المنشورات

نظام الدين النيسابوري

المفسر المقرئ: حسن بن محمّد بن الحسين القُمِّي النيسابوري. نظام الدين، ويُقال له: الأعرج.
كلام العلماء فيه:
• روضات الجنات: "أصله وموطن أهله وعشيرته مدينة قم المحروسة، وكان منشؤه وموطنه بديار نيسابور التي هي من أحسن مدن خراسان".
ثم قال: "وبالجملة فأمره في الفضل والأدب والتبحر والتحقيق، وجودة القريحة، في متأخري علماء العامة، أشهر من أن يذكر، وأبين من أن يسطر، وكان من كبراء الحفاظ والمفسرين, وتفسيره المقدم إليه الإشارة من أحسن شروح كتاب الله الجيد، وأجمعها للفرائد البفظية والمعنوية، وأحوزها للعوائد القشرية واللبية، وهو قريب من تفسير "مجمع البيان" كمًّا وكيفًا وسمة وترتيبًا بزيادة أحكام الأوقاف في أوائل تفسير الآي، ومراتب التأويل في أواخره، والإشارة إلي جملة من دقائق النكات العربية في البين وكان من علماء رأس المائة التاسعة (1) على قرب من درجة السيد الشريف، والمولي جلال الدّواني، وابن حجر العسقلاني وقرنائهم الكثيرين من علماء الجمهور، وتاريخ إنهاءات مجلّدات تفسيره المذكور صادفت حدود ما بعد الثمانمائة والخمسين من الهجرة.
ويوجد أيضًا كما بالبال نسبة التشيع إليه في بعض مصنفات الأصحاب وكأنه شرح كتاب "من لا يحضره الفقيه" لمولانا محمّد تقي المجلسي رحمه الله تعالى عليه بناء علي اجتهاد له من جهة ما وصل إليه من علائم ذلك في ضمن التفسير معتضدًا بكونه من بلد لم يجبل إلا علي الإمامية منذ بني, وسمّي بالحسن مع كون أبيه محمّد بن الحسين مضافًا إلي أنه ذكر إسم المحقق الطّوسي رحمه الله تعالى في شرح تذكرته مع غاية التعظيم والتبجيل ووصفه فيه: بالأعلم المحقق والفيلسوف المحقق أستاذ البشر، وأعلم أهل البدو والحضر نصير الملة والدين محمّد بن محمّد بن محمّد الطوسي قدس الله نفسه، وزاد في حظائر القدس أنه، وظاهر أن أحدًا من أهل السنة لا يرضي بأن يذكر رجلًا من الشيعة بهذه الأوصاف ويدعو له بالخير" أ. هـ.
• الأعلام: "له اشتغال بالحكمة والرياضيات .. " أ. هـ.
• معجم المفسرين: "مفسر، من كبار علماء الشيعة الإمامية في عصره، أصله من مدينة قم" أ. هـ.
• قلت: والذي اعتمده صاحب معجم المفسرين في جعل المترجم له من علماء الشيعة، علي مصادر الشيعة أنفسهم لندرة ترجمته في مصادر السنة القديمة والحديثة بشكل عام، ولعدم تحري المحقق من اعتقاد وتوجه لعدد من ترجم لهم صاحب معجم المفسرين منهم النظام النيسابوري هذا، وصوف نورد التحقيق في التحقق من اتهامه بالتشيع من خلال نقلنا لمواضع من تفسيرها "غرائب القرآن"، وأيضًا ما يتوجه القول باعتقاده الذي اعتمده في الأسماء والصفات وغيرها، وذلك في السطور القادمة إن  شاء الله تعالى والله ولي التوفيق ..
قلت: إن نسبة التشيع إليه، كما ذكر صاحب روضات الجنات بقوله: ونسبة التشيع إليه في بعض مصنفات الأصحاب، وكأنه يشرح كتاب "من لا يحضره الفقيه" لمولانا محمّد تقي المجلسي ... إلي آخر كلام الخوانساري .. وأيضًا لما ذكر من شرحه لـ "تذكرة" نصير الدين الطوسي في الهيئة وغير ذلك مع أن الخوانساري ذكر بنفسه أنه: "في متأخري علماء العامة ... أي علماء السنة.
إذن الإشارة إلي تشيعه هو ما ذكرناه عن الخوانساري آنفًا، وإنّا قد اعتمدنا في تعليل ونفي إثبات التشيع له، والإمامة في التشييع والرأس فيها -كما زعموا- من مصفنها "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (1) في التفسير فتوجه لدينا مما نقلناه منه: أنه سني، معتقده علي طريقة أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية، وهو أقرب للأشعرية، مع ما يورده من نصوص للمعتزلة في تفسيره هذا كرأي آخر دون التعليق عليه في بعض المواضع؛ لأن التفسير عبارة عن نقولات كما ذكر هو ي مقدمته - من تفسيري الرازي والزمخشري، والأول أشعري المعتقد والثاني معتزلي كما هو معلوم. مع السلوك الصوفي عنده، ولعل هذا يؤيده ما قاله الدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب (2) حول تفسير القمي هذا (ص 53) من كتابه "اتجاهات التفسير في العصر الراهن": "إذا مر علي آية من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكون فإنه يخوض في أسرار الكون وكلام الطبيعيين والفلاسفة، وتساقطت إليه، هذه النزعة العلمية يتسبب مما يلي:
الأول: التفسير الكبير للفخر الرازي، الذي اختصر تفسيره منه.
والثاني: قدرته علي تأويل الآيات بلسان أهل الحقيقة، ومتفلسفة الصوفية الذين يرون أن لكل لفظة في القرآن ظهرًا واحدًا مطلقًا" أ. هـ.
ثم ذكر بعض الأمثلة لذلك، كما سوف نذكر نحن أمثلة نبين سلوكه الصوفي هذا.
وأيضًا تجدر الإشارة إلي أنه -أي النظام النيسابوري- يعتمد في أدلته الحديثية عند التفسير على الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث المعتمدة لدي السنة، ولم نجد أدلة حديثية من كتب الشيعة المعتمدة عندهم في الحديث كالكافي وغيره.
مع أننا قد تتبعنا مواضع في تفسيره هذا التي يعتمدها أئمة الشيعة في تفاسيرهم علي الولاية والغلو في آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلم نجده، قد أولها أو صرفها كما صرفت الشيعة تلك الآيات لمعتقدها وأصولها، بل فسرها بما يفسرها أهل السنة في تفاسيرهم علي اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وإليك تلك النقولات:
فمن المواضع التي تدل علي تأثره بالسلوك الصوفي وأقوال الصوفيين كما في (1/ 4) قوله في مقدمته في الدعاء والصلاة علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ومن تبعهم إلي يوم الدين:
"والصلاة والسلام علي عبيد، المخصوصين بتأييدك، المنزهين عن الأدناس الجسميَّة، المطهرين عن الأرجاس النفسية، الفائزين بأشرف مراتب الأنس، الواصلين إلي أعلي مدارج الأنس، الضاربين في أرقي معارج القدس، ولا سيما المصطفي محمّد الذي أشرق في سماء النبوة بدرًا، وأشرف على بساط الرسالة صدرًا، سيد الثقلين وسند الخافقين، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيًّا وآدم الكائن بين الماء والطين، والمعفر له جباه الأملاك، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك، صلي الله عليه وعلي آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدجنة وسلم تسليمًا كثيرًا".
وقوله نقلًا عن أهل الإشارة -أي الصوفية- في تفسيره لسورة الفاتحة (1/ 63) كلامًا عن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ":
"قال أهل الإشارة الباء حرف منخفض في الصورة، فلما اتصل بكتابة لفظ "الله" ارتفعت واستعلت. فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه".
وأيضًا: "قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا "الله" الإله وهو ستة أحرف ويبقي بعد التصرف أربعة في اللفظ: ألف ولامان وهاء، فالهمزة من أقصي الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصي الحلق، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة، والجهالة ويترقي قليلًا قليلًا في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلي آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار، أخذ يرجع قليلًا قليلًا حتى ينتهي إلي الفناء في محر التوحيد كما قيل: النهاية رجوع إلي البداية".
وقد تكلم النيسابوري حول الاسم والمسمي: ثم ذكر قول أهل التصوف وغيرهم في الرأي بالاسم الأعظم لله تعالي قوله وإليك (1/ 65): "هل لله تعالي بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالي لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول: لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبدًا، وأنه تعالي بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إداركه كما ينبغي، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقًا. فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمي بهذا اللفظ، وأيضًا إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة علي ما هو عليه، فله أن يضع لذاته اسمًا مخصوصًا لا يشاركه فيه غيره حقيقة، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكنًا فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور. فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف علي ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلي له معناه، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات. ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه علي وجوه. منهم من قال:
هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" (1) ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافيات. ومنهم من يقول: إنه الحي القيوم لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبيّ بن كعب قال له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال: الله لا إله هو الحي القيوم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليهنك العلم يا أبا المنذر" وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة، وأما القيوم فمعناه كونه قائمًا بنفسه مقوّمًا لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي. ومنهم من قال: إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها، ورد بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة، ومنهم من قال: إن الاسم الأعظم هو الله وهذا أقرب، وإننا سنقيم الدلالة علي أن هذا الاسم يجري مجري اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالًا علي ذاته المخصوصة، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ .. } إلي: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] وفاتحة سورة آل عمران {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وعن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي". ولا شك أن اسم الله في لآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا" أ. هـ.
ثم نذكر مواضع دلالته علي اعتقاد أهل الكلام وهو ظاهر في تفسيره هذا مع إيراد كلام المعتزلة أيضًا بين الحين والآخر، فقد قال في المجاز وتأويل الصفات وغيرها من أصول الأشعرية والماتريدية مذاهبهم قال في المجاز (1/ 31): "المجاز خير من الاشتراك فإطلاق الكلمة علي الكلام المركب مجازًا إما من باب إطلاق الجزه علي الكل، وإما من باب المشابهة، لأن الكلام المرتبط يشبه المفرد في الموحدة. وأفعال الله تعالى كلماته إما لأنه حدث بقوله {كن} أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك. وعند النحويين الكلمة لفظ وضع لمعني مفرد. وفائدة القيود تذكر في ذلك العلم والكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد. ومنكرو الكلام النفسي اتفقوا علي أن الكلام اسم لهذه الألفاظ والكلمات. والأشاعرة يثبتون الكلام النفسي ويقولون:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
وقد تسمي الكلمات والعبارات أحاديث لأن كل واحدة منها تحدث عقيب صاحبتها، قال تعالي: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34].
وأيضًا ننقل قوله وتأويله حول الترجيح والاعتماد، وفي تأويله لآيات الصفات علي قول الأشعرية خاصة، في بعض المواضع. فقال في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ} [الفتح: 10] (1/ 48):
"فإن اليد تحتمل القدرة والجارحة لكنها بالنسبة إلي القدرة مرجوحة فالرجحان مشترك بين النص والظاهر ويسمي بالمحكم، وعدم الرجحان مشترك بين الجمل والمؤول ويشملهما المتشابه. والنص يمتاز عن الظاهر بأنه لا يحتمل الغير، والظاهر يحتمله احتمالًا مرجوحًا، والمجمل يتميز بكونه غير مرجوح، والمؤول مرجوح، والتأويل اشتقاقه من آل يؤول أي رجح. وفي الاصطلاح، كما تقرر، حمل الظاهر علي المحتمل المرجوح فيشمل التأويل الفاسد والتأويل الصحيح؛ فإن أريد التأويل الصحيح فقط فقد زيد في الرسم بدليل مصيره راجحًا أي بحسب ذلك الدليل وإن كان مرجوحًا بحسب مفهوم اللفظ وضعًا أو عرفًا كما قلنا في اليد بمعني القدرة".
وفي المجاز قوله أيضًا: "العلاقة المعتبرة في المجاز إنما تقع بحكم الاستقراء علي نيف وعشرين وجهًا؛ منها الاشتراك في صفة ظاهرة كالأسد علي الرجل الشجاع لا علي الأبخر لخفاء ذلك. وهذا معظم أنواع المجاز لأنه إطلاق اسم الملزوم علي اللازم. وأكثر المجازات بل جميعها يرجع إلي ذلك. ومنها الاشتراك في الشكل كالإنسان للصورة المنقوشة. ومنها كونه آيلًا إلي ذلك كالخمر للعصير، أو كائنًا عليه كالعبد علي من أعتق. ومنها الجاورة مثل جري الميزاب إذ الجاري في الحقيقة هو الماء لا الميزاب المجاور له. ومنها إطلاق اسم الحال علي المحل مثل {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107] أي في الجنة لأنها محل الرحمة. ومنها عكسه كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفضض الله فاك) أي أسنانك، إذ الفم محل الأسنان. ومنها إطلاق اسم السبب علي المسبب كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بلُّوا أرحامكم ولو بالسلام" أي صلوها فإنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعار - صلى الله عليه وسلم - البلّ للوصل. ومنها عكس ذلك كقولهم للخمر إثم، ليكون الإثم مسببًا عنها. ومنها العكس نحو الجزء، نحو {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] أي أناملهم. ومنها إطلاق الكل علي {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي ذاته. ومنها اسم المطلق علي المقيد كقوله:
فيا ليت كل اثنين بينهما هوي ... من الناس قبلَ اليوم يلتقيان
أي قبل يوم القيامة. ومنها العكس كقول شريح: أصبحتُ ونصفُ الخلق علي غضبان، يريد المحكوم عليهم وظاهر أنهم ليسوا النصف سواء. ومنها اسم الخاص علي العام كقوله سبحانه {وَحَسُنَ أولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] أي رفقاء له تعالي. ومنها العكس كقوله سبحانه حكاية عن محمّد - صلى الله عليه وسلم - {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] لأن الأنبياء قبله كانوا كذلك. ومنها كون المضاف محذوفًا نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ومنها كون المضات إليه محذوفًا كقوله: (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا). أي أنا ابن رجل جلا. ومنها إطلاق اسم آلة الشيء عليه مثل {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] أي ذكرًا حسنًا، لأن اللسان آلة الذكر. ومنها إطلاق اسم الشيء علي بدله، كما يقال: فلان أكل الدم، أي دينه قال: (يأكلن كل ليلة إكافًا). أي ثمن إكاف. ومنها إطلاق النكرة للعموم كقوله عز من قائل {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} [التكوير: 14] أي كل نفس. ومنها إطلاق اسم أحد الضدين علي الآخر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] إذ جزاء السيئة حسنة، ومنه قولهم: قاتله الله ما أحسن ما قال، يريدون الدعاء له. ومنها إطلاق المعرَّف باللام وإرادة واحد منكر كقوله تعالى {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154]، أي بابًا من أبوابها وسيجيء. ومنها الحذف نحو {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، أي لئلا تضلوا. ومنها الزيادة نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11].
واعلم أن المجاز بالحقيقة فرع من فروع التشبيه؛ لأنك إذا قلت: زيد أسد، فكأنك قلت: زيد كالأسد في الجراءة، فيستدعي مشبهًا ومشبهًا به ووجه شبه بينهما".
وقال في (1/ 50): "الاستعارة نوع من المجاز لأن المستعار له، وهو زيد مثلًا في قولك: زيد أسد، يبرز في معرض المستعار منه، وهو الأسد، نظرًا إلي الدعوي. وهذا شأن العارية. وإنما جرأهم علي الدعوي ما رأوا بينهما من الاشتراك في اللازم وهو الشجاعة".
وفي (1/ 53) من مقدمته وبعد ذكر التقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة ذكرها من أجل معرفة أوجه الكلام وعلمه واصطلاحته قال: "وإذا عرفت ما ذكرنا من التقسيمات لا يخفي عليك المقصود من إيرادها لأن معاني كتاب الله تعالي منها محكم ومتشابه، ومنها مجمل ومبين، ويندرج فيهما المنسوخ والناسخ باعتبار، لأن النسخ بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي؛ ومنها عام وخاص، ومنها مطلق ومقيد؛ ومنها أمر ونهي؛ ومنها ظاهر ومؤول؛ ومنها حقيقة ومجاز؛ ومنها تشبيه وتمثيل؛ ومنها كناية وتصريح؛ ومنها الكلي والجزئي، ومنها الخبر والطلب بأقسامهما؛ ومنها الأحكام بأصنافها. ولا ريب أن تصور هذه الاصطلاحات وتذكرها في علم التفسير أمر مهم والله أعلم".
وأجابَ في مقدمته العاشرة من تفسيره (1/ 54) في أن كلام الله تعالى قديم أم لا؟ قوله: "ذكر قوم من أئمة الأمة أن كلام الله تعالى قديم بعد أن عنوا بكلامه هذه الحروف المنتظمة المسموعة أما أن كلامه تعالي هو هذه الحروف فلقوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف. وأما أنها قديمة فلأن الكلام صفة لله تعالي، ومن المحال قيام الحادث بالقديم. وأيضًا كل حادث متغير والتغير علي ذات الله تعالى وصفاته محال. وزعم قوم أن الكلام المؤلف من الحروف والأصوات يمتنع أن يكون قديمًا بالبديهة؛ وكيف لا وإنها أصوات تحدث قارنها شيئًا بعد شيء فلو قلنا: إنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى، وحالة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد. وجمع قوم بين المذهبين فقالوا: للشيء وجودٌ في الأعيان، ووجودٌ في الأذهان، ووجودٌ في العبارة، ووجودٌ في الكتابة. فللقرآن وجود عني وهو القائم بذات الله تعالى، وأنه قديم لا محالة لا يتطرق إليه شيء من صمات النقص؛ ووجود ذهني كالحفاظ للقرآن، ووجود في العبارة وهو علي لسان  القاريء؛ ووجود كتابي وهو المثبت في المصاحف. ولا ريب أن القرآن من حيثيات هذه الوجودات حادث بل القرآن إنما يطلق علي المحفوظ والمتلو والمكتوب بالمجاز من حيث إنها دالة علي الكلام القائم بذات الله تعالى.
واعلم أنه لا برهان علي أن كل صوت فإنه يقوم بجسم ولا علي أن كل حرف فإنما يقدر عليه ذو جارحة بل لعل في ذلك الشاهد فقط. فالكلام للقديم كمال قديم نطق وسمع وبصر ولا آلة ولا جارحة كما أنه إدراك وعلم من غير ما قوي وعضو، ومن لم يدركه كما ينبغي لم يدرك إدراكه كما ينبغي فلا يلومن إلا نفسه. كلامه كتاب، وكتابه صواب، وقوله فصل، وحكمه عدل، ونوره ظهور، ووجوده شهود, وعيانه بيان، والكفر بما سواه إيمان {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
وفي (1/ 64) حول ذكره للاسم والمسمي وقول العلماء والمذاهب في تعريفهم لهما يميل ويؤيد قول الأشعري في ذلك حيث قال: "قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري: إن الاسم غير المسمي وغير التسمية وهو حق، لأن الاسم قد يكون موجودًا والمسمي معدومًا كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضح لها أسماء، ولأن الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمي واحدًا كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين، أو بالعكس كالأسماء المشتركة، ولأن كون الإسم اسمًا للمسمي وكون المسمي مسمي له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، والمضافان متغايران لا محالة. ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالمًا بنفسه لأنهما متغايران اعتبارًا، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمي قد يكون باقيًا بل واجب الوجود لذاته، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة. وقال المعتزلة: الاسم نفس المسمي لقوله تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] مكان "تبارك ربك": والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي. وأيضًا قد يزاد لفظ الاسم مجازًا كقوله: إلي الحول ثم اسم السلام عليكما. قالوا: إذا قال الرجل: زينب طالق. وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعًا. قلنا: المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها، والتسمية أيضًا مغايرة للمسمي وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا".
وأيضًا قال في تأويله لصفات أخرى (1/ 66): "ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق علي كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث: ثنتين في ذات الله) (1) -أي في طلب مرضاته- ومنها النفس قال تعالي: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أنت كما أثنيت علي نفسك) أي علي ذاتك وحقيقتك. ومنها الشخص قال: (لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين) (ولا شخص أحب إليه المدحة من الله" (1)، والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها. ومنها النور قال عز من قائل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره. وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلًا وأبدًا، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلي الوجود. فإن هو نور الأنوار تعالي وتقدس".
وقال أيضًا: "وقيل في حديث آخر: (لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم علي صورة الرحمن) المراد من الصورة الصفة كما يقال: صورة هذه المسألة كذا أي خلقه علي صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفًا في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالي نافذ القدرة في جميع العالم. ويمكن أن يقال: الصورة إشارة إلي وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة. ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعني موجود لا في موضع، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلي محل يقوم به ويستغني المحل عنه، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائدًا علي ماهيته. وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعني آخر وهو كونه قائمًا بذاته غير مفتقر إلي شيء في شيء أصلًا لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه. ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا الجسمة، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي، وإن أرادوا معني يليق بذاته من كونه موجودًا قائمًا بالنفس غنيًّا عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع. ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي وثبوته الدال عليه لفظا "إن" ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع. ومنها الحق فإنه تعالي أحق الأشياء بهذا الاسم، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة".
وقال في الصفات أيضًا (1/ 68): "الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود. الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحدًا من جميع جهاته, ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم  شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير، والصفة مفتقرة إلي الموصوف محال، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة، ومحال أن يكون هو الله تعالى لأنه قابل لها فلا يكون فاعلًا لها، لأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود. حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالمًا قادرًا حيًّا، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا: "ذات الله تعالى ذات" وبين قولنا: "ذاته عالم قادر" وذلك يدل علي المغايرة بين الذات وهذه الصفات. وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول: العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور" إلي آخر كلامه.
وله كلام طويل حول أقسام الصفات الحقيقية والسلبية وغيرها ونذكر قوله أيضًا (1/ 71) حول العلم واشتراكه: "والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضًا صدور الأشياء عنه كما ينبغي. واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلي الغير بطرق خفية عجيبة، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء. ومنها ما يرجع إلي الكلام {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلَّا وَحْيًا) [الشوري: 51] {وَإذْ قَال رَبُّكَ) [البقرة: 30] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 30] {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النساء: 122] {إنَّمَا أمْرُهُ} [يس: 81] {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء: 58] {وَعْدَ اللهِ حَقًّا} [النساء: 122] {فَأَوْحَي إلَي عَبْدِهِ مَا أوْحَي} [النجم: 9] {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] {كَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الدهر: 22] وذلك أنه أثني علي عبده بمثل قوله {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18] وهذا صورة الشكر. ومنها ما يرجع إلي الإرادات {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] رضي الله عنهم أي صار مريدًا لأفعالهم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] يريد إيصال الخير إليهم {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: 38]. الأشعرية: الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل. المعتزلة: له صفة أخرى غير الإرادة. ومنها ما يرجع إلي السمع والبصر {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] , وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين: أحدهما أنه سابق علي غيره، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقي بعد غيره ولا يبقي بعد غيرهن، وكالقيوم فإنه الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر هو إلي غيره، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية. وأما الاسم الدال علي مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام علي غير الله وأما الله، فسيأتي أنه اسم علم. وقد بقي ها هنا أسماء يطلقها عليه تعالي أهل التشبيه ككونه متحيزًا أو حالًا في المتحيز استبعادًا منهم أنه كيف يكون موجود خاليًا عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس  بحال للزوم الافتقار".
وقال عن الكرسي في سورة البقرة (2/ 15): "فقال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي" أي: لم يحتمل غير ذلك وأما "الكرسي" فأصله من التركب والتلبد، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها علي بعض، والكراسة لتراكب بعض أوراقها علي بعض، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته. وللمفسرين في معناه ها هنا أقوال: فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه. وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا. وعن السدي أنه تحت الأرض. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت عليّ ما لا يفضي إلي التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالي. وههنا أسرار لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبدًا من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل: المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات، والعرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه؛ فإن الملك مكانه الكرسي. وقيل: المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضًا العلم هو الأمر المعتمد عليه. ومنه يقال للعلماء: كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض. وقيل: المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد. واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره: أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم، فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتًا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم. وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك. وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين. وعلي هذا القياس أثبت لنفسه عرشًا فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] ووصف عرشه فقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ثم قال {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] ثم قال {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ .. ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ثم أثبت لنفسه كرسيًا. ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي".
وقال في (2/ 613) حول صفة اليد: " {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قيل: في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون علي أنا لا نقول ذلك، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة؛ لأن الله اسم لموجود قديم قادر علي خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة. والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم، فلعل القوم قالوا هذا علي سبيل الإلزام فإنهم لما  سمعوا قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} قالوا من احتاج إلي القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في غاية الفقر والضر قالوا: إن إله محمد كذلك. وقال الحسن: أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالي غير معذب لهم إلي هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل: لعلهم كانوا علي مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالي موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا علي نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره علي غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون: كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء علي جهة النعت بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه، فأطلقوا اسم السبب علي المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط سبط البنان رطب الأنامل، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع: ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد:
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
فجازاهم الله تعالى بقوله: {غلت أيديهم} وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا من أبخل خلق الله وأنكدهم، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 29].
وقال: "ولا شك أن اليد بمعني الجارحة في حقه تعالي محال للدليل الدال علي أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلي الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين علي سبيل الاصطفاء لقوله: {لما خلقت بيدي} [ص: 75] والمراد تخصيص آم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10]. وبإثبات اليدين أخرى كلما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى: {مما عملت أيدينا أنعاما} [يس: 71] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطي بيديه فقد أعطي علي أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو المراد نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمته علي أهل اليمين ونعمته علي أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو: لبيك وسعديك معناه إقامة علي طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة  والسخاء فقال: {يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} وفيه أنه لا ينفق إلا علي مقتضي الحكمة وقانون العدالة وعلي حسب المشيئة والإرادة، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئًا أو اعترض علي فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلي ما لا يليق به".
وقال في الاستواء (3/ 246): "أما قوله سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فحمل بعضهم الاستواء علي الاستقرار وزيف بوبجوه عقلية ونقلية منها: أن استقراره علي العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد بالمعين يستند لا محالة إلي محدث مخصص فلا يكون واجبًا. ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون الإله تعالي نورًا غير متناهٍ ويراد باستقراره علي العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوي، ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف، بل علي نحو آخر تعوزه العبارة. ومنها أنه تعالي لو كان في مكان وجهة لكمان إما أن يكون غير متناهٍ أو متناهيًا من بعضدها دون بعض. وعلي الأول يلزم اختلاطه بحميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره، وعلي الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان. وعلي الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالي. وأما إن كان متناهيًا من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهرًا فردًا لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها. وكذا الكلام فيه إن كان متناهيًا من بعض الجهات، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب قديمًا أزليًا فاعلًا للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟ وأيضًا يصح علي الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلي غير المتناهي أن يكون متناهيًا، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما يصح علي واحد منها صح علي الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق علي ذاته تعالي فيكون ممكنًا محدثًا لا واجبًا قديمًا. ولقائل أن يقول: إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلًا للعالم ولا حالًا فيه، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقرًا إلي المحل. وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني. ومنها أنه لو كان الباري تعالي حاصلًا في المكان والجهة لكان الأمر المسمي بالجهة إما أن يكون موجودًا مشارًا إليه أو لا يكون. فإذا كان موجودًا كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضًا بعد امتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالي أزليًا ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزليًا، وإن لم يكن موجودًا لزم كون العدم المحض ظرفًا لغيره ومشارًا إليه بالحس وذلك باطل. واعترض بأن ذلك أيضًا وارد عليكم في قولكم: "الجسم حاصل في الحيز والجهة". وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعني بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض".
ثم قال في ذات الله تعالى: "فلو اختص ذاته تعالي بحيز معين لكان اختصاصه به لمختص مختار، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولي بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف".
وقال أيضًا: "وإن لم يكن حالًا ولا محلًا كان أجنبيًا مباينًا فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال، وعلي التقدير الثاني -وهو أن ذاته تعالي لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه- لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال، فالمقدم وهو كونه تعالي في حيز محال".
وقال في (3/ 250): "ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئًا من الحجم والجرم والكثافة والرزانة. وقلت: في الاستقراء نزاع إنه صحيح تام أولًا، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالي شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته. وههنا حجج قد أوردت في أوائل صورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي - رضي الله عنه - في تفسيره الكبير، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقادًا للتشبيه والتجسم أو تقليدًا لأولئك الأقوام بل تشحيذًا للذهن وتقريبًا إلي المعارف والحقائق وجذبًا بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد الله الموفق للرشاد. ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال".
ثم قال في الاستواء بعدها (3/ 251): "فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبيًا عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر علي العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء علي المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقًا أو بعوضًا صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالًا علي المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمي السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقًا لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته صبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الرعد: 16] هذا ولغير الموسومين بالجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعاليًا عن المكان والجهة ثم الوقوت عن تأويل الآية وتفويض علمها إلي الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه: أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلي علي الملك. 

وثانيها: أن "استوي" كقول الشاعر:
قد استوي بشر علي العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوي علي عرشه واستقر علي سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضده خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد.
فالله تعالى دل علي ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالي لا يخفي عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين المكونات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وكذا القول في كل صفاته.
وإذا أخبر أن له بيتًا يجب علي عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعًا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك الببت مسكنًا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه.
وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوي علي العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوي علي عرش الملك والجلال. ومعني التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم: العرش لغة هو البناء والعرش الباني قال تعالي: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 18] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلي تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها".
وقال في صفة الساق في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] (6/ 340): "احتجت المشبهة علي أن لله ساقًا وأيدوه بما يروي عن ابن مسعود مرفوعًا أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه، فأما المؤمنون فيخرون سجدًا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} حال كونهم {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين علي خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل علي هيآتها المؤدية للركوع والسجود.
وقال أهل السنة: الدليل الدال علي أنه تعالي منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل علي أن الساق لم يرد بها الجارحة، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله.
"وقامت الحرب بنا علي ساق". ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفافم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح "يده مغلولة" ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله. قال في الكشاف: ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن.
وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة علي أنه أمر فظيع هائل: قلت: الإنصاف أن هذا لا يرد علي المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنه عظمتها كما يقول غيره. وقال أبو سعيد الضرير: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، فمعني الآية يوم تظهر حقائق الأشياء وأصولها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب. وقال أبو مسلم: هذا في الدنيا لأنه تعالي قال في وصف ذلك اليوم {وَيُدْعَوْنَ إلَي السُّجُودِ} ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع تري الناس يدعون إلي الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسًا إيمانها. والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفًا فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف. ولكن لا مانع من الدعاء إلي السجود للتوبيخ والتفضيح علي رؤوس الأشهاد. وقال الجبائي: لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل علي أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له علي الإيمان، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضًا غير حاصلة على قول الجبائي. والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالي لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل".
وقال في صفة الرؤيا (6/ 404) من سورة القيامة في قوله تعالى {إلَي رَبِّهَا نَاظِرَة، وَوُجُوهٌ يَؤمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}: "شديدة العبوس {تَظُنُّ أن يُفْعَلَ بهَا فاقِرَةٌ} فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير. قال الأصمعي: الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلي العظم أو يقرب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير، ومنه قيل: عملت به الفاقرة. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه. واعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية علي إمكان رؤية الله تعالي في الآخرة بل علي وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعني الرؤية فهو المطلوب. وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالي محال لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله علي مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما المعتزلة فزعموا أن النظر المقرون بـ "إلي" إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ويقال: دور فلان متناظرة أي متقابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في  حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر علي الانتظار أي منتظرة ثواب ربها كقولك: أنا ناظر إلي فلان ما يصنع فيّ. والانتظار إذا كان في شيء متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح. واعترض بأن النظر إذا كان بمعني الانتظار لا يعدّي بـ "إلي" كقوله {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظرًا للشخص، أما إذا كان منتظرًا لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقرونًا بإلي كقول الرجل: إنما نظري إلي الله ثم إليك. وقد يقول الأعمي: عني ناظرة إليك. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون "إلي" واحد الآلاء أي نعمة ربها منتظرة، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون إلا إلي نعمة الله ورحمته، قال في الكشاف: وهذا المعني أعني إفادة الاختصاص أحد الدلائل الدالة، علي أن النظر ها هنا ليس بمعني تقليب الحدقة ولا بمعني الرؤية لأنهم ينظرون إلي أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر علي معني يصح معه الاختصاص وهو التوقع والرجاء. وحين وصف القيامة الكبري أتبعه نعت القيامة الصغري فروّعهم عن إيثار العاجلة علي الآجلة، وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة من منازل الآخرة".
وقال في المجيء (6/ 498) في قوله تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ}: "أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو دلائل قدرته. ويجوز أن يكون تمثيلًا لهول ذلك اليوم كما إذا حضر الملك بنفسه وجنوده كان أهيب وتنزل ملائكة كل سماء" أ. هـ.
• قلت: هذه بعض المواضيع التي تبين عقيدة النظام اليسابوري من خلال ما أوردناه وكما ذكرنا سابقًا، ومن أراد المزيد فليراجع تفسيره ... وبالله التوفيق.
أما نسبته إلي التشيع فهذا بعيد عن الصحة، أو ضعيف في موقف صاحب تراجم الشيعة، وكتبهم في نسبته إلي التشيع، فمن تفسيرها "غرائب القرآن" ومن مواضع اعتمدها مفسرو الشيعة وعلمائهم في صرفها إلي معتقدهم وأصولهم للغلو بآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود عندهم الإمام علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، في تأويل الآيات لهم وفي ولاية أبنائهم من بعدهم والحبُّ الغالي فيهم. إذن فالنظام النيسابوري لم يفسر تلك الآيات المعتمدة لدي الشيعة كما فعلوا هم، بل فسَّرها كما ورد في تفاسير أهل السنة، وسوف ننقل بعضًا من الآيات التي فسرها النظام النيسابوري والتي يصرفها أئمة الشيعة في تفاسيرهم إلي معتقدهم في أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأئمتهم وولايتهم وغير ذلك من معتقدائهم.
قال النظام النيسابوري في تفسير قوله تعالى من سورة النساء (56): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2/ 434): "ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة علي الرعاة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} الآية. عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: حق علي الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق علي الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة.

وقالت الأشاعرة: الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادًا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلًا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير: هذه آية مشتملة علي كثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة: الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وليس العطف للمغايرة الكلية، ولكن الكتاب يدل علي أمر الله، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل علي أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلي الاجماع بقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} لأنه تعالي أمر بطاعتهم علي سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصومًا لأن لو احتمل إقدامه علي الخطأ والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها علي ما يقول الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون، أو علي ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون، أو علي ما روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية. أو علي ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلي الثاني أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم والاستفادة منه، فلو وجب علينا طاعته علي الإطلاق لزم تكليف ما لايطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطًا، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق علي أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة. فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معًا وهو باطل. وأيضًا الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد، ولفظ أولي الأمر جمع".
وقال في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] (3/ 596): "التركيب يدل علي القرب فكأنهم قربوا منه تعالي لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله. قال أبو بكر الأصم: هم الذين تولي الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيًا بالاعتقاد الصحيح المبني علي الدليل, ويكون آتيًا بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم أجازيه عليها غدًا إذا لقيني يوم القيامة، وكان يقول (فاطمة بضعة مني يؤذني ما يؤذيها) (1)، وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب عليًّا والحسن والحسين، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقول {فَاتِّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]

وكفي شرفًا لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفخرًا ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة. قال بعض المذكرين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق) وعنه - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، فنحن نركب سفينة حب آل محمّد - صلى الله عليه وسلم - ونضع أبصارنا علي الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة. ثم أكد إيصال الثواب علي المودة بقوله {وَمَن يَقْتَرفْ حَسَنَةً} أي يكتسب طاعة، قال بعض أهل اللغة: الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره ها هنا للخير. عن السدي أنها المودة في آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصدًا أوليًّا لذكرها عقيبها" أ. هـ.
أما قوله في قوله الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] (5/ 460): "فاستعار للذنوب الرجس، وللتقوي الطهر، وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير؛ لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد و {أهْلَ الْبَيتِ} نصب علي النداء أو علي المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل عباء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أصل، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنها بالاتفاق. والصحيح أن عليًّا - رضي الله عنه - منهم لمعاشرته بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وملازمته إياه. وورود الآية في شأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يغلب علي الظن دخولهن فيهن، والتذكير للتغليب. فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا علي فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين. ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة".
وقال أيضًا (6/ 73) في قوله تعالى: " {لا أسْألُكُمْ عَلَيهِ} علي هذا التبليغ {أجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ} الكائنة {فِي الْقُرْبَي} جعلوا مكانًا للمودة ومقرًا لها ولهذا لم يقل "مودة القربي" أو "المودة للقربي" وهي مصدر بمعني القرابة أي في أهل القربي وفي حقهم. فإن قيل: استثناء المودة من الأجر دليل علي أنه طلب الأجر علي تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في "الشعراء". وقد جاء في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - أيضًا {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر علي أداء الواجب لا يليق بالمروءة. وأيضًا أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة. قلنا: إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه، وأما الآخرون فمنهم من قال: الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى: لا أطلب منكم أجرًا إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجرًا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] ومنهم من قال: الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجرًا البتة، ولكن أذكركم المودة في القربي، وفي تفسير {الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَي) أربعة أقوال:
الأول: قال الشعبي: كثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلي ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله: {قل لا أسألكم} علي ما أدعوكم إليه أجرًا إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإن قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربي ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي.
القول الثاني: روي الكعبي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله علي يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا. ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية تحثهم علي مودة أقاربهم وصلة أرحامهم.
القول الثالث: عن الحسن: إلا أن تودوا إلي الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح.
الرابع: عن سعد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام، ويؤيده ما روي أن عليًّا شكا إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسد الناس فيه فقال: أما ترضي أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسن وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه - صلى الله عليه وسلم -: (حرمت الجنة علي من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلي أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا {الَّذِينَ آمَنُوا})، وهو إشارة إلي كمال حال القوة النظرية {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وهو إشارة إلي كمال حال القوة العملية.
ها هنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان علي مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقيًا في كل الأحوال، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصورًا علي ما عرفه أو يكون كما وصفه، وأما في مقام العمل فإن يري عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبدأ في الخوف والدهشة. وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة.
وعن سعيد بن جبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم. يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة. وعن عمر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن من عباد الله عبادًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: هم قوم تحابوا في الله علي غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ الآية") (1).
وقال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5] التي اعتمد الشيعة في تأويلها عن أساس إباحة المتعة عندهم، حيث قال في تفسيرها (5/ 110): "والمعنى أنهم مستمرون علي حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه {غَيرُ مَلُومِينَ} كأنه قيل: يلامون علي كل من يباشرونه إلا علي أزواجهم لأنهم غير ملومين عليهن".
ثم قال في الآية التي بعدها: {فَمَنِ ابْتَغَى} أحدًا {وَرَاءَ ذَلِكَ} الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما شاء من الإماء وكفي به حدًّا فسيحًا {فَأُولَئِكَ هُمُ} الكاملون في العدوان المتناهون فيه.
قيل: لا دليل فيه علي تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ولو ورثت منه لقوله {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ} [النساء: 12] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر علي الإطلاق لأنه ليس موضع حرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله "لا صلاة إلا بطهور" ولا نكاح إلا بولي"، لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية.
والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره".
ونذكر الآن ما قاله في حادثة الإفك من سورة النور (الآية: 11)، وسبب نزول هذه الآية (5/ 166): "إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق".
ثم ذكر الأحاديث التي رويت في حادثة الإفك عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه -، وقد دافع عنها وجاء بتفسير الآية، ما اعتمده وفسَّره أهل السنة والجماعة، والرد علي من طعن في زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطاعنين من الشيعة خاصة وغيرهم من فرقهم ومن نحي منحاهم، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
حتى قال بعد أن ذكر تفسير الآية وذكر القصة ودواخلها (5/ 168): "قال العلماء: يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات البتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة".
حتى قال بعد كلام طويل في ذلك: "وهذا القدر كافٍ في التزام أولئك الطاعنين، وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلي هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفًا".
ثم استبشع القاذف في محصنات المسلمين، وخاصة أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (5/ 169): "والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذت زوجة النبي، وخاصة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا قال: {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} " أ. هـ.
• قلت: فبعد هذا، من أين يكون تشيعه، وقد ذكر الدكتور (محمد حسين الذهبي) في كتابه "التفسير النيسابوري قوله: "وليس في تفسير النيسابوري ما يدل علي تشيعه"، ثم قال: "وعلي كثرة ما قرأت في هذا التفسير لم أقع علي نص منه يدل علي تشيع مؤلفه" أ. هـ. ثم يتكلم الدكتور في عدم الدلالة عن ذلك ولعل ما ذكرناه من صرف مصنفي الشيعة، أهل العلم عن جميع مذاهبهم، إن وجد فيه أدني قول بتشيعه أو انتساب مؤلف له في ذكر آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي معتقدهم، أو شرح أحد كتب أئمتهم، أنهم من أهل التشيع، وذلك عندهم -أي مصنفي الشيعة- يسير، وفي ما يقولونه عليهم عسير، والله تعالي الهادي إلي خير السبيل.
وفاته: بعد سنة (850 هـ) (1) خمسين وثمانمائة.
من مصنفاته: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" يعرف بتفسير النيسابوري، و"لب التأويل)، و"أوقات القرآن" وغير ذلك.







مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید