المنشورات

‌‌محاسن التشبيه

من بلاغة التشبيه أن يشبّه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، لأن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة، فإما أن
يكون مدحا أو ذمّا أو بيانا وإيضاحا، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ فيه من تقدير لفظة «أفعل»، فإن لم تقدّر فيه لفظة «أفعل» فليس بتشبيه بليغ. ألا ترى أنّا نقول في التشبيه المضمر الأداة «زيد أسد» فقد شبّهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه، فإن لم يكن المشبّه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبّه كان التشبيه ناقصا إذ لا مبالغة.
ومن التشبيه المظهر للأداة قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر لأن السفن البحرية وإن كانت كبيرة فإن الجبال أكبر منها.
وكذلك إذا شبّه شيء حسن بشيء حسن، فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة، وإن شبّه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون المشبّه به أقبح.
وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» لا بدّ منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصا.
وقد عرفنا مما سبق أن تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر لا يخلو من أن يكون تشبيه معنى بمعنى، أو تشبيه صورة بصورة، أو تشبيه معنى بصورة، أو تشبيه صورة بمعنى. وأبلغ هذه الأنواع تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ووجه بلاغة هذا النوع تأتي من تمثيله للمعاني الموهومة بالصور المشاهدة.
ومن محاسن التشبيه المضمر الأداة قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فشبّه الليل باللباس، لأن الليل من شأنه أن يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يجب الاطّلاع عليه من أمره. وهذا من التشبيهات التي لم يأت بها إلا القرآن الكريم، فإن تشبيه الليل بلباس مما اختصّ به القرآن دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم.
ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فشبّه تبرّؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ، وذلك أنه لما كانت هوادي الصبح وأوائله عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن يقال: «يخرج» لأن السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج.
ومن محاسن التشبيه المضمر في الأمثال «الليل جنة الهارب»، ومنه في الشعر قول المتنبي:
وإذا اهتزّ للندى كان بحرا … وإذا اهتز للوغى كان نصلا
وإذا الأرض أظلمت كان شمسا … وإذا الأرض أمحلت كان وبلا  فهنا أربعة تشبيهات، كلّ واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن في معناه.
ومن تشبيه المركب بالمركب مع إضمار الأداة، ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول عند ما قال له: «أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: «أو نحن مؤاخذون بما نتكلم»؟ فقال له الرسول: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟». فقوله: حصائد ألسنتهم، من تشبيه المركب بالمركب، فإنه شبّه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض. وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومنه قول أبي تمام:
معشر أصبحوا حصون المعالي … ودروع الأحساب والأعراض
فقوله «حصون المعالي» من التشبيه المركب، لأنه شبّه المعشر الممدوح في منعهم المعالي وحمايتها من أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته.
وكذلك الشأن في تشبيههم بدروع الأحساب والأعراض.
ومن تشبيه المركب بالمركب مع إظهار الأداة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة (1) طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم له ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ».
فالرسول قد شبّه المؤمن القارئ وهو متّصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح، وشبّه المؤمن غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما الإيمان وعدم القراءة بالتمرة، وهي ذات وصفين هما الطعم وعدم الريح، ووصف المنافق القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق والقراءة بالريحانة وهي ذات وصفين هما الريح وعدم الطعم، ووصف المنافق غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق وعدم القراءة بالحنظلة، وهي ذات وصفين هما عدم الريح ومرارة الطعم.
ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحتري:
خلق منهمو تردّد فيهم … وليته عصابة عن عصابة
كالحسام الجراز يبقى على الده … ر، ويفنى في كل حين قرابه (1)
وقول ابن الرومي:
أدرك ثقاتك أنهم وقعوا … في نرجس معه ابنة العنب
فهمو بحال لو بصرت بها … سبّحت من عجب ومن عجب
ريحانهم ذهب على درر … وشرابهم درّ على ذهب (2)

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید