الناس واستشرى في المجتمع. فإن تفسير المراغي لم يخل من تعميم ذم البدعة في جميع المجالات والتحذير من خطرها على الدين".
ثم قال حول تأويله للأسماء والصفات في تفسيره:
"الأسماء والصفات كما يعرفها المراغي:
1. الاستواء والعرش:
أ. الاستواء:
بدراسة المواضع التي ورد فيها ذكر الاستواء في تفسير المراغي، نجد أنه عرفه بما يلي:
1. القصد، وذلك في سورة البقرة (1).
2. استقامة أمر السماوات والأرض، وذلك في سورة الأعراف (2).
3. الاستيلاء، واستشهد يقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وذلك في تفسير سورة طه (3).
4. تمام التصرف، وذلك في سورة الفرقان (4).
5. الارتفاع، وذلك في سورة الحديد (5).
6. استواء يليق بعظمته وجلاله، وذلك في سورة يونس (6) وسورة هود (7) وسورة الرعد". (8)
قال بعدها صاحب الرسالة: "ولعل الشيخ المراغي قد ذكر هذه الوجوه جميعًا لإطلاع القارئ على الآراء المختلفة للعلماء في معنى الاستواء، ولكنه بذلك لم يمكن الباحثين من معرفة مذهبه الاعتقادي، حيث أتى برأي السلف في الموضوع مؤيدًا، وبرأي الأشاعرة وغيرهم على الصفة نفسها، وتأييده للرأي وضده اضطراب في منهجه في هذه القضية كما ترى".
ب. العرش:
تكرر تعريف العرش في تفسير المراغي عشر مرات، جاء في ثمان منها أنه مركز تدبير الكون، مع اختلاف بسيط في التعبير عن هذا المعنى أحيانًا، وإن يقول: مركز تدبير شؤون العالم (9)، أو: عشره الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم (10)، أو: مركز نظام الملك أو مصدر التدبير (11) وهكذا (12).
أما تعريفه الثاني فقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] , قال:
"أي وكان سرير ملكه أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء". (13)


فعرف العرش هنا بأنه سرير الملك.
التعريف الثالث: قال الشيخ في شرح مفردات سورة البروج:
"ذو العرش: أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة". (1)
1. والتعريف الذي ركز الشيخ عليه وكرره كثيرًا وهو أن العرش مركز تدبير الكون، لم أجده في كتب العقيدة التي اطلعت عليها، غير أنه بالرجوع إلى تفسير المنار الذي عودنا المراغي الاقتباس منه والتأثر بآرائه وجدتُ أن السيد رشيد رضا قد سبق صاحبنا بهذا التعبير، جاء ذلك في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة: 129] قال:
"الذي هو مركز تدبير أمور الخلق كلها، كما قال في الآية الثالثة من السورة التالية -يونس-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (2).
وقد استدل المراغي بالآية نفسها (3) تبعًا لما جاء في المنار.
ومدار هذا التفسير على اعتبار جملة (يدبر الأمر) حالًا من تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} والأقرب أن تجعل هذه الجملة: (يدبر الأمر) ابتدائية لأن تفسيرها على الحالية يوقع في محظور التجسيم الذي حذر منه المراغي وقد نص على كونها للابتداء الشيخ الآلوسي في تفسيره (4)، وذكر صاحب الكشاف في إعرابها كلامًا يدل على ذلك (5)، واختار الشيخ العكبري وجهًا أول من وجوه إعرابها.
2. أما تعريف العرش بأنه سرير الملك، فقد نصّ شارح العقيدة الطحاوية عليه قال:
"والعرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك" ثم قال عن عرش الرحمن: "فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة". (6)
3. اعتبر شارح العقيدة الطحاوية تعريف العرش بأنه الملك والسلطان تحريفًا لكلام الله تعالى بقوله:
"وأما من حرّف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع يقول تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] , وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟ وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه آخذًا من قوائم الملك؟ هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ ! (7).
وإذا اعتذر عن الشيخ في اضطراب رأيه في الاستواء بأنه يريد اطلاع العامة القراء على مزيد من آراء العلماء، فإن الاعتذار عن اضطراب منهجه في معنى العرش لا يجد له مكانًا هنا، إذ إن الشيخ أصرّ على اعتماد تعريف لم يقل به أحد  من علماء العقيدة المعتبرين، إلى جانب أنه موهم كما سلف.
وأما التعريفان اللذان أورد كلا منهما مرة واحدة، فالأول منهما تعريف لغوي، ولكن إضافته للفظ الجلالة ليصبح (سرير ملك الله) أمر يجب عدم الجرأة عليه إذ لم يرد في سنة صحيحة أو على لسان أحد من السلف.
والثاني رده شارح العقيدة الطحاوية وحجته قوية كما رأيت.
2. الكرسي:
أوّل الشيخ الكرسي بأنه العلم الإلهي (1).
وقد نسب الإمام البيهقي هذا القول لسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, ولكنه قال بعد ذلك: "وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور المذكور مع العرش" (2).
وقد ذكر شارح الطحاوية هذين المعنيين وأضاف إليهما أن الكرسي هو العرش، ولكنه ردّه، قال: "والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره" (3).
وآثر شارح الجوهرة عدم القطع بتعيين حقيقة الكرسي لعدم العلم بها (4).
3. اليد والقبضة:
في مواضع مختلفة من تفسير المراغي ورد لفظ اليد مضافًا إلى الحق سبحانه وتعالى، وبدراستها نجد ما يلي:
- في سورتي (آل عمران) و (ص) فسّر اليد بالقدرة (5).
- في سورة (المائدة) نفى أن تكون الجارحة واعتبرها لفظًا مشتركًا، ثم قال: "يداه مبسوطتان: أي هو كثيرٌ العطاء". (6)
- في سورة الفتح فسرها بالنصرة (7).
- أما في سورة الزمر فقد اعتبر القبضة من المتشابه، قال:
"وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه، وأن الخلف يؤولونه، والأول أسلم والثاني أحكم".
قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه أ. هـ، وقال صاحب الكشاف: والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بحملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على عنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز أ. هـ (8)
فالشيخ كما ترى أوَّلَ صفة اليد في أربعة مواضع، أما الخامس فقد ذكر فيه رأي السلف ورأي الخلف، ومال إلى الأول بتقويته مما ورد من كلام سفيان بن عيينة والزمخشري.

وهكذا فإنك تجد الشيح ينقل آراء العلماء المختلفة محاولًا أن يوزعها على الأماكن المختلفة حسب ورودها.
ولا يكفي في اعتبار مذهب السلف مذهبه، إيراده لرأيهم وترجيحه في موضع، مع نقل آراء غيرهم في مواضع أخرى دون التعقيب عليها.
4. الوجه:
جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] قوله: "وابتغاء وجه الله: طلب مرضاته". (1)
وفي تفسير قوله سبحانه {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] قال: "وجهه أي رضاه وطاعته لأن من رضي عن شخص يقبل عليه، ومن غضب عليه يعرض عنه" (2).
وفي قوله سبحانه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] فسّر الوجه بالذات (3).
وفي سورة الليل فسّر ابتغاء وجه الله تعالى بأنه قصد رضاه سبحانه (4).
وهكذا فقد أوّل الشيخ "الوجه بأنه التوجه والقصد، إلا في آية الرحمن فقد أوّله بالذات، كما سلف".
وقد نسب الإمام البيهقي لابن حزم قوله: "وجه الله تعالى إنما يراد به الله عَزَّ وَجَلَّ وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته، ليطلان القول بالتجسيم" (5).
وفيه تأييد لما ذهب إليه المراغي في سورة الرحمن.
5. العين والبصر:
جاء في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]: "والمراد بالأعين هنا: شدة الحفظ والحراسة" (6).
وفي قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] , قال: "أي بمرأى منه، والمراد بحراستنا وحفظنا" (7).
وعن صفة البصر، جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19]: "أي أنه سبحانه عليم بدقائق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده". (8)
وقد سار في معنى (العين) على مذهب المؤولين لعدم احتمالها غير هذه المعاني، وقد أشار الإِمام البيهقي إلى تأويل العين بالحفظ والكلاءة كما هنا (9).
كذلك في معنى (البصير) فقد أوّله المراغي بلازمه فكونه سبحانه بصيرًا يثبت له صفة العلم بدقائق الأمور وجليلها، وهو ما عبر عنه الإِمام الغزالي بقوله: (وإذا نزه عن ذلك -عن تشبيه بصره ببصر المخلوقات- كان البصر في حقه  عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات، وذلك أوضح وأجل مما تفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات) (1).
ولكن الإمام البيهقي يرفض تأويل البصر بالعلم، ويرى إثبات كونه سبحانه بصيرًا، له بصر، من غير إثبات جارحة (2).
6.العلم:
في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ} [البقرة: 143] قال الشيخ:
"وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء: المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع. ذلك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب". (3)
وجاء مثل هذا التفسير في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140] (4)، وقد حكى الإِمام البيهقي رواية المزني عن الشافعي في قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ}، يقول: "إلا لنعلم أنه قد علمتم من يتبع الرسول، وعلم الله تعالى كان قبل اتباعهم وبعده سواء، وقال غيره: إلَّا لنعلم من يتبع الرسول بوقوع الاتباع منه كما علمناه قبل ذلك أنه يتبعه" (5).
والتفسير الثاني عن الشافعي -رحمه الله-هو الذي أورده المراغي.
7. الكلام: يقرر الشيخ أن صفة الكلام والتكليم ثابتة لله تعالى بصريح القرآن الكريم في آيات عدة لا تعارض بينها (6)، ويميل إلى عدم الخوض في صفة تكليمه سبحانه لنبيه موسى عليه السلام.
ففي تفسير قوله سبحانه {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] يقول: "وليس لنا أن نخوض في معرفة حقيقته -يعني التكليم- لأنا لم نكن من أهله، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضًا، وكيف تحمل ذرات الهواء الأصوات إلى الآذان، فضلًا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري" (7).
وهذا من الشيخ ميل إلى مذهب السلف.
قال صاحب الطحاوية: "وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولًا" (8).
قال الشارح في الجملة: "أي ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به" (9).

8. الحب:
يرى الشيخ المراغي أن حب الله تعالى وبغضه شأن من شئوونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته (1)، وفي توضيح أكثر يؤكد الشيخ أن حبه تعالى منزه عن مشابهة حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده في أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم (2).
فترى الشيخ هنا ترك التأويل، وآثر أن يثبت هذه الصفة بعيدًا عن التشبيه والتمثيل.
9. السمع:
اكتفى المراغي -رحمه الله- في صفة السمع بتعريفها، قال:
"السمع صفة تدرك بها الأصوات أثبتها الله تعالى لنفسه".
10. السّاق:
في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] قال:
"أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة".
وهذا تأويل للساق على اعتباره ليس منسوبًا إلى الله سبحانه وتعالى، والمراد به الأمر العظيم.
ومال البيهقي لهذا المعنى، إذ حكم على حديث ينسب الساق للحق سبحانه بالضعف.
وقد وقع الشيخ رحمه الله في شيء من التشبيه غير المقصود، وإنما ساق إليه أسلوب التشبيه البلاغي".
ثم ذكر تعدد الزوجات في نظر الشيخ فقال صاحب الرسالة:
"وفي قضية تعدد الزوجات يشدد الشيخ على أن الأصل ألا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وقد سبق بسط هذه القضية في فصل القضايا الفقهية، ويأتي البحث هنا بما يخص موضوع المبحث من علاج لقضايا الأسرة.
استمع إليه وهو يقول:
"إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة، وهي أركان سعادة الحياة الزوجية، فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا لضرورة، مع الثقة بما أوجبه الله من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم لنفسه وامرأته وولده وأمته" (3).
وعن رأي المراغي في قضايا الغيب وحديث الآحاد قال صاحب الرسالة:
"سبق -القول- عن تأثر الشيخ المراغي بمدرسة المنار، وكان أحد وجوه ذلك التأثر رفضه لحديث الآحاد في العقائد".
ثم نقل صاحب الرسالة نماذج حول قول المراغي في رفض حديث الآحاد: "ففي تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] يقول: "وفي الآية إشارة إلى أن القول بغير بينة ولا حجة لا ينبغي أن يعوّل عليه، وأن اتباع الظن منكر عند الله" (4).

وفي قوله سبحانه {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا إ} [يونس: 36] يقول: "إن الظن لا يجعل صاحبه غنيًّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك كالعقائد الدينية" (1) أ. هـ.
• المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات: "الشيخ مصطفى المراغي من العلماء المعاصرين الذين تأثروا بالشيخ محمّد عبده، بل اعتبره البعض من أكابر تلامذة مدرسته، ومن الأزهريين الكبار، له باع كبير في علم اللغة والبلاغة، حاول أن يقرب تفسير القرآن بطريق عصري سهل، إلا أنه أدخل في تفسيره بعض الأمور التي كان ينبغي له أن يتجنبها، ناقلًا ذلك من بعض المجلات الأجنبية وغيرها.
وأما عقيدة الأسماء والصفات في تفسيره:
فهو مؤول في كل الصفات، ومن العجيب أنه أول صفة الاستواء ثم استدل على كلامه بمذهب السلف (2) الذي نقله عن الحافظ ابن كثير.
1. صفة الرحمة:
قال في تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: لفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فهذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن، استفيد منه لغة أنه المفيد للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائمًا، وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم، علم أن لله صفة ثابتة دائمة، هي الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم، وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإنما يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيد الرحمة على عباده دائمًا، لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار (3).
2. صفة الحياء:
قال عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} أي أن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما فوقها (4).
3. صفة الاستواء:
قال عند قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.
واستواؤه سبحانه على العرش هو استقامة أمر السماء والأرض، وانفراده بتدبيرهما والإيمان غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون، فالصحابة رضوان الله عليهم والأئمة من بعدهم لم يثتبه أحد منهم فيه، وقد أثر عن ربيعة شيخ مالك أنه سئل عن قوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} كيف استوى؟ فقال: استوى غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الله البلاغ، وعلينا التصديق.
وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح، مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، هو ابن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن  راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا: إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه.
قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبّه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة، والأخبار الصريحة على الوجه الذي يليق بحلاله ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى (1).
4. صفة الوجه:
أما المراغي: فهو مؤول لصفة الوجه في جميع مواردها في القرآن، قال في قوله تعالى: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي مكان تستقبلونه في صلاتكم. فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم ويأمركم بالتوجه إليها، فاينما توجه المصلي في صلاته فهو متوجه إلى الله، لا يقصد بصلاته غيره والله تعالى راضٍ عنه، مقبل عليه.
والحكمة في استقبال القبلة، أنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله، شرع للناس مكانًا مخصوصًا يستقبلونه في عبادته إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى (2).
قلت: وهذا هو الضلال البعيد، والجهل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي ورد فيها استقبال العبد وجه ربه، والقول على الله بلا علم ليس من شأن المتورعين، والخائفين من ربهم، وعكس ذلك القول بالظن والتخمين وعدم الاستناد إلى حجة من كتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وفسر الوجه بالذات عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} (3) وعند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (4).
5. صفة المجيء والإتيان:
قال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}.
أي ها هي ذي قد قامت الحجج، ودلت البراهين على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب، في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة، وتأتي الملائكة وتنفذ ما قضاها الله يومئذ.
والحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به ولا توطئة توطن النفوس على احتماله لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشد هولًا، والخوف إذا جاء من موضع الأمن, كان خطبه أعظم، ونحو الآية قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (5).
وقال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}. والمراد بالإتيان: إتيان ما وعد به من   النصر لأحبابه، ووعد به أعداءه من العذاب في الدنيا، كما جاء في قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. وإتيان أمره هو جزاؤهم على نحو ما جاء في قول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1).
وقال عند قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي وتجلت لأهل الموقف السطوة الإلهية كما تتجلى أبهة الملك للأعين إذا جاء الملك في جيوشه، ومواكبه ولله المثل الأعلى (2).
المراغي في تفسيره لهذه الآيات التي وردت فيها صفة المجيء والإتيان تابع لإخوانه من المؤولة، والمعطلة كما هو واضح في عباراته واللهم غفرًا.
6. تفسير الكرسي:
قال عند قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. أي أن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات. ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه ولا كرسي ولا قيام ولا قعود، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.
والخلاصة أن الكرسي شيء يضبط السماوات والأرض نسلم به بدون بحث في تعيينه ولا كشف عن حقيقته، ولا كلام فيه بالرأي دون نص عن المعصوم (3).
7. صفة النفس:
قال عند قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر نفسه، والإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى، وهو القادر على إنفاذه، ولا يعجز شيء عنه.
وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه؛ لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته (4).
وقال عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}.
أي أن ذلك القول إن كان قد صدر مني فقد علمته، إذ علمك واسع محيط بكل شيء فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه، وعلمه مني غيري كما أني لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدني إليها بالكسب والاستدلال، لكني أعلم ما تظهره لي بالوحي بواسطة ملائكتك المقربين إليك (5).
8. صفة المحبة:
قال عند قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
أي قل لهم إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون  في العمل بما يقرب إليه طلبًا للثواب فيما عنده فاتبعوني بامتثال ما نزل به الوحي منه إلى يرضى الله عنكم ويتجاوز عما فرط من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة (1).
وقال عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
قال وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين بست صفات. إنه تعالى يحبهم وحبه تعالى وبغضه شأن من شؤونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته (2).
9. صفة الرضا:
قال عند قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.
{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يحبه ولا يأمر به لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بحعلها ذليلة خاضعة للارباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب، والنصب، وممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (3).
10. صفة العندية:
قال عند قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أي بل هم أحياء في عالم آخر غير هذا العالم، هو خير للشهداء، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله (4).
وقال عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.
أي أن ملائكة الرحمن المقربين عنده لا يستكبرون عن عبادته، كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، وينزهونه عن كل ما يليق بعظمته وكبريائه وجلاله، وعن اتخاذ الند والشريك، كما يفعل الذين اتخذوا من دون الله ضفعاء وأندادًا يحبونهم كحبه، وله وحده يصلّون ويسجدون فلا يشركون معه أحدًا. فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافين به أسوة حسنة له في صلاته وسجوده وسائر عبادته (5).
11. صفة اليد:
قال عند قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ثم ردّ سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما في العالم من خير وهو سجل من ذلك فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} أي هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع.
وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادًا:



يداك يدا جود فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضن بالزناد تنفق
وقال عند قوله تعالى: {قَال يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} واليد، القدرة قال:
تحملت من عفراء ما ليس به ... ولا للجبال الراسيات يدان
وقال عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به، والقبضة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض بيمينه أي بقدرته (1).
التعليق:
الشيخ المراغي في صفة اليد مؤوّل معطل لم يشم رائحة مذهب السلف في هذه الصفة. غفر الله لنا وله.
12. صفة الفوقية:
قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي أن الرب شأنه العزة والسلطان والعلو، والكبرياء {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فلا ينبغي للمؤمن أن يتخذ وليًّا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته المذللين لسنته التي اقتضتا حكمته، وعلمه بتدبير الأمر في خلقه (2).
قال عند قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي يخاف هؤلاء الملائكة والدواب التي في الأرض ربهم الذي هو من فوقهم والقهر أن يعذبهم إن عصوه ويفعلون ما أمرهم به فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه (3).
13. صفة المعية:
قال عند قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ}.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ}: أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم ويعلم متقلبكم ومثواكم (4).
14. إثبات الرؤية:
قال عند قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}.
أي لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف كنهه عز وجل، ونحو الآية قوله: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ} ونفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء، والاحاطة به لا يستلزم نفي الرؤية مطلقًا.
وبهذا يعلم أنه لا تنافي بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنكم سترون ربكم يوم القيامةكما ترون القمر ليلة البدر كما ترون الشمس ليس دونها سحاب) فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يو مئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ  لَمَحْجُوبُونَ} {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي أن تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة، فلا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شيء.
وقد عرف علماء التشريح تركيب العين وأجزائها، ووظيفة كل منها في ارتسام للمرئيات فيها، كما عرفوا كثيرًا من سنن الله في النور ووظيفته في رسم صور الأشياء في العينين، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى معرفة عنه الرؤية، ولا عنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور.
قال صاحب اللسان: قال أبو إسحاق في الآية: "أعلَمَ الله أنه يدرك الأبصار، وفي هذا الأعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أن خلقًا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به .. " أ. هـ
• قلت: مما سبق ذكره في رسالة الماجستير وفي كتاب "المفسرون بين التأويل والإثبات" نلاحظ أن المراغي قد سلك مسلك متأخري الأشاعرة في تأويل الأسماء والصفات.
وعلى الرغم من تكرار بعض العبارات في رسالة الماجستير وكتاب المفسرون بين التأويل والإثبات، فإننا قصدنا من ذلك زيادة الفائدة والتنوع في مصادر النقل وخصوصًا في موضوع العقيدة؛ ولأن ذلك أدعى لتوثيق مثل هذا الأمر المهم. وبالله تعالى التوفيق.
وفاته: سنة (1371 هـ) إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف.
من مصنفاته: "تهذيب التوضيح" جزءان أحدهما في النحو والآخر في التصريف و"تفسير المراغي" في ثلاثين جزءًا و"الوجيز في أصول الفقه".







مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید