المنشورات

‌‌غرائب التشبيه وبديعه

التشبيه أسلوب من الأساليب البيانية، وهو ميدان واسع تتبارى فيه قرائح الشعراء والبلغاء. ولعلّه هو وأسلوب الاستعارة من أكثر أساليب البيان دلالة على عقل الأديب وقدرته على الخلق والإبداع.
والتشبيه الذي هو في الوقت ذاته أساس الاستعارة يدلّ فيما يدلّ على خصب الخيال وسموّه وسعته وعمقه، كما يظهر كذلك مدى القدرة على تمثيل المعاني والتعبير عنها في صور رائعة خلّابة.
من أجل ذلك كله يفتنّ الشعراء والبلغاء في صور التشبيه وألوانه، ويتنافس ذوو المواهب في طرق تناوله والإتيان فيه بكل غريب وبديع طريف.
ولما كان التشبيه على هذا الوضع يعدّ مقياسا يقاس به بلاغة البليغ وأصالته، فإننا نرى من البلغاء من لا يقف في الدلالة على براعته في التشبيه عند حدّ إجادته، وإنما يتجاوز ذلك إلى الإتيان بأكثر من تشبيه في بيت واحد.
فمنهم مثلا من شبّه شيئين بشيئين في بيت واحد، كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالي فقد شبّه الرطب من قلوب الطير بالعناب، واليابس منها بالحشف البالي، فجاء تشبيهه في غاية الجودة.
وكقول الطرماح في وصف ثور وحشي:
يبدو وتضمره البلاد كأنه … سيف على شرف يسلّ ويغمد
فالثور الوحشي حين يظهر كأنه سيف يسلّ من غمده على مكان عال، وهو حين يخفى كأنه سيف يغمد في غمده.
وكقول البحتري في وصف الندى تحمله شقائق النعمان:
شقائق يحملن الندى فكأنه … دموع التصابي في خدود الخرائد (1)
فقطرات الندى مشبهة بدموع التصابي، وشقائق النعمان بخدود الحسان.
وكقول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
شبّه مثار النقع والغبار فوق الرؤوس بظلمة الليل، وشبّه السيوف بالكواكب وقد كثر تشبيههم شيئين بشيئين حتى لم يصر عجبا.
وكقول آخر:
بيضاء تسحب من قيام فرعها … وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع … وكأنه ليل عليها مظلم
شبّه امرأة بيضاء في شعرها الأسود المسترسل إلى الأرض بالنهار الساطع وشبّه شعرها الكثيف الملتف على رأسها بالليل المظلم ومنهم من شبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، كقول البحتري أيضا:
وتراه في ظلم الوغى فتخاله … قمرا يكرّ على الرجال بكوكب
شبّه وغى الحرب وعجاجها وجلبة أصواتها بالظلم، وشبّه الممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب.
وكقول شاعر آخر:
نشرت إليّ غدائرا من شعرها … حذر الكواشح والعدو المويق (1)
فكأنني وكأنها وكأنه … صبحان باتا تحت ليل مطبق
شبّه الشاعر نفسه وشبّه صاحبته بصبحين، وشبّه شعر صاحبته الأسود بليل مطبق الظلام.
وكقول المرقش:
النشر مسك والوجوه دنا … نير وأطراف الأكفّ عنم (2)
شبّه الرائحة بالمسك، والوجوه بالدنانير، وأطراف الأكفّ بالعنم.
وكقول ابن الرومي:
كأن تلك الدموع قطر ندى … يقطر من نرجس على ورد
شبّه الدموع بقطر الندى، والعيون بالنرجس، والخدود بالورد وكقول ابن المعتز بدر وليل وغصن … وجه وشعر وقدّ
خمر ودرّ وورد … ريق وثغر وخدّ
في البيت الأول شبّه البدر بالوجه، والليل بالشعر، والغصن بالقد، وفي البيت الثاني شبّه الخمر بالريق، والدرّ بالثغر، والورد بالخد.
ويلاحظ في جميع هذه التشبيهات أنها من التشبيه المقلوب.
ومنهم من شبّه أربعة أشياء بأربعة أشياء كقول امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة … وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
شبّه خاصرتي الفرس بخاصرتي الظبي، وشبّه ساقيه بساقي النعامة، وشبّه إرخاءه، أي مدّ عنقه في استرسال عند السير بإرخاء السرحان أي الذئب، وليس دابة بأحسن إرخاء منه، وشبّه تقريبه، أي جمع يديه ووثبه عند الجري بتقريب التتفل، أي ولد الثعلب، والمعنى يوحي بأنه أراد الثعلب بعينه مشبّها به.
وكقول المتنبي:
بدت قمرا ومالت خوط بان … وفاحت عنبرا ورنت غزالا (1)
شبّه المتغزّل فيها بالقمر حسنا، وشبّه تمايلها وتثنيها في مشيتها بغصن البان، وشبّه طيب رائحتها بالعنبر، وشبّه سواد مقلتيها عند ما ترنو وتنظر بمقلتي الغزال.
ومثله قول شاعر آخر:
سفرن بدورا وانتقبن أهلّة … ومسن غصونا والتفتن جآذرا
وكقول ابن حاجب وزير القادر بالله ثغر وخد ونهد واختضاب يد … كالطلع والورد والرمان والبلح (1)
شبّه الثغر بالطلع، والخد بالورد، والنهد بالرمان، واليد المخضوبة بالبلح.
وكقول ابن رشيق:
بفرع ووجه وقدّ وردف … كليل وبدر وغصن وحقف
شبّه الشعر الأسود بالليل، والوجه بالبدر، والقدّ أو القامة بالغصن، والردف (2) بالحقف وهو كثير الرمل.
ومنهم من شبّه خمسة أشياء بخمسة أشياء كقول أبي الفرج الوأواء الدمشقي:
قالت وقد فتكت فينا لواحظها … كم ذا أما لقتيل اللحظ من قود (3)؟
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت … وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت … من بعد رؤيتها يوما على أحد
كأنما بين غابات الجفون لها … أسد الحمام مقيمات على رصد
ففي البيت الثاني شبّه دموع هذه الإنسانة باللؤلؤ، وعينيها بالنرجس، وخدّيها بالورد، والأنامل المخضوبة بالعناب، وثناياها بالبرد.
ويقول أبو هلال العسكري: «ولا أعرف لهذا البيت ثانيا في أشعارهم» ومعنى هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه خمسة أشياء بخمسة أشياء في بيت واحد، وأن هذا النوع نادر في الشعر العربي.
وهكذا نرى أن بعض الشعراء قد أكثروا من التشبيهات في البيت الواحد ولكن الولع بهذا اللون من التشبيه ومحاولة إظهار البراعة والافتنان فيه من شأنه أن يؤدي إلى التكلّف الذي يذهب برونق التشبيه ونضارته وتأثيره كما يبدو على بعض هذه التشبيهات

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید