المنشورات

‌‌أغراض التشبيه

قد يلجأ الكاتب أو الشاعر في التعبير إلى أسلوب التشبيه لشعوره بأنه أكثر من غيره في إصابة الغرض ووضوح الدلالة على المعنى.
وأغراض التشبيه منوعة، وهي تعود في الغالب إلى المشبّه، وقد تعود إلى المشبّه به. وهذه الأغراض هي:
1 - بيان إمكان وجود المشبّه: وذلك حين يسند إلى المشبه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له.
مثال ذلك قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإن المسك بعض دم الغزال
فالتشبيه هنا ضمني، وفيه ادّعى الشاعر أن المشبّه وهو الممدوح مباين لأصله بصفات وخصائص جعلته حقيقة
منفردة. ولما رأى غرابة دعواه وأن هناك من قد ينكر وجودها احتجّ على صحتها بتشبيه الممدوح بالمسك الذي أصله دم الغزال.
ومن أمثلة ذلك أيضا قول البحتري:
دان إلى أيدي العفاة وشاسع … عن كل ندّ في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه … للعصبة السارين جدّ قريب
ففي البيت الأول وصف الشاعر ممدوحه بأنه قريب للمحتاجين، بعيد المنزلة، بينه وبين نظرائه في الكرم والندى بون شاسع. ولكن الشاعر حينما أحسّ أنه وصف ممدوحه بوصفين متضادين، هما القرب والبعد في وقت واحد، أراد أن يبينّ أن ذلك ممكن، وأن ليس في الأمر تناقض، ولهذا شبّه الممدوح في البيت الثاني بالبدر الذي هو بعيد في السماء، ولكن ضوءه قريب جدا للسارين بالليل. فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو بيان إمكان وجود المشبّه.
2 - بيان حال المشبه: وذلك حينما يكون المشبه مجهول الصفة غير معروفها قبل التشبيه، فيفيده التشبيه الوصف.
ومن أمثلة ذلك قول النابغة الذبياني:
فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
فالنابغة يشبه ممدوحه بالشمس، ويشبّه غيره من الملوك بالكواكب، لأن عظمة ممدوحه تغضّ من عظمة كل ملك كما تخفي الشمس الكواكب. ولما كانت حال الممدوح وغيره من الملوك، وكلّ منهما مشبّه، مجهولة غير معروفة، فقد أتى بالمشبّه به لبيان أن حال الممدوح مع غيره من الملوك كحال الشمس مع الكواكب، فإذا ظهر أخفاهم كما تخفي الشمس الكواكب بطلوعها.
ومن أمثلته أيضا قول ابن الرومي حبر أبي حفص لعاب الليل … يسيل للإخوان أيّ سيل
فالمشبّه هنا هو حبر أبي حفص أو مداده، والمشبّه به هو لعاب الليل أي سواده. فالمشبه وهو الحبر مجهول الحال أو الصفة لأن للحبر أكثر من لون. ولذلك التمس ابن الرومي له مشبها به هو لعاب الليل الأسود لبيان حاله. فبيان
حال المشبه إذن غرض من أغراض التشبيه.
3 - بيان مقدار حال المشبه: أي مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان، وذلك إذا كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة. وذلك نحو قول عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة … سودا كخافية الغراب الأسود
فعنترة يخبر في هذا البيت بأن حمولة أهل محبوبته تتألف من اثنتين وأربعين ناقة تحلب، ثم وصف هذه النوق بأنها سود، والنوق السود هي أنفس الإبل وأعزّها عند العرب.
ولبيان مقدار سواد هذه النوق شبّهها بخافية الغراب الأسحم، أي جناحه الأسود. فالغرض من التشبيه بيان مقدار حال المشبّه.
ومن قول المتنبي في وصف أسد:
ما قوبلت عيناه إلا ظنّنا … تحت الدجى نار الفريق حلولا
فالمتنبي يصف عينيّ الأسد في الليل بأنهما محمرّتان، ولبيان مقدار احمرارهما لمن يراهما في الليل عن بعد يشبههما بنار لفريق من الناس حلول مقيمين. وقد اضطر المتنبي إلى التشبيه ليبينّ هذا الاحمرار وعظمه، أي ليبينّ مقدار حال المشبه. وهذا غرض من أغراض التشبيه ومنه كذلك قول ابن شهيد (1) الأندلسي يصف برغوثا: «أسود زنجيّ. أهليّ وحشيّ … كأنه جزء لا يتجزأ من ليل، أو نقطة مداد، أو سويداء فؤاد …» فالغرض من التشبيهات الثلاثة هنا هو بيان مقدار حال المشبه، لأنه لما وصف البرغوث بالسواد أراد أن يبيّن مقدار هذا السواد.
فالغرض من التشبيه عند عنترة والمتنبي وابن شهيد هو بيان مقدار حال المشبه، أي بيان مقدار صفته المعروفة فيه قبل التشبيه معرفة إجمالية.
4 - تقرير حال المشبه: أي تثبيت حاله في نفس السامع وتقوية شأنه لديه، كما إذا كان ما أسند إلى المشبه يحتاج إلى التأكيد والإيضاح بالمثال؛ وذلك نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ.
فالآية الكريمة تتحدث في شأن عبّاد الأوثان الذين يتخذون آلهة غير الله، وتصفهم بأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم، ولا يعود عليهم دعاؤهم إياهم بفائدة. وقد أراد الله سبحانه أن يقرّر هذه الحال ويثبتها في الأذهان، فشبّه هؤلاء الوثنيين بمن يبسط كفّيه إلى الماء ليشرب فلا يصل الماء إلى فمه بداهة، لأنه يخرج من خلال
أصابعه ما دامت كفّاه مبسوطتين. فالغرض من التشبيه هنا تقرير حال المشبه.
ومن أمثلة هذا الغرض أيضا قول الشاعر:
وأصبحت من ليلى الغداة كقابض … على الماء خانته فروج الأصابع
فحال الشاعر مع صاحبته ليلى هي حال من كلما دنا منها بعدت عنه، أو حال من كلما أوشك أن يظفر بها أفلتت منه، وقد أراد الشاعر أن يقرر هذه الحالة ويوضّحها فشبّهها بحال القابض على الماء يحاول إمساكه والظفر به فيسيل ويخرج من بين أصابعه.
فالغرض من هذا التشبيه أيضا تقرير حال المشبه. ومما يلاحظ على هذا الغرض أنه لا يأتي إلا حينما يكون المشبه أمرا معنويا، لأن النفس لا تسلّم بالمعنويات تسليمها بالحسيّات، ومن أجل ذلك تكون في حاجة إلى الإقناع.
وأغراض التشبيه الأربعة السابقة، وهي: بيان إمكان وجود المشبّه، وبيان حاله، وبيان مقداره، وتقرير حاله، تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتم وهو به أشهر؛ إذ على تمام وجه الشبه في المشبه به واشتهاره به يكون حظ التشبيه في تحقيق الغرض بالنسبة للمشبّه.


5 - تزيين المشبّه: ويقصد به تحسين المشبّه والترغيب فيه عن طريق تشبيهه بشيء حسن الصورة أو المعنى.
ومن أمثلة ذلك قول الشريف الرضي:
أحبّك يا لون الشباب لأنني … رأيتكما في القلب والعين توأما (1)
سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه … فلم أدر من عزّ من القلب منكما؟
فالشريف الرضي في قوله: «سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه» يشبّه حبيبته بحبة القلب السوداء التي هي مناط الحياة في الإنسان.
فالغرض من التشبيه هنا تزيين المشبه وبيان أن منزلته في نفس الشاعر منزلة المشبّه به ومن أمثلته أيضا قول أبي الحسن الأنباري (1) في رثاء مصلوب:
مددت يديك نحوهم احتفاء … كمدّهما إليهم بالهبات
فالأنباري يشبّه مدّ ذراعي المصلوب على الخشبة والناس حوله بمدّ ذراعيه بالعطاء للسائلين أيام حياته. فالمشبّه وهو هنا الصلب أمر قبيح تشمئز منه النفوس، ولكن صورة المشبّه به وهي مدّ اليدين بالعطاء للسائلين قد أزالت قبحه وزينته.
فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو التزيين، وأكثر ما يكون هذا الغرض في المدح والرثاء والفخر ووصف ما تميل إليه النفوس.


6 - تقبيح المشبه: وذلك إذا كان المشبّه قبيحا قبحا حقيقيا أو اعتباريا فيؤتى له بمشبّه به أقبح منه يولّد في النفس صورة قبيحة عن المشبّه تدعو إلى التنفير عنه.
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر المتنبي في الهجاء:
وإذا أشار محدّثا فكأنه … قرد يقهقه أو عجوز تلطم
فالمتنبي يشبّه المهجو عند ما يتحدث بالقرد يقهقه أو العجوز تلطم.
والغرض من التشبيه تقبيح المشبّه لأن قهقهة القرد ولطم العجوز أمران مستكرهان تنفر منهما النفس وقول ابن الرومي في وصف لحية طويلة:
ولحية سائلة منصبّة … شهباء تحكي ذنب المذبّة
فابن الرومي يشبّه لحية طويلة شهباء يختلط فيها السواد بالبياض بذنب المذبة، أي المنشة التي يذب بها الذباب ويطرد. والغرض هو تقبيح هذه اللحية والسخرية بصاحبها.
وقول أعرابي في ذم امرأته:
وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته … توهمته بابا من النار يفتح
فالأعرابي الساخط على امرأته بعد أن يدعو عليها بالحرمان من الوجود يشبه فمها عند ما تفتحه بباب من أبواب جهنم. والغرض من هذا التشبيه هو التقبيح.
والتشبيه بغرض التقبيح أكثر ما يستعمل في الهجاء والسخرية والتهكم ووصف ما تنفر منه النفس.
وفيما يلي بعض أمثلة أخرى للتشبيه عند ما يكون الغرض منه التقبيح:
قال ابن الرومي في وصف لؤم شخص ذي لحية:
لا تكذبن فإن لؤمك ناصل … كنصول تلك اللمّة الشمطاء
شبّه لؤمه الظاهر بظهور اللحية المخضوبة حين يزول الخضاب عنها

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید