المنشورات

ابن الوزير

النحوي، المفسر: محمّد بن إبراهيم بن علي المرتضى، عز الدين، الهادوي الحسني.
ولد: سنة (776 هـ)، وقيل: (775 هـ) ست وسبعين، وقيل: خمس وسبعن وسبعمائة.
من مشايخه: جمال الدين محمّد بن عبد الله بن ظهيرة ونفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي وغيرهما.
من تلامذته: محمّد بن عبد الله بن الهادي، وعبد الله بن محمّد بن المطهر وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
• طبقات صلحاء اليمن: "كان داعية إلى السنة وأكثر تأليفه في ذلك .. " أ. هـ.
• الضوء: "تعانى النظم فبرع فيه وصنف في الرد على الزيدية (العواصم من القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم ") أ. هـ.
• قلت: تناول صاحب كتاب "ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية وجهوده في الدفاع عن السنة النبوية" معتقد ابن الوزير بالتفصيل فكتابه عبارة عن رسالة دكتوراه وضع فيها خلاصة جهده وعصارة فكره من أجل أن يصل فيها إلى درجة ممتازة في موضوع بحثه وهو آراء ابن الوزير الاعتقادية، وقد وفق جزاه الله خيرًا في ذلك، ونحن سننقل خلاصة ما وصل إليه في بحثه تحقيقًا للفائدة وعدم الإطالة -ومن أراد التفصيل فليرجع إلى هذا الكتاب القيم- والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وقد اقتصرنا قدر الإمكان على ما يتعلق بموضوع العقيدة وتركنا بقية النتائج.
- وقد قسمت النتائج إلى قسمين-:
القسم الأول: الملاحظات.
القسم الثاني: النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث:
أولًا: الملاحظات: وهي مرتبة حسب ترتيب الرسالة.
وبعد أن انتقده حديثيًا على مسألتين حديثيتين انتقل إلى النقطة الثالثة:
3 - قول ابن الوزير أيضًا في أبيات من (الإجادة) له في مطلعها:
لي في القديم مقال غير مبتكر ..
وهذا لا يتفق وما ذكره في كتابه (إيثار الحق على الخلق) أثناء كلامه على الأسماء الحسنى، بأن ما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته، وما نزل عن هذه المرتبة، أوكان مختلفًا في صحته لم يصح استعماله، وفي ثبوت هذا الاسم خلاف كما بينته في (الأسماء والصفات) بل حققت الكلام فيه ولله الحمد والمنة.
4 - قول ابن الوزير أيضًا في مبحث (الأسماء والصفات) في أبيات يرد بها على اللائمين باتباع السنة ومحبته للحديث من تلك الأبيات:
وحق حبي له أني به كلف ... يكفيني الطبع فيه عن تكلفه
وهذا يتنافى مع توحيد الألوهية للتدليل والتعليل الذي أشرت إليه هناك.
5 - إسناد ابن الوزير (حادي الأرواح) أحيانًا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) وأحيانًا إلى تلميذه ابن القيم (751 هـ)، وعلى هذا الوهم ترتب الوهم الآتي.
6 - إسناده وغيره القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد سبق تحقيق ذلك في فصل (الغيبيات) وستأتي الإشارة إلى ذلك في النتائج الآتية.
وابن الوزير معذور في هذا كله، لأنه كثيرًا ما يكتب من حفظه، وهو في رؤوس الجبال، وبطون الأودية للظروف القاسية التي عاناها من خصومه كما سبق مقررًا ومكررًا في (حياته العلمية) و (في مميزاته الفكرية) وغير ذلك.
ثانيًا: النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث، وهي:
1 - إن ابن الوزير -رحمه الله- يتصل نسبه إلى ريحانه الرسول عليه الصلاة والسلام - الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين، وكفى بذلك شرفًا، كيف لا وهو من أغصان تلك الدرجة المتصلة بالني عليه الصلاة والسلام وأنه نشأ في أسرته آل الوزير، المشهورة بالعلم، والجاه والحسب والنسب.
2 - لم يزل ابن الوزير منذ عرف شماله من يمينه مشمرًا في طلب العلم، وبنانه للطائف المعارف قواطف، ينتقل بين أيدي الشيوخ من درجة إلى درجة، حتى بلغ درجة الاجتهاد.
3 - قضى معظم شبابه في البحث عن العلوم العقلية الجدلية، ولما علم أنها لا توصل إلى المطلوب رجع إلى علوم الكتاب والسنة، فوجد في ذلك الغناء والهدى والنور، وما يثلج الصدور، فأناخ وألقى رحله، واستقر به المقام في تلك الرياض النضرة، فاقتطف من شتى ثمارها الحلوة الدانية، وارتوى من أنهارها العذبة الصافية فطاب له المقام، وحق له أن يطيب، وما ألذ الراحة عقب التعب الطويل.
فقد عانى تلك المعاناة الشديدة، وما أدراك ما تلك المعاناة الشديدة، في البحث عن الأساليب اليونانية المقيتة.
4 - لما بلغ درجة الاجتهاد، أعلن رجوعه إلى الصواب، فحسده أهل عصره، وعلى رأسهم أحد شيوخه في التفسير وأصول الفقه، فجرت بينهم خصومات، وقلاقل، ومعارك جدلية، كان النصر فيها حليفه، لنصره سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذبه عنها وعن حملتها، وأئمة الإسلام والمسلمين، لأنه استخدم سلاحهم العقلي في الميدان الجدلي، الذي يعتبر التبريز فيه -عندهم- مئنة الذكاء والنجابة، فقهرهم بالحجج السمعية التي يعتبر الاقتصار في البحث عنها -في نظرهم- علامة البله والبلادة.
5 - إن ابن الوزير اشتغل بالذب عن السنة النبوية، تدريسًا، وتصنيفًا، ومناظرة، ومناضلة لأهل البدع، واستطاع أن ينشر علم الحديث، وسائر العلوم الشرعية، في أرض لم يألف أهلها ذلك لا سيما في عصره، صرح بذلك الإمام الشوكاني (1250 هـ) وأن مدرسة ابن الوزير، لا زالت تشع بأنوار السنة النبوية الصحيحة، منذ عصره إلى عصر الشوكاني مرورًا بالمقبلي (1108 هـ) والصنعاني (1182 هـ).
6 - كانت نتيجة الصراعات المذهبية الدينية عداوة وبغضاء، وتفسيقًا وتكفيرًا، نتج عنه الصراع المسلح، الذي كانت نتيجته الخراب والدمار، والنهب والقتل بين صفوت الدويلات، التي جرّت الويلات، على أبناء اليمن، منذ تأسيس المذهب الزيدي ودولته، على أيدي الإمامين القاسم بن إبراهيم الرسي (244 هـ) وحفيده الهادي يحيى بن الحسين القاسم (289 هـ) العلويين.
صراع مسلح مستمر، بين أئمة الزيدية في (صعدة) و (صنعاء) وبين سلاطين اليمن السافل، بسواحله وجنوبه من جهة، والباطنية -ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا- من جهة أخرى، وكان الحرب سجالًا، وأحيانًا يتصاعد، حتى يكون بين أصحاب المذهب الواحد والأسرة الواحدة كما حصل بين الإمامين المهدي (840 هـ) والمنصور (840 هـ) على عرش (صنعاء) في عهد ابن الوزير (840 هـ) وقد يكون الصراع بين الآباء والأبناء على عرش (صنعاء) كما حصل بين الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين (965 هـ) وابنه المطهر (980 هـ) الصراع نفسه على عرش (صنعاء).
وكان لسان حال بعض الأئمة يقول، على لسان أحد شعراء اليمن:
ولأضربن قبيلة بقبيلة ... ولأملأن بيوتهن نياحًا
7 - إن مميزات ابن الوزير الفكرية لتبهَر لب من يطلع عليها في كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) -الذي صنفه في رؤوس الجبال العوالي وبطون الأودية الخوالي- لكثرة ما يسرده في المسألة الواحدة من الإشكالات المحيرة، والتنبيهات اللاذعة والبراهين المقنعة، العقلية منها والنقلية، بحيث إن الباحث فيه عن مسألة ما لا يحتاج إلى النظر في غيره -غالبًا- وأن كلامه من نمط كلام ابن حزم وابن تيمية وابن القيم.
وقد يأتي في كثير من المباحث بفوائد لم يأت بها غيره، ومصنفاته شاهد عدل على ذلك وتوكيد لذلك ثناء العلماء المشار إليه في موضعه.
8 - توفي -رحمه الله- في العزلة الأخيرة التي صنف فيها (إيثار الحق على الخلق) الذي صانه عن الأساليب الجدلية، إذا ألقى الأسلوب الجدلي، واستخدم أسلوب العاطفة الدينية، والغيرة الإسلامية لما رآه من الاختلاف المؤدي إلى التباعد والتقاطع، والتفسيق، والتكفير، بين طوائف المسلمين والمحاولة إلى رد الخلافات إلى المذهب الحق، والدعوة إلى الائتلاف والتآخي بين طوائف المسلمين.
9 - إن ما قرره ابن الوزير، وذهب إليه من التوقف، وعدم التكفير للمتأولين المخطئين من أهل القبلة، هو الصواب للوجوه التي ذكرها ابن الوزير، وللوجوه التي أضفتها إليها وأكدتها بها في أواخر الفصل الأول من الباب الثاني منها:
أ- إن ذلك يتمشى مع القواعد العامة، لأهل السنة والجماعة من عدم التكفير لأحد من المصلين، بذنب، ما لم يستحله ولأنه الأحوط، لما يترتب على التكفير من الخطر العظيم، والوعيد الشديد، وما يترتب على ذلك من العداوة والتقاطع، فهل الشرارة الأولى للصراع الدموي، في الماضي والحاضر بين طوائف المسلمين غير الصراع العقدي؟ ! وهل هناك شيء من هذا النمط بين المسلمين وأعدائهم الحقيقيين؟ ! أم طوائف المسلمين قلبوا الجن لإخوانهم المسلمين أم هؤلاء تستروا باسم الإسلام ليكيدوا له كيدًا بتدمير المسلمين الحقيقيين؟ ! آهٍ آهٍ واحسرتاه ...
ب- إن الله -عزَّ وجلَّ- قد صنف الأمة المحمدية من فوق سبع سموات- ثلاثة أصناف، وميزهم واصطفاهم من عباده، لوراثة كتابه بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ} فالظالم لنفسه بترك بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، من هذه الأمة، وقد سبق التدليل والتعليل وافيًا شافيًا ولله الحمد والمنة.
10 - من كذب بشيء من الكتاب أو السنة الصحيحة، أو كذب أحدًا من الرسل، أو جحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة ولو تستر باسم التأويل -كائنًا من كان- كتأويل الباطنية الملحدة، الذين أنكروا البعث والجزاء، وتأوّلوا الرب جل جلاله، وأسماءه بإمام الزمان، وحرفوا نصوص القرآن، وأباحوا المحرمات، فهذا التكفير لا غبار عليه عند ابن الوزير وغيره من علماء الإسلام والمسلمين أجمعين.
ويستثنى من جحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة من لم يبلغه الخطاب كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه الدعوة فهذا لا يحكم بكفره كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية- للتعليلات السابقة في موضعها.
وأما تكفير شخص معين من أهل القبلة، فهذا أشد خطرًا، لعدم توافر الشروط، ووجود المانع.
11 - إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو كذا مأثور عن بعض السلف كنفي الصفات، والتكذيب بأن الله -عزَّ وجلَّ- يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلام الله -عز وجل- أو أن الله كلم موسى تكليمًا، أو اتخذ إبراهيم خليلًا، كل ذلك كفر، إذا صدر من مكلف عاقل مختار عامد، بلغته شرائع الإسلام، وأصرّ على ذلك، لأن هذه الأمور ثابتة ومتواترة في الكتاب والسنة، فسعادة الدارين فيهما، وفي العمل بهما.
12 - إن الفرقة الناجية -وإن تنازعتها طوائف المسلمين- هي التي ترد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المبين، من الكتاب والسنة، وتجعل ما فيهما هو الأصل الذي تعتقده، ولا تنصب مقالة، وتجعلها من أصول دينها وترد ما اختلف فيه إليها، والفيصل في هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - (ما أنا عليه وأصحابي).
13 - إن علامة أهل الأهواء والضلال ترك المحكم وتتبع المتشابه، بقصد التضليل والتشكيك، للمسلمين في عقائدهم والتحريف للدين عن طريق أساليب اليونان.
وهؤلاء هم الذين وصفهم الله بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلا اللَّهُ}.
14 - إن زيدية اليمن من الشيعة، وإن مؤسس المذهب الزيدي ودولته في اليمن هو الإمام القاسم الرسي (244 هـ)، وقيل: (246 هـ) وحفيده الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم العلوي (298 هـ).
وبين المعتزلة والزيدية ارتباط قوي، فالأولى هي الأم المغذية بالأفكار، والأخرى هي التي تبنت واحتفظت بالتراث وافتخرت به، فالزيدية في اليمن معتزلة في الأصول الخمسة ما عدا مسألة الإمامة -وخلاف لبعض أئمة الزيدية في حكم مرتكب الكبيرة- فقد تبنى غالب الزيدية أصولًا أربعة من أصول المعتزلة، واستبدلوا المنزلة بين المنزلتين بمسألة الإمامة التي هي الشغل الشاغل لهم، وهي امتداد لمبدء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أجلها حصل الانشقاق بين بعض الزيدية والمعتزلة، ومذهب الزيدية في الإمامة النص على علي وولديه رضي الله عنهم، وفي الدعوة والخروج لمن بعدهم من أولادهم، وعليه فعقيدتهم خليط من المعتزلة والشيعة.
أما في الفروع فهم هادوية -غالبًا- مع ما فيهم من الأئمة المجتهدين المشهورين.
وموقف ابن الوزير من المعتزلة وغلاة الزيدية خصومات وقلاقل وفق ومعارك جدلية وموقفه من أصولهم الخمسة موقف أهل السنة من أهل البدعة إلا أنه فرع سؤالًا عن مصير مرتكب الكبيرة إذا مات مصرًا عليها -بعد أن قرر مذهب السلف فيها وأيده بآية النساء المخصصة لعموم آية الزمر، فرّع استفهامًا هو: هل عذاب الأشقياء دائم؟ .
وهذا الاستفهام ناتج عن مدى تأثره بكلام العلامة ابن القيم، ومناقشته للأقوال المتعلقة بهذا الاستفهام، المحير لعقول النظار، وستأتي الإجابة في نتائج فصل (الغيبيات) إن شاء الله تعالى.
15 - إن للإمام أبي الحسن الأشعري ثلاثة أطوار: الأول: كان يعتقد عقيدة المعتزلة استمر عليها أربعين سنة، والأخير استقر على العقيدة السلفية، وما بينهما كان على ما عليه الأشعرية من الإيمان بالصفات الذاتية وتأويل ما سواها من الخبرية وثبت أن الإبانة من مؤلفاته، وأن من كان على مذهبه في طوره الثاني فهو أشعري، ومن كان على مذهبه في طوره الأخير فهو سلفي، وعليه فالأشعرية غير الأشعري.
وأن المذهب الأشعري في اليمن هو مذهب الأشعري في طوره الثاني.
وموقف ابن الوزير من الأشعرية -عمومًا- متعدد:
فأحيانًا يكون كالحكم بينهم وبين خصومهم المعتزلة، وأحيانًا يكون كالخصم للأشعرية بل لغلاتهم نفاة الحكمة، إذ أثبتها ابن الوزير، كما أثبتها السلف من قبله بالأدلة العقلية والنقلية، حتى إنه أثبت الحكمة في الشرور، وفي خلق الأشقياء واستشهد بكلام أبي حامد الغزالي كما بينته في موضعه.
أما أشعرية اليمن فلم أقف له على مراسلات أو مناظرات معهم.
16 - إن إثبات حكمة الله -تعالى- في أقواله وأفعاله كثيرة، شاهده له -سبحانه- بالحكمة البالغة، والنعمة السابغة والحجة الدامغة، ومنزهة له عن العبث والظلم، وذلك واضح في الكتاب والسنة، كالأسماء الحسنى، وقصة آدم والملائكة في سورة البقرة، وقصة موسى والخضر، وغير ذلك مما سبقت الإشارة إلى بعضه.
وأن الشر الذي يضج به العالم، فيه من الخير الكامن ما لا يحصيه إلا الله -عزَّ وجلَّ- وخاصة ما يضج به عالمنا الحاضر، من الشرور والمجاعات، والحروب الطاحنة بين المسلمين وأعدائهم، وبين المسلمين أنفسهم، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ} {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} سنة الله في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: "إني سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألّا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته ألّا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فأعطانيها وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها" والقائل: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
مع الاعتقاد أن هذا كله قد تضمنه القدر، ومنه علم الله السابق -في خلقه قبل أن يبرأ البرية- وإرادته بقسميها {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
17 - إن تسرب الباطنية إلى اليمن كان عن طريق العراق، من جوار قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما بتوجيهات ميمون القداح -المجوسي أو اليهودي- لعلي بن الفضل الحميري (303 هـ) أثناء زيارته قبر الحسين، وأرسل معه رجلًا من كبار الشيعة يُدعى الحسن بن فرج الكوفي، ثم اشتهر بمنصور اليمن، وكلفهما القداح بنشر الدعوة باسم ابنه عبيد الله المهدي، مع التظاهر بالزهد، وكثرة التعبد، والاعتزال عن الناس، بغرض المكيدة للإسلام، وذلك في (267 هـ)، وقيل: (268 هـ) وقيل غير ذلك واستمرت إلى تاريخ وفاة علي بن الفضل وظاهر الدعوة إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، واختصاص علي - رضي الله عنه - بالإمامة، والطعن في جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد نجحا في دعوتهما باستمالة العامة باسم الدين، واستولى كل منهما على البلاد التي استقر بها.
وكان أشدهما علي بن الفضل الحميري وكانت الحرب سجالًا بين أئمة الزيدية والباطنية في جهة المناطق الجبلية الشمالية وبينها وبين الأمراء من آل يُعفر الحوالين وغيرهم من جهة أخرى حتى سيطرت الباطنية على معظم البلاد اليمنية في عهد علي بن الفضل الحميري.
أما في عهد الصليحي الباطني (457 هـ) فقد سيطرت على جميع اليمن من سنة (439 - إلى سنة 1457 و 459 هـ).
وفي العهدين المذكورين أزهقت الباطنية الأرواح وسفكت الدماء وأباحت المحرمات.
وقد وقف منهم أئمة الزيدية موقفًا حازمًا سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا حتى كادت أن تخمد نار فتنتهم، ولكنها تخمد مرة وتذكو مرات.
ومن المؤسف أن بقاياهم لا زالت في اليمن وغيره من سائر بلاد الإسلام.
وأنهم تركوا آثارًا سيئة في الاعتقاد والأخلاق، ولا تزال باقية إلى يوم الناس هذا مقرره ومدرسة بينهم.
وأخطر من هذا الاتصال المباشر بينهم من بلد إلى بلد للتربص بالإسلام والمسلمين، مع تغافل العلماء والحكام عن حركاتهم الإلحادية في بلاد المسلمين.
وموقف ابن الوزير منهم هو موقف كل مسلم غيور على دينه وأمته كما ينته في موضعه.
18 - إن الأصل في الإنسان التدين الفطري، وأن الوثنية أمر طارئ ( ... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم).
والفطرة تتضمن الإقرار بوجود الله عزَّ وجلَّ.
وأن إنكار الصانع أمر غريب لم يذكر إلا عن فرعون، ونمرود إبراهيم على خلاف في الأخير.
وأن الإسلام قسمان: فطري: وهو التهيؤ والاستعداد للإسلام الشرعي، لأن الفطري موجود في كل إنسان حتى في الكفار {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} و (كل مولود يولد على الفطرة) وقسم شرعي مكتسب بالإرادة والتعلم والعمل، بعد توفيق الله -عزَّ وجلَّ-.
وبناء عليه فإن الفطرة هي الإسلام فيما قبل البلوغ.
أما بعده فلا بد من أمرين:
إما الاستمرار في الإسلام الفطري الموصول إلى الإسلام الشرعي، وينطبق على ذلك حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) وطبقًا لما سبق في علم الله السابق من السعادة.
وأما الخروج عن الفطرة بكل معانيها، باتباع شياطين الجن والإنس بما فيهم الأبوان (واني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم) (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) وطبقًا أيضًا لما سبق في علم الله من الشقاوة.
19 - إن الطريقة التي سلكها ابن الوزير في إثبات وجود الله -عزَّ وجلَّ- هي طريقة السلف الصالح، طريقة القرآن الكريم البحتة وهي: دلالة الفطرة- دلالة الأنفس- دلالة الآفاق- دلالة المعجزات.
وإنه ينكر الاعتماد على النظر العقلي في الوصول إلى العقائد الإلهية المخالفة لطريقة الرسل، وإنما يستخدم العقل في فهم النصوص، وفيما للعقل فيه مجال، كالتفكر في المصنوع لا في الصانع.
وأن أول واجب على المكلف - في نظره -الإيمان بالله تعالى- بدون نظر ولا استدلال، لأن الأنبياء كافة، ما كانوا يأمرون الصبي، إذا بلغ التكليف، بالنظر ولا الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام.
وأن الطريق إلى معرفة الله -تعالى- لا تحتاج إلى الطرق اليونانية الملتوية المعقدة، ولذلك قال كثير من العلماء والعقلاء إنه أمر ضروري، لا يحتاج إلى نظر، وإنما يحتاج إلى تذكر يوقظ من سنة الغفلة، كتذكر الموت الذي تقع الغفلة عنه وهو ضروري {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
20 - إن ابن الوزير نهج منهج السلف في الاستدلال على إثبات الأسماء والصفات، لكن على الطريقة الإجمالية لأنها الطريقة المتفق عليها، وهذا مطابق لما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من السلف وقد بينته في ذلك المبحث.
وإن أفكار ابن الوزير هنا مستقاة من أفكار أئمة السلف بدليل المقارنة بين الأفكار، وأنه بريء مما قيل فيه إنه معتزلي أو توجد رائحة الاعتزال في كلامه.
وقد تبين لي أنه بريء مما اتهم به، براءة الذئب من دم يوسف - عليه السلام -.
ولو كان معتزليًا فما فائدة الجدال والخصومة والمناظرات والمراسلات بينه وبين المعتزلة والزيدية التي كانت نتيجتها كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) ومختصره (الروض الباسم) وغير ذلك من مؤلفاته القيمة.
21 - الاستفاضة عن شيخ الإسلام ابن تيمية بالقول بفناء النار غير صحيحة، ومن هذا تبين أن المستفيض من كلام الناس قد يكون غير مطابق للواقع.
وما أثاره ابن الوزير والصنعاني وغيرهما عن ابن تيمية في المسألة ذاتها، فعمدتهم فيه (حادي الأرواح) وهو لابن القيم لا لشيخه ابن تيمية.
وأن ابن القيم له في هذه المسألة ثلاث مراحل:
الأولى: الميل إلى القول بفناء النار لكثرة الوجوه والأدلة المحيرة للعقول التي أوردها مؤيدة لذلك، وزاد ابن الوزير الطين بلّه.
الثانية: التوقف كما هو صريح كلامه في (الحادي) وقد سبق ذلك. 

الثالثة: الرجوع عن هذا والجزم بعدم فناء النار صرح بذلك في (الوابل الصيب).
أما ابن الوزير فقد تأثر بكلام ابن القيم في (الحادي) واستمالته إلى القول بفنائها أحيانا يشم ذلك في كلامه، وفي النهاية تحير فتوقف لأن هذه المسألة في نظره -بعد أن حير عقله كلام ابن القيم- من أشبه المتشابهات، والتوقف عند المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه - من مذهب أهل السنة والجماعة، ولابن الوزير مؤلف خاص بهذه المسألة سماه (الإجادة في الإرادة) وقد اقتطفت أبياتا منها في (الغيبيات).
وأما ابن تيمية، وإن شهد أخص تلاميذه بمصنفه المشهور -الذي لم يبين ابن القيم فيه نفيا ولا إثباتا- فلم يصل إلينا شيء من مؤلفاته في هذه المسألة العظيمة، سوى الورقات الثلاث -على فرض صحتها أنها من كلام ابن تيمية- وقل تضمنها كلام ابن القيم في (حادي الأرواح) على سبيل الحكاية لأقوال الناس.
والموجود في فتاواه المعتمدة يناقض ما نسب إليه، لذلك لم أستطع الحكم بإسنادها إليه، لفقدانها الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق (1).
ولا يسعني إلا أن أقول كما قال يوسف عليه السلام (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون).
وقد سبق بيان فتواه بدوام النار، وعدم فنائها كما حكى الإجماع عن سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على ذلك وأن القول بفنائها قول طائفة من أهل الكلام والمبتدعين، كالجهمية ومن وافقهم، وهو قول باطل بخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فماذا بعد الحق إلا الضلال.
22 - إن دفاع ابن الوزير عن السنة يدل على أنه من أهلها وذبه عن أهل الحديث وأئمة الإسلام يدل أيضًا على أنه منهم، وإلا فما فائدة تلك المعارك الجدلية بينه وبين المعتزلة والزيدية، وأن ذمه للكلام يهدف إلى حدوثه، وعدم الحاجة إليه لا إلى تقبيحه، مطلقا، كما يهدف أيضًا إلى ترك الخوض فيما لا تمس الحاجة إلى معرفته من الكلام، وخاصة التعمق فيما يتعلق بذات الله -عزَّ وجلَّ- وصفاته لما ورد من النهي عن ذلك.
وهذا ما عليه العقلاء الحازمون من الاشتغال بالأهم فالمهم، ولجواز أن ترد شبهة على دقائق الكلام تحير المبرز فيه وتبلد المعجب به، ويكون الناظر فيه كالباحث عن حتفه بظلفه.
وإن المتعرضين للشبهة المجهولة بتقديم النظر في الدلائل، كمن يتعرض للسموم القاتلة بشرب الأدوية الحادة، التي ربما قتلت شاربها حين لا يجد ضدا يدفع طبيعتها، ويستحيل تقديم التداوي من داء لم يتعين ولم يعرف.
وقد أثبت ابن الوزير بالأدلة النقلية الصحيحة الدالة على حيرة فحول المتكلمين ثم حسرتهم ثم رجوعهم إلى مذهب أهل الأثر بل تمني البعض أن يكون على دين العجائز.
23 - السلف لم يذموا جنس الكلام، ولا ذموا الاستدلال والنظر، والجدل الذي أمر الله به ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام المخالف للكتاب والسنة والعقل، فالجدال قد يكون في ابتداء الدعوة، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجاهد الكفار بالقرآن وقد يكون لبيان الحق، وشفاء القلوب من الشُبه، مع من يطلب الاستهداء والبيان، وقد يكون الجدال مع من لا يجوز قتالهم من أهل الذمة والهدنة والأمان، كما فعل الإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) في الرد على الزنادقة والجهمية. ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ليس بمكروه، إذا احتج إليه وكانت المعاني صحيحة.
وحينئذ ينقسم الجدل إلى قسمين جائز ومكروه.
أما المكروه فكما يلي:
أ- ما يقصد به صاحبه مدافعة الحق بإثارة الشكوك، والشبه الموهمة بالطرق المبتدعة.
ب- اللجاج الذي يعرف صاحبه أنه غير مفيد، وقد يكون مثيرًا للشر.
ج- عدم الاقتصار في الانتصار للحق على أساليب القرآن الكريم، والأنبياء عيهم السلام -والسلف الصالح- رضي الله عنهم أجمعين.
وأما الجائز فكما يلي أيضًا:
أ- أن تكون المجادلة بقصد إيضاح الحق، أو طمعًا في اتباع الخصم.
ب- أن يكون على نمط الجدال الذي أمر الله تعالى به رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالطريق التي هي أحسن طريق المجادلة، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
24 - إن ابن الوزير قد بيض وجوه المحدثين على بياضها، فازدادت نورًا على نورها، وأماط عنهم كل ما وصمهم به خصمه المعترض من القدح الهادف إلى القدح في السنة النبوية، كما زاد وجوه المعتزلة المعطلة والمؤولة سوادًا على سوادها، فشاهت الوجوه، كما أن نتيجة هذه الخصومات والمعارك الكلامية أضافت إلى التراث الإسلامي ثروة لا يستهان بها، ألا وهو كتاب (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)، ومختصره (الروض الباسم) الذي لم تعرف البلاد اليمنية مثله، ولم تقدره حق قدره، لأنه مفخرة من مفاخر اليمن وأهله، بل مفخرة من مفاخر علماء الإسلام والمسلمين" أ. هـ.
وفاته: سنة (840 هـ) أربعين وثمانمائة.
من مصنفاته: كتاب "العواصم من القواصم" يشمل على تحقيق مذهب السلف وأهل السنة والرد على المبتدعة في الذب عن الأئمة الأربعة، و"البرهان القاطع في معرفة الصانع" وغير ذلك.





مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید