المنشورات

ويكون وجه الشبه مفصلا ومجملا

أ- فالتشبيه المفصل: هو ما ذكر فيه وجه الشبه، وذلك نحو قول الشاعر كم وجوه مثل النهار ضياء … لنفوس كالليل في الإظلام
فالبيت هنا فيه تشبيهان وجه الشبه في الأول «ضياء» وفي الثاني «الإظلام» وكلاهما مذكور في التشبيه.
قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحس … ن وفي بعد المنال
جد فقد تنفجر الصخ … رة في الماء الزلال
فالمشبه هو الحبيب والمشبه به البدر ووجه الشبه هو اشتراك الطرفين في صفتي الحسن وبعد المنال، وكلتاهما مذكورة في التشبيه.
وقول آخر:
أنت كالبحر في السماحة، والش … مس علوا، والبدر في الإشراق
فهذا البيت يشتمل على ثلاثة تشبيهات ذكر في كل منها وجه الشبه، وهو في التشبيه الأول «السماحة» وفي الثاني «العلو» وفي الثالث «الإشراق».
فكل تشبيه من التشبيهات التي تضمنتها هذه الأمثلة تشبيه مفصّل، لأن وجه الشبه قد ذكر فيه.
ب- والتشبيه المجمل: هو ما حذف منه وجه الشبه، وذلك نحو قول الشاعر:
وكأن إيماض السيوف بوارق … وعجاج خيلهم سحاب مظلم (1)
ففي البيت تشبيهان: تشبيه إيماض السيوف بالبرق في الظهور وسرعة الخفاء، وتشبيه عجاج الخيل بالسحاب المظلم في سواده وانعقاده في الجو. ووجه الشبه في كليهما محذوف، ولهذا فهو تشبيه مجمل.
ومن التشبيه المجمل ما وجه شبهه ظاهر يفهمه كل أحد حتى العامة كالمثال السابق، وكقولنا: زيد أسد، إذ لا يخفى على أحد أن المراد به التشبيه في الشجاعة دون غيرها.
ومن التشبيه المجمل ما وجهه خفيّ لا يدركه إلّا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة، كقول فاطمة بنت الخرشب عند ما سئلت عن بنيها أيهم أفضل فقالت: «عمارة، لا بل فلان، لا بل فلان. ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل. هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها».
فمعنى ذلك أن أبناءها لتناسب أصولهم وفروعهم وتساويهم في الشرف يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها وتساويها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا.
فتشبيه أبناء بنت الخرشب بالحلقة المفرغة تشبيه مجمل، ووجه شبهه المحذوف هو تعذر بل استحالة تعيين أوليّة أو أفضلية أشياء متناسبة متساوية، أو هو التناسب المانع من تمييز يصح معه التفاوت. فهذا الوجه المحذوف
والذي يشترك فيه طرفا التشبيه أمر خفيّ لا يستطيع إدراكه إلا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة، كما ذكرت آنفا.
ومن التشبيه المجمل ما لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به، أي الوصف المشعر بوجه الشبه، ومن هذا النوع: تشبيه إيماض السيوف بالبوارق، وتشبيه زيد بالأسد السابقين.
ومنه ما يذكر فيه وصف المشبه به وحده، كتشبيه عجاج الخيل بالسحاب المظلم، وتشبيه أبناء بنت الخرشب بالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها ومن هذا النوع أيضا، أي التشبيه المجمل الذي ذكر فيه وصف المشبه به وحده قول زياد الأعجم:
وأنا وما تلقي لنا إن هجوتنا … لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق
وقول النابغة الذبياني:
فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومن التشبيه المجمل ما ذكر فيه وصف كل من المشبه والمشبه به، كقول أبي تمام في مدح الحسن بن سهل:
صدفت عنه ولم تصدف مواهبه … عنيّ، وعاوده ظني فلم يخب
كالغيث إن جئته وافاك ريّقه … وإن ترحلت عنه لجّ في الطلب (1)
فالتشبيه هنا هو: «الممدوح كالغيث» والبيت الأول مشتمل على وصف المشبه وهو الممدوح، والبيت الثاني مشتمل على وصف المشبه به وهو الغيث، وكلا الوصفين مشعر بوجه الشبه المحذوف، وهو عدم التخلص من كليهما على أي حال.
3 - ويكون قريبا وبعيدا:
كذلك يكون التشبيه باعتبار الوجه قريبا وبعيدا. والمراد بالقريب القريب المتبذل، وبالبعيد البعيد الغريب.
فالقريب المتبذل: هو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر، وذلك لظهور وجهه في بادئ الرأي.
وسبب ظهوره أمران: الأول كون الشيء جمليا، فإن الجملة أسبق دائما إلى النفس من التفصيل. ألا ترى أن الرؤية
لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل لكن على الجملة، ثم على التفصيل؟ ولذلك قيل النظرة الأولى حمقاء، وفلان لم يمعن النظر. وكذلك الشأن بالنسبة لسائر الحواس، فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق والشم واللمس في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى.
فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة أشياء يريد تمييزه مما اختلط به، ومن يريد الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا من غير تدقيق نظر. وكذلك حكم ما يدرك بالعقل، ترى الشيء يسبق دائما إلى الذهن إجمالا، أما التفاصيل فمغمورة في الإجمال لا تحضر وتنكشف إلا بعد إعمال الرؤية.
والأمر الثاني في ظهور وجه الشبه في بادئ الرأي كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن، إما عند حضور المشبه لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل وفي المقدار، وإما مطلقا لتكرره على الحس، كتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة في الاستدارة والاستنارة؛ فإن قرب المناسبة والتكرر كل واحد منهما يعارض التفصيل لاقتضائه سرعة الانتقال.
والبعيد الغريب: هو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر، وذلك لخفاء وجهه في بادئ الرأي.
وسبب خفائه أمران: أحدهما كونه كثير التفصيل، كقول الراجز:
«والشمس كالمرآة في كف الأشل». فوجه الشبه في هذا التشبيه هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة مع تموّج الإشراق واضطرابه بسبب تلك الحركة حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض. فالشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدية إلى هذه الهيئة، وكذلك المرآة إذا كانت في كف الأشل. فالهيئة التي يتركب منها وجه الشبه هنا لا تقوم في نفس الرائي للمرآة الدائمة الاضطراب إلا بعد تأمل وطول نظر وتمهل.
والأمر الثاني لخفاء وجه الشبه في بادئ الرأي هو ندرة حضور المشبه به في الذهن، أما عند حضور المشبه لبعد المناسبة بينهما كتشبيه البنفسج بنار الكبريت في قول الشاعر:
ولا زورديّة تزهو بزرقتها … بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها … أوائل النار في أطراف كبريت
فإن لازورديّة وهي البنفسجة شبهت بالنار في أطراف كبريت، ومعلوم أن الشيء الطبيعي الذي يتبادر إلى الذهن بسرعة عند حضور «اللازوردية» فيه هو الأزهار والرياحين التي هي من جنسها لا أوائل النار في أطراف
الكبريت. ولما كان الانتقال من البنفسج إلى النار المذكورة بعد التأمل وطول النظر كان التشبيه غريبا.
وإما أن تحصل ندرة المشبه به حصولا مطلقا من غير تقيد بوقت حضور المشبه لكونه وهميا، كما مضى من تشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال، أو لكونه مركبا خياليا كتشبيه أزهار الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد، أو لكونه مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا فإن كلّا سبب لندرة حضور المشبه به في الذهن، أو لقلة تكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، فقد يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل. فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين هما: كثرة التفصيل في وجه الشبه، وقلة التكرار أو الورود على الحس

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید