المنشورات

محمّد بن الحسن

النحوي: محمّد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، الحنفي. أصله من قرية حَرَستا.
ولد: سنة (135 هـ)، وقيل (132 هـ) خمس، وقيل: اثنتين وثلاثين ومائة.
من مشايخه: أَبو حنيفة، والأوزاعي، ومالك بن مِغْوَل وغيرهم.
من تلامذته: الشافعي، وأَبو عبيد، وهشام بن عبيد الله وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
* الضعفاء الكبير للعقيلي: "حدثنا محمّد بن عيسى، حدثنا عباس قال: سمعت يحيى قال: محمّد بن الحسن الشيباني ليس بشيء".
وقال: "قال حدثنا أحمد بن محمّد بن صدقة سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: جهمي كذاب.
ومن طريق أسد بن عمرو، قال: هو كذاب، ومن طريق منصور بن خالد، سمعت محمدًا يقول: لا ينظر في كلامنا من يريد الله تعالى. ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي: دخلت عليه فرأيت عنده كتابًا، فنظرت فيه، فإذا هو قد أخطأ في حديث وقاس على الخطأ فوقفته على الخطأ، فرجع، وقطع من كتابه بالمقراض عدة أوراق" أ. هـ.
* الجرح والتعديل: "سألتُ أبي عن محمّد بن الحسن صاحب الرأي قال: لا أروي عنه شيئًا" أ. هـ.
* ميزان الاعتدال: "لينه النسائي وغيره من قبل حفظه ... وكان قويًّا في مالك" أ. هـ.
* تاريخ الإسلام: "قال أَبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه.
قال الشافعي: لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمّد بن الحسن لقلت لفصاحته.
وقال يحيى بن معين: كتبت (الجامع الصغير) عن محمّد بن الحسن.
وقال إبراهيم الحربي: قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدقاق؟ قال: من كتب محمّد بن الحسن.
قلت -أي الذهبي-: قد احتج بمحمد أَبو عبد الله الشافعي" أ. هـ.
* الوافي: "كان إمامًا مجتهدًا من الأذكياء الفصحاء. وهو ابن خالة الفرَّاء النحوي" أ. هـ.
* لسان الميزان: "قال ثعلب: توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في يوم واحد، فقال الناس: دفن اليوم اللغة والفقه.
ونقل ابن عدي عن إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن آدم يقول: كان شريك لا يجوز شهادة المرجئة، فشهد عنده محمّد بن الحسن، فرد شهادته، فقيل له في ذلك، فقال: أنا لا أجيز من يقول الصلاة ليس من الإيمان. ومن طريق أبي نُعيم قال: قال أَبو يوسف: محمّد بن الحسن يكذب علي. قال ابن عدي: ومحمد لم تكن له عناية بالحديث وقد استغنى أهل الحديث عن تخريج حديثه. وقال أبي إسماعيل الترمذي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان محمّد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهم. وقال حنبل بن إسحاق، عن أحمد كان أَبو يوسف [منصفًا] في الحديث. وأما محمّد بن الحسن وشيخه فكانا مخالفين للأثر. وقال سعيد بن عمرو البردعي: سمعت أبا زرعة الرَّازي يقول: كان محمّد بن الحسن جهميًا، وكذا شيخه، وكان أَبو يوسف بعيدًا من التجهم. قال زكريا الساجي: كان مرجئًا، وقال محمّد بن سعد الصوفي: سمعت يحيى بن معين يرميه بالكذب. وقال الأحوص بن الفضل العلائي، عن أبيه: حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان. وكذا قال معاوية بن صالح، عن ابن معين. وقال ابن أبي مريم عنه: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. وقال عمرو بن علي: ضعيف. وقال أَبو داود: [لا شيء لا يكتب حديثه. وقال الدارقطني: لا يستحق] الترك: قال عبد الله علي المديني، عن أبيه: صدوق" أ. هـ.
* قلت: قال الدكتور محمّد الدسوقي في كتابه الإمام محمّد بن حسن الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي (136): "وفي القرن الثاني عرفت حلقات العلماء مشكلات فكرية وعلمية مختلفة أدت إلى مناظرات وجدل بينهم، وكان لبعض الخلفاء مشاركة في هذه المناظرات والانتصار لرأي دون آخر.
وكان من أهم تلك المشكلات ما أثاره جهم بن صفوان، وأخذ به المعتزلة بعد ذلك من القول بنفي صفات الله، وتأويل ما ورد في القرآن من آيات تدل على أن للهِ صفات من سمع وبصر وكلام ... إلخ، فجهم يرى أنه لا يصح وصف الله بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقتضي التشبيه، وهو مستحيل عليه سبحانه، فليس كمثله شيء، ومن ثم لا يكون لله صفة غير ذاته.
وقد تفرع عن القول بنفي صفات الله مشكلة القول بخلق القرآن، وما نجم عنها من أحداث، وذلك لأن نفي صفة الكلام يقتضي ألا يكون القرآن قديمًا وإنما خلقه الله عَزَّ وَجَلَّ.
ولست هنا في مجال عرض هذه القضية الخطيرة، وتفصيل الحديث عنها، ولكني أردت بهذه الإشارة إليها أن أذكر أن للإمام محمّد رأيا فيها، وهو رأي يدل على تمسكه بما أخذ به السلف الصالح، ويدل أيضًا على مدى صلته بكتاب الله وفهمه له، وإلمامه بالقضايا التي أثيرت حوله. قال أحمد بن القاسم بن عطية: سمعت أبا سليمان الجوزجاني يقول: سمعت محمّد بن الحسن يقول: والله لا أصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق. وجاء في مقدمة أصول البزدوي عن أبي يوسف أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن ستة أشهر فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر، وصح هذا القول عن محمّد رحمه الله.
وجاء في تاريخ بغداد: ما تكلم أَبو حنيفة ولا أَبو يوسف، ولا زفر ولا محمّد ولا أحد من أصحابهم في القرآن، وإنما تكلم بشر المريسي وابن أبي دؤاد، فهؤلاء شانوا أصحاب أبي حنيفة.
وهذا النص يفيد أن خصوم أبي حنيفة وأصحابه وجدوا فيما صدر عن بعض الأحناف من آراء حول مشكلة خلق القرآن فرصة للترويج بأن أولئك قد خاضوا في هذه المشكلة، وساعد على هذا أن المعتزلةكانوا يروجون لمذهبهم عن طريق نحله لرجال ذوي مكانة وعلم وفقه.
وروي عن عبيد الله بن أبي حنيفة الدبوسي قال: سمعت محمّد بن الحسن يقول: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عَزَّ وَجَلَّ من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئًا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم صكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء.
وهذا يرد على المنقولين بأن محمَّدًا كان يدعو إلى القول بخلق القرآن، أو إلى رأي جهم في نفي الصفات، فقد كان لا يرى الخوض في الآيات والأحاديث التي جاءت في صفات الله، وكان يأخذ بها دون تفسير أو تأويل كما هو مذهب السلف الصالح.
وكما اتهم الإمام محمّد بأنه جهمي اتهم أيضًا بأنه من المرجئة، وكلمة المرجئة -كما هو معروف تاريخيًا- تطلق على طائفتين، طائفة توقفت في الحكم على الخلاف الذي وقع بين الصحابة وبخاصة أحداث الفتنة الكبرى، وترجئ هذا إلى الله سبحانه وتعالى، وطائفة ترى أن الله يعفو عن كل الذنوب ما عدا الكفر، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، والإمام محمّد من هذه الطائفة لدى من يتهمونه بالإرجاء.
ومع أنه ليست بأيدينا نصوص رويت عن الإمام محمّد ويمكن أن تدل صراحة على موقفه من المرجئة، فإن الراجح أن هذا الإمام لم يؤمن بما آمنت به هذه الفرقة، فهي بما ذهبت إليه من آراء قد فتحت أمام العصاة باب الإثم على مصراعيه، وقد جاء عن زيد بن علي بن الحسن أنه قال عن هذه الفرقة: "أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو الله". وكان الإمام محمّد من الورع والخشية لله بحيث لا يرى أن المعصية لا تضر مع الإيمان، ولذا كان في فقهه يجنح إلى الاحتياط، ويرى مقاتلة الذين يتركون السنن ويهملون شعائر الدين، فقد روي عنه أنه قال: إذا أصر أهل المصر على ترك الأذان والإقامة، أمروا بهما فإن أَبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الإصرار على ترك الفرائض والواجبات.
وقال أَبو يوسف: المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض والواجبات، فأما في السنن فيؤدبون على تركها، ليظهر الفرق بين الواجب وغير الواجب، ولكن الإمام محمَّدًا يقول: ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك.
والذي يرى مقاتلة من يصرون على إهمال السنن يرفض بلا جدال الرأي القائل بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ويربط بين الاعتقاد والعمل، وهذا يعطي أن الإيمان لديه تصديق بالقلب والجوارح، وهذا ما لا تراه المرجئة فهم يفصلون بين الإيمان والعمل، ومنهم من غالى وتطرف وذهب إلى أن من اعتقد بقلبه كان أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية وعبد الصليب ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عَزَّ وَجَلَّ.
ومن ثم فإن الإمام محمدًا لا يمكن أن يكون من المرجئة بهذا المعنى. ولعل اتهام الإمام محمّد وأمثاله من الفقهاء بالإرجاء مبعثه أن المعتزلة كانوا يطلقون كلمة مرجئي على كل من خالفهم في آرائهم ولا سيما في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة يرون أنه مخلد في النار، على حين لا يرى الفقهاء ذلك، ويقولون بل يعذب بمقدار وقد يعفو الله عنه، ويبدو أن الشهرستاني حين روى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم مرجئة السنة إنما يعني أنهم مرجئة بالمعنى الذي أطلقه عليهم المعتزلة، كما أطلقوه على غيرهم من الفقهاء.
على أن الإمام محمَّدًا فيما أرى لم يجنح إلى الاهتمام بمناقشة الفرق التي خاضت في مسائل علم الكلام، ولذا لم تنقل عنه روايات أو مؤلفات فيه، وما ينسب إليه من أنه نظم قصيدة في العقيدة فغير صحيح وفي الفصل التالي حديث عنها يثبت خطأ نسبتها إليه.
ومما يدل على أنه كان يؤثر عدم الخوض فيما أثارته تلك الفرق من مسائل العقيدة ما روي عنه أنه ذم علم الكلام، ولا شك أنه إنما ذم هؤلاء الذين أسرفوا في التأويل وخالفوا طريقة السلف في فهم عقائد الدين الحيف، لا أنه ذم هذا العلم مطلقًا.
ونقل عن محمّد أن أبا حنيفة قال: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام، قال محمّد: وكان أَبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
ولكن هل معنى هذا أن محمدًا لم يكن يعرف ما شجر بين علماء عصره من خلافات كلامية، وماذا كان موقفه من البحث في مسائل علم الكلام؟
إن حياة هذا الإمام تبرز حقيقة لا خلاف عليها وهي أنه انكب على علم الفقه يدرسه ويدارسه ويدونه وقد صرفه هذا عن الاهتمام بغير الفقه وإن كان مشهودًا له بالإمامة في الحديث والتفسير واللغة.
ولهذا أرجح أن الإمام محمدًا، لم يكن يميل بطبعه إلى البحث في المسائل الكلامية لا ضعفًا منه عن الخوض فيها، ولكن إيمانًا بأن السبيل الحق للحديث عنها، هو ما أخذ به السلف الصالح من اعتماد على آيات الله وسنة رسوله بلا شطط عقلي يدخل على عقائد الناس الزيغ والفساد أكثر مما يعصمها من ذلك، وكأنه كان يرى أن الاشتغال بالعلم يجب أن ينصب على ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، لا أن يكون مجالًا لصراع فكري لا ينجم عنه غير الانحراف أو الشك.

إن علم الفقه لدى الإمام محمّد هو الذي يحقق للناس ما ينشدون من سعادة في الدنيا والآخرة، أما ما خاضت فيه الفرق الكلامية فهو إذا تجاوز حدود ما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون تأويل مسرف مزلقة إلى الزيغ والضلال.
ومن هنا فإن الإمام محمَّدًا كان يعرف تمام المعرفة تلك الخلافات الكلامية التي عرفتها حلقات العلماء في عصره، ولكنه لم يشغل نفسه فيها كثيرًا لأن هذا جهد في غير موضعه إن لم يكن طريقًا محفوفًا بأشواك الفساد والإلحاد.
وأما موقف الإمام محمّد من علم الكلام فهو -كما يبدو مما أسلفت- يتميز بالتوقف عند ظاهر النصوص والأخذ بما كان عليه الصحابة والتابعون.
وأخيرًا لعل ما عرف به هذا الإمام من الورع والزهد كان عاملًا مساعدًا في نفوره من الخوض في مسائل علم الكلام كما خاضت الفرق المختلفة وبخاصة المعتزلة.
وكان الإمام محمّد كما قال عنه الشافعي من أفصح الناس، وكان أسلوبه يحمل ومسحة من أسلوب القرآن الكريم، فهو جزل الألفاظ، محكم النسج، مشرق الديباجة، ومن يقرأ مؤلفات هذا الإمام يلحظ أنها مزاج من الفكرة العلمية السديدة، والعبارة القوية الرصينة، ولا غرو فقد أنفق محمّد على طلب اللغة والأدب مثل ما أنفق على طلب الحديث والفقه.
ولم يكن محمّد ذا أسلوب أدبي جميل فقط، ولكنه كان أيضًا لغويًّا أصيلًا يحتج بقوله في إثبات اللغة، فقد أخذ الأصمعي وأَبو عبيدة بقوله في كثير من المواضع، وكان ثعلب يقول: محمّد عندنا حجة من أقران سيبويه، وكان قوله حجة "في اللغة".
وظهرت ثقافة محمّد اللغوية في مؤلفاته الفقهية، فقد اشتملت هذه المؤلفات على مسائل كثيرة قامت على أساس من أصول اللغة وقواعدها، وكان خلافه مع الشيخين يرجع في بعض الأحيان إلى أسباب تتصل باللغة أوثق اتصال.
ذكر ابن يعيش في شرح خطبة كتاب المفصل، أن محمدًا ضمن كتابه المعروف بالجامع الكبير في كتاب الإيمان منه مسائل فقه تبني على أصوله العربية لا تتضح إلا لمن له قدم راسخ في هذا العلم، فمن مسائله الغامضة أنه إذا قال: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضرب إلجميع عتقوا، ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر لم يعتق إلا الأول منهم، فكلام هذا الخبر مسوق على كلام النحو في هذه المسألة، وذلك من قبل أن الفعل في المسألة الأولى مسند إلى عام وهو ضمير أي، وأي كلمة عموم، وفي المسألة الثانية خاص لأن الفعل فيه مسند إلى ضمير المخاطب وهو خاص. وروى مؤلف جامع مسانيد الإمام الأعظم أن أبا بكر الرازي قال في شرح الجامع الكبير: كنت أقرأ بعض مسائل الجامع على بعض المبرزين في النحو، قيل هو أَبو علي الفارسي، فكان يتعجب من تغلغل واضع هذا الكتاب في النحو، يعني محمّد بن الحسن.
وقال ابن جني عن كتب الإمام محمّد وأثرها في علم النحو: إنما ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق.
ومن الصور الفقهية التي يرجع الاختلاف فيها بين الشيخين ومحمد إلى اللغة ما روي من أن رجلًا لو قال لآخر زنأت في الجبل، وقال عنيت الصعود فيه، فعليه الحد في قول الشيخين، ولا حد عليه في قول محمّد، لأن أهل اللغة يستعملون هذا اللفظ مهموزًا عند ذكر الجبل، ويريدون به الصعود.
وجاء في باب المضاربة من مبسوط السرخسي أن أبا يوسف يرى أنه لو قيل: على أن للمضارب شركًا في الربح، فإن للمضارب نصف الربح، لأن لفظ الشرك كالشركة يقتضي التسوية، وقال محمّد: هذه مضاربة فاسدة لأن الشرك في هذه العبارة بمعنى النصيب، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي الْسَّمَاوَاتِ}، فكأنَّه قال على أن للمضارب نصيبًا وذلك مجهول.
والواقع أن كلمة شرك في بعض استعمالاتها اللغوية تؤدي معنى الشريك، ولكن ورودها في تلك العبارة على هذه الصورة يجعل تفسيرها بمعنى النصيب أرجح من تفسيرها بمعنى الشريك، وهذا دليل على حسّ محمّد اللغوي الدقيق، وأثر هذا في فقهه.
ومحمد على إمامته في اللغة نقل عنه أنه كان يستعمل أحيانًا بعض الألفاظ غير الفصيحة لأنها شاعت على ألسنة العامة واكتسبت دلالات خاصة، فهو يستعملها ليخاطب الناس بما هو معروف عندهم ومألوف لديهم، لييسر عليهم فهم الأحكام، وهذا ما كان يحرص عليه غاية الحرص، ومن ذلك مثلًا ما ذكره السرخسي من أن أهل الأدب طعنوا على محمّد، لأنه يقول حنطة مقلية لا مقلوة، ورد السرخسي على هذا فقال: محمّد كان فصيحًا في اللغة، إلا أنه رأى استعمال هذا اللفظ في الحنطة ومقصوده بيان الأحكام لهم، فامشحمل فيه اللغة التي هي معروفة عندهم وما كان يخفى عليه هذا الفرق ...
وروي أن الإمام محمدًا استعمل بعض الألفاظ غير العربية، فقد كان يحيا في مجتمع قريب العهد بالحضارة الفارسية، ومع أن لغة الكتاب الكريم ظهرت على اللغة الفارسية في هذا الجتمع إلا أن هذه ظل لها وجودها أو وجود بعض مفرداتها - وإن أصابها شيء من التغيير أو التعريب - على ألسنة العامة، وكان استعمال هذه المفردات من باب مخاطبة الناس بما يفهمون، تقريبًا للأحكام وتسهيلًا لمعرفتها، وهذا لا يقدح في فصاحة الإمام محمّد وإمامته اللغوية.
وكما كان محمّد إمامًا في علم العربية كان مقدمًا في علم الحساب والجبر ماهرًا في التفريع على الأصول، وحسب القارئ أن يرجع إلى كتاب الأصل، أو الجامع الكبير ليرى المهارة الدقيقة في تصور المسائل وبيان أحكامها، والقدرة العلمية في حساب الأنصبة وبيان مقاديرها، وهذا يؤكد مدى ما كان يتمتع به الإمام محمّد من عقلية خصبة ذكية ذات طاقة قوية على الفرض والتصور.
ومن الأمثلة التي توشح مبلغ قدرة محمّد الحسابية ومهارته في فرض المسائل، ما ذكره في كتاب الأمالي عن الدار المشاعة بين رجلين وثالث  يدعي حقًّا له فيها سواء اعترف به أحدهما أو كلاهما، فقد أورد في دقة رائعة الصور الممكنة لهذه المسألة مع بيان نصيب كل فرد في الدار.
وخلاصة القول إن الإمام محمّدًا كان ذا شخصية سوية تعتز بكرامتها، وكان ذا عقلية عبقرية نادرة، وأنه طلب العلم لغاية مقدسة، ولم يدخر وسعًا من أجل بلوغ هذه الغاية، وأن ظروفه الاجتماعية وظروف عصره الفكرية هيأت لاستعداده الطيب للعلم فرصة الإبداع والنجاح، فحقق في عمره القصير نسبيًا ذلك المجد العلمي الرائع الدي احتل منزلة الريادة في تراثنا الفقهي والثقافة الإنسانية بوجه عام" أ. هـ.
* مذهب أهل التفويض: "ما رواه اللالكائي عن محمّد بن الحسن رحمه الله قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والآحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عَزَّ وَجَلَّ من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه. فمن فسر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء" أ. هـ.
وفاته: سنة (189 هـ) تسع وثمانين ومائة.
من مصنفاته: "الأصل"، و"الجامع الكبير"، و"النوادر" وغيرها.





مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید